عمل مع الملك فاروق ما بين 1936 و1952 عشرة رؤساء للوزارة، أربعة منهم كانوا قد وصلوا إلى رئاسة الوزارة في عهد الملك فؤاد (النحاس باشا ومحمد محمود باشا وعلى ماهر باشا وإسماعيل صدقي باشا) وستة آخرون كانت أول علاقتهم بالمنصب في عهده. وربما كانت إحدى الطرق الذكية في فهم شخصية الملك فاروق أو غيره من الحكام أن نتأمل علاقة الحاكم بالساسة الذين تولوا رئاسة الوزراء في عهده بادئين بمن تولوا الوزارة على يديه أو باختياره.
حسن صبري باشا
حسن صبري باشا هو أول هؤلاء الذين انتقاهم الملك فاروق وهو أيضا أول هؤلاء الذين ماتوا فجأة وهم في منصبهم الكبير في عهده ، والشائع أن الإنجليز هم الذين اختاروه أو فضلوه على غيره، وربما أن الملك فاروق هو الذي اختاره لأنه وجد أنه قادر بحكم الثقة على أن يقنع الإنجليز بالسياسات الفاروقية أو بالتوجهات الفاروقية، لكن هذا الرجل عانى من الملك فاروق معاناة شديدة حتى راجت القصة التي بلورت تعطشه إلى أن يحصل من الملك على الثقة والتكريم متمثلا في الوشاح الذي يستحقه كرئيس للوزراء، وقد أكد هذا المعنى أنه توفي بأزمة قلبية مفاجئة في اليوم الذي كان من المفروض أن يسعد فيه بالحصول على هذا الوشاح في بعد إلقائه لخطبة العرش حفل افتتاح البرلمان 1940.
كنت أضرب المثل في محاضرات طب القلب لتدرج وتدهور حالات هبوط القلب يوما بعد آخر بما حدث في حالة حسن صبري باشا مستعينا نص بديع سجله أحد وزرائه وهو الدكتور هيكل باشا واصفا الحالة بدقة.
أحمد ماهر باشا
كان أحمد ماهر باشا هو ثالث الساسة الذين وصلوا إلى رئاسة الوزارة 1944على يد الملك فاروق مع أنه كان مرشحًا منذ مرحلة مبكرة ليكون أولهم بعد انشقاقه المدبر والصارخ وذي الضجيج على الوفد والنحاس باشا في 1937.
وعلى الرغم من طول انتظار أحمد ماهر وتشوقه لهذا التتويج فإنه بحماسه المعهود سرعان ما فقد منصبه بالقتل في فبراير 1945 في البرلمان وهو يعلن قرار دخول مصر الحرب العالمية بعد وضعها أوزارها، ولم يكن مقتل أحمد ماهر بسبب دخوله الحرب فحسب ولم يكن إعلانه هذا الدخول ردًّا لاعتباره وهو الذي نادى به منذ خمس سنوات، وإنما كان الجو الذي أحاط بمشهد القتل الذي أنهى هذه الدراما تعبيرًا غير مباشر عن أن العلاقة بين الملك ورئيس الوزراء الجديد لم تكن كما تصورها المراقبون وأنها مضت شأن العلاقات الأخرى خاضعة لكل ظروف وتوقيتات العلاقة بين فاروق وهؤلاء الساسة الذين كانوا يكبرونه بأكثر من ثلاثين عامًا.
النقراشي باشا
كانت علاقة النقراشي باشا بالملك فاروق نموذجًا للقصة الإنسانية المكتملة، فقد بدأت العلاقة وكأنها مفاجئة (بينما لم تكن في الغالب كذلك) حين قتل أحمد ماهر وتولى النقراشي باشا رئاسة الوزارة خلفا له كما تولاه في الهيئة السعدية، لكن النقراشي باشا استطاع أن يبقى في موقعه طيلة ما يقرب من عام كامل (بدءا من فبراير 1945) في ظروف معقدة، وقد بدا أن الملك فاروق وجد فيه ضالته أخيرًا، فقد كان النقراشي باشا فيما يبدو يشرح للملك البدائل ثم يقول له إن الأمر له، ثم لا يباهي بآرائه هو. وهكذا وجد الملك الراحة مع النقراشي باشا لكن مجتمع السياسة الحي لم يكن يجد نفس القدر من الراحة مع النقراشي باشا. هكذا أصبح النقراشي باشا من حيث لم يرد نموذجًا لرئيس الوزراء الملكي تمامًا، وهكذا أيضا واجه النقراشي باشا حركات الطلاب والشباب والراديكاليين بغير ما كان يتوقعه الناس من زعيم كان في شبابه ثائرًا إلى الحد الذي جعل رقبته تقترب من المفصلة.
وهكذا فإن النقراشي باشا رغم كل شيء اضطر للاستقالة في فبراير 1946، ولجأ الملك إلى تكليف خلف له هو صدقي باشا الذي بقي حتى ديسمبر 1946 حين أصبح النقراشي باشا نفسه متهيئا للعودة بنمط جديد من الخبرة القادرة على إرضاء الساسة وإرضاء الملكية في الوقت نفسه، وهكذا قضى النقراشي باشا مع الملك سنتين في أطول وزارة لزعيم أقلية (ديسمبر 1946 – ديسمبر 1948)، وقد بات الملك مستريحًا إلى النقراشي باشا كرجل تنفيذي من طراز رؤساء الوزراء التنفيذيين الذين عرفناهم فيما بعد في عهود العسكر لكن الملك فاروق كان يدرك بالحاسة الملكية أن النقراشي باشا يفتقد إلى الزعامة الحقيقية والكبرى التي يمثلها النحاس باشا، ولهذا فإن الملك في ظل نضجه بدأ يحسب حسابات فطرية ذكية تتمثل في أن يكمل بنفسه هو وبطريقته الجسورة بعض ما كانت تفتقده شخصية النقراشي باشا من مقومات سعة الاطلاع ومن إجادة وزن الأمور.
وبهذا المنطق كان الملك مشاركًا بصفة أو أخرى في إدخال عبد الحميد بدوي إلى وزارة النقراشي باشا، كما أنه هو الذي قرر من دون أن يشاور النقراشي باشا أن يختار إبراهيم عبد الهادي باشا (الذي هو نائب النقراشي باشا في رئاسة الهيئة السعدية) ليكون رئيسًا للديوان الملكي. وفي هذه الفترة كان الملك يمارس كثيرًا من صلاحيات رئيس الوزراء بنفسه، ومن ذلك ما نعرفه عن تدخله في أمور جوائز الدولة والجامعة والتعليم… إلخ) لكن الملك ترك النقراشي باشا بدون الحماية الكافية في مواجهاته مع جماعة الإخوان المسلمين التي تمت بناء على طلب الغرب (الأمريكان من وراء ستار البريطانيين) وذلك على الرغم من أن الملك كان أدرى بخباثات الأمريكان من دراية النقراشي باشا نفسه، وهكذا ترك الملك النقراشي باشا يدفع ثمن اندفاعه في معاملة الإخوان على نحو ما ترك أحمد ماهر باشا يدفع ثمن اندفاعه في إعلان الحرب والموقف منها.
وكان الثمن في حياة الرجلين هو حياتهما نفسيهما. ولم يتعطف الملك فاروق على أي من الرجلين باللقب الذي يرفع اسميهما إلى صاحب المقام الرفيع ليكونا مثل على ماهر باشا أو محمد محمود باشا. ومع هذا فإن مقتل النقراشي باشا (من بعد مقتل أحمد ماهر) طبع نفسية الملك فاروق بقدر من السواد الحقيقي الذي أسهم مع الزمن في حمله على التخلي عن العرش مع ما اقترن به هذا التنازل من حكمة ورضا وذكاء.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا