كان التسليح من أبرز آمال الرئيس جمال عبد الناصر الكبرى التي لم تتحقق، وكان السبب في هذا يعود إلى إجهاضه هو نفسه (غير المتعمد وغير الواعي) لمشروعات بناء القوة بسبب حبه وولهه غير المحدود بنتائج البروباجندا والحماسة الإعلامية، وذلك على الرغم مما كان يعرفه (وما نعرفه جميعا الآن) من حقيقة أن بناء القوة يتطلب في كثير من مراحله قدرا كبيرا من الكتمان الشديد.
وعلى سبيل المثال فقد كانت مصر قد بدأت مشروعاتها القومية في مجال الصواريخ، ولو أنها سارت فيها بتؤدة لوصلت إلى ما وصلت إليه الدول الكبرى في هذا المجال وبخاصة أنها استقطبت (بحكم مناخها ومجتمعها وثروتها) خبراء كبارا ومتفوقين في هذا المجال من ألمانيا التي خرجت منهزمة من الحرب العالمية الثانية وقد قدمت المخابرات المصرية (على حسب ما رواه كثيرون منهم رئيسها الشهير رفعت جبريل) النصح المبكر للرئيس جمال عبد الناصر بالتكتم على مشروعات الصواريخ المصرية، لكنه لم يستمع إلى هذا النصح بل عمل على المباهاة بما لم يكن وصل إلى عشر مقداره من قبيل قوله بأن مصر أصبحت تمتلك صواريخ قادرة على الوصول لتل أبيب، وبالطبع فقد كان هذا الفخر الكاذب دافعا حثيثا لإسرائيل ومموليها ورعاتها كي تكثف رقابتها وهجومها وإجهاضها لأي إنجاز مصري متوقع في هذا الميدان، بدءا بقتل الخبراء أو تعقبهم وترويعهم دفعا لهم على الخروج، وقد نجحت إسرائيل من خلال برامج متعددة موظفة للإمكانات المخابراتية ولأنشطة الجاسوسية في أن تجهض كثيرا من الآثار المفيدة المتوقعة من المساعدات الفنية التي كانت مقدمة لمصر والتي كانت كفيلة بإنجاح برنامج صناعة صواريخ مصرية.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن المخابرات الإسرائيلية التي كانت تعمل ضد مصر لم تكن تعمل بإمكاناتها وحدها وإنما كانت تعمل بالإمكانات الأمريكية كلها (من دون إعلان عن هذا) فقد كانت أمريكا حريصة على ألا تظهر في الصورة حتى لا تتأذى صورتها المسالمة (أو المصادقة) عند العرب الذين يملكون منابع البترول، ويملك شبانهم الحماس الكفيل بتفجير هذه المنابع إذا ظهر استفزاز أمريكي صريح، وهكذا كانت إسرائيل تقوم لأمريكا بدورها مأجورة باضطرار، وممولة بسخاء، ومشكورة في الخفاء، ولم يكن العرب وفي مقدمتهم الرئيس جمال عبد الناصر واعين لحقيقة هذه العلاقة العضوية وأطوارها بل كانوا يتصورون في كثير من الأحيان (إن لم يكن في كل الأحيان) أن أمريكا هي الضحية البريئة للإغراءات والخداعات الإسرائيلية. بل إن بعض مفكرينا لا يزالون يؤمنون بمثل هذه النظرية التي لم تتحطم جزئيا إلا مؤخرا جدا لا بفضل كتاباتي المنبهة لها، وإنما بفضل مسلك هذا الحلف غير المقدس ممن يتزعمون ويديرون الثورة المضادة، ومن الذين وجدوا أنفسهم يخاطرون بالشعوب حتى لا تخاطر الشعوب بهم في ثورة ربيع قادمة.
وينبغي لنا أن نشير بكل صراحة إلى أن القوات المسلحة المصرية نفسها كانت تشكو وتتشكي في عهد الرئيس جمال عبد الناصر من نقص الموارد اللازمة للتسليح والتدريب والذخائر وبناء المنشئات العسكرية على حد سواء، بل قد جاهر قادة الأسلحة المهمة أو الخطرة بما فيها سلاح الطيران بمدى الحاجة الملحة إلى بناء قواعد الطائرات ومرابضها دون جدوى، ولهذا تضاعفت الخسائر في 1967 لأسباب كان يمكن توقعها وعلاجها من قبل الحرب.
وقد حدث هذا كله بالموازاة للحماس الشديد الذي كان يظهره الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر وهما يستعرضان بفخر شديد مهرجانات القوات المسلحة في الزيارات الموسمية وفي الأعياد القومية وفي العروض العسكرية التي كان بعضها يأخذ صور العروض العسكرية المتحركة حيث تتحرك القوات في الميادين والشوارع لتطمئن الجماهير أنها تعيش في حماية هذه القوة القادرة على رد أي عدوان، بل وعلى البدء بتحرير فلسطين في الوقت المناسب.
ومع هذا كله فمن الإنصاف لنظام الرئيس جمال عبد الناصر ومهارته الدعائية الفائقة أن نشير إلى أن أجهزته كانت ناجحة تماما في تغطية كل هذا القصور الفاضح بل في إعادة تشكيله وتقديمه على هيئة نجاح. بل إنك تستطيع أن تجد الآن بعد أكثر من خمسين عاما من وقوع كبرى هذه الكوارث من لا يزال يدافع عنها ويصورها زورا على أنها كانت نجاحا في نجاح.. وهذا مما لا يزال يحسب لنظام الرئيس جمال عبد الناصر من حيث قدرته الفائقة وجديته الشديدة في تقديم الفشل على أنه نجاح، كما أن نجاحه في هذا الميدان الإعلامي قد ستر كل ما قد تشخصه الدراسات التاريخية على أنه كان فشلا بينما تم ستر هذا الفشل بملكة من ملكات القيادة الدعائية المقنعة للجماهير بالباطل وكأنه حق.
وباختصار شديد فإن الإعلام الناصري أفشل التسليح العربي عبر آليات كانت تبدو وكأنها تمضي في مسارات متناقضة لكن هذه المسارات تآزرت وكأنها صممت وهندست ونفذت وتوبعت بطريقة متكاملة من أجل توكيد الفشل وترسيخه والإقناع به:
– فقد كانت المباهاة بما لا ينبغي المباهاة به من العمل الجاد من أجل بناء قوة التسليح سببا في إجهاض العدو لبناء هذه القوة وهي لا تزال في أولى مراحل البناء بدءا من اغتيال وترويع وصد وهروب الخبراء على سبيل المثال.
– ثم كانت المباهاة بما لا ينبغي المباهاة به سببا في تسريع الجهود المعادية الساعية إلى المواجهة المواتية والانتصار فيها.
– وكانت هذه المباهاة من ناحية ثالثة سببا في الشعور السرطاني بالرضا والشعور الكاذب بالفخر من خلال القبول بلغة الاستعراض.
– ثم كانت (ولا تزال) المباهاة بما لا ينبغي المباهاة به من ناحية رابعة بمثابة شعور نفسي زائف متجدد بنجاح إعلامي زائف وقوي لكنه حل بذكاء وتمكن في محل ما كان مطلوبا من نجاح عسكري أو إنتاجي.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا