كان صعود الدولة العثمانية في عصر السلطان سليم الأول 1512- 1520 وابنه سليمان القانوني 1520- 1566بمثابة أكبر تحد فكري وثقافي فرض نفسه على ملوك أوربا المثقفين أو المولعين بالثقافة وذلك على نحو ما كان أكبر تحد استراتيجي فرض نفسه على ملوكها المتعصبين والاستعماريين. والقارئ لقصة حياة هنري الثامن (1491 ـ 1547) الذي حكم بلاده ما بين 1509 و1547 (ولتعاقب حياة ذريته من بعده) يدرك هذا المعنى بكل وضوح وإن كان الغربيون لا يتناولون تاريخه من هذه الزاوية أبدا، والسبب مفهوم بالطبع.
وقد بلغ تأثر هنري الثامن بما كانت المقارنات مع المجتمع العثماني تتيحه له من التفكير أنه وجد ضرورة قصوى في أن يتحرر من الكاثوليكية وأن يستقل بالكنيسة الإنجليزية، ويبدو بوضوح أنه لو كان قد وجد من يصوغ له إطارا فكريا لمذهب مسيحي جديد لجعل الكنيسة الإنجليزية منبعا لهذا المذهب لكنه على كل حال حول كنيسته الوطنية لتكون كنيسة إنجليزية بروتستانتية وذلك بأن فصل كنيسة إنجلترا عن سُلطة الباباوية، ولم يقف عند هذا الحد وإنما حلّ الأديرة وعيٌن نفسه رئيسا لكنيسة إنجلترا، وإن ظل مع هذا كله في نظر بعض المؤرخين مُرتبطا بالتعاليم الكاثوليكية، ومن ثم فإنه يمكن اعتباره بمثابة المسئول الحقيقي عن تمذهب أمريكا نفسها (ومن تبعها) بالبروتستانتية وذلك على الرغم من أن ابنته الكبرى الملكة ماري حاولت العودة ببريطانيا إلى الكاثوليكية.
وعلى الصعيد السياسي فإنه هو الذي أتمٌ اتحاد إنجلترا وويلز، ومن الطريف أيضا أنه حارب الملك جيمس الرابع (1473 ـ 1513) ملك إسكتلندا الذي كان ملكا لإسكتلندا منذ 1488 مع أنه كان زوج أخته هو، وقد انتصر جيشه على زوج أخته في معركة 1513 التي قُتل فيها زوج أخته عن أربعين عاما، وقد قادت جيشه في هذه المعركة زوجته الأولى كاثرين الإسبانية ابنة الملكين إيزابيلا وفيرناندو.
بالإضافة لهذا كله خاض الملك هنري الثامن معارك فكرية وشخصية متعددة وصل فيها إلى معضلات وإشكاليات حرجة دفعته إلى أن يعدم فيها (من دون أي قدر من الرحمة) كثيرا من أقربائه وأنسبائه ووزرائه ومستشاريه ومفكريه وشعبه، ولو أنه كان قد درس الدين الإسلامي دراسة منهجية لكان قد انتفع بكثير من مقارباته الفقهية والفلسفية وعبر بسلام كثيرا من هذه المشكلات الضخمة التي قابلته وليس كلها بالطبع، ويكفي لتصوير حجم بعض هذه المشكلات أن نشير على القارئ بقراءة مسرحية شكسبير التي تحمل اسم هنري الثامن كما يكفي لتصوير حجم بعض هذه المشكلات أن نذكر أنه أعدم زوجتيه الثانية والخامسة رغم ما كان بينه وبينهما من حب، كما يكفي لتصوير حجم بعض هذه المشكلات أن نذكر أنه استن قانونا جعل فيه ابنتيه من زوجتيه الأولى والثانية بمثابة ابنتين غير شرعيتين ثم عاد قبيل وفاته فاعتبرهما شرعيتين، وقد قدر لابنته من زوجته الأولى أن تكون بمثابة ثاني خلفائه بعد ابنه من زوجته الثالثة.
كان هنري الثامن هو ملك إنجلترا وإيرلندا المُعاصر لثلاثة أقطاب مؤثرين في تاريخ الإنسانية : سليمان القانوني وفرنسوا الأول الذين كانا يصغرانه بثلاثة أعوام وكارلوس الخامس الذي كان يصغره بتسعة أعوام ، وكان هو نفسه زوجا لكاثرين 1485- 1535 خالة كارلوس الصغرى (هو زوجها الثاني بعد أخيه إدوار الذي توفي وهو ولي للعهد)، لكنه على سبيل الإجمال ورغم معاركه لم يكن له انغماس كبير في شرور الحروب والتعصٌب مثل كارلوس، وإن كان قد طالب بحقه في مُلك فرنسا، وقد انضوى منذ 1511 في التحالف المُقدٌس ضد فرنسا الذي لم ينقذ فرنسا فيه إلا تحالفها مع العثمانيين.
ومن الطريف أن هنري الثامن كان معنيا بالفنون والثقافة مثل سليمان القانوني ومثل فرنسوا الأول كما كان شغوفا بالتأليف الموسيقي وبتأليف الشعر، وبعلوم العقيدة مثل كارلوس وذلك رغم عنايته بالميسر وحبه للقمار. ربما نعرف أيضا أن هنري الثامن هو الذي أعدم المُفكر البريطاني العبقري توماس مور المعروف بلقب رجل لكل العصور وقد أعدمه لأنه لم يوافق على طلاق الملك نفسه من الملكة كاثرين بل إنه استقال من منصبه كوزير للعدل (1532) لهذا السبب بعدما كان قد عُيٌن فيه (1529). ونعرف أيضا أن زوجته كاثرين ماتت 1536 عن 51 عاما. بعدما شهدت زواج الملك رسميا من خمس زوجات تاليات لها، وقد كان هنري الثامن أول ملك بريطاني يتزوج 6 مرات وذلك لأنه ظل يتمنى أن يخلفه ذكر من أبنائه هو نفسه فلما رزق بالذكر من زوجته الثالثة اشتاق إلى أكثر من ذكر.
وقد بدأ زيجاته بمشكلة كهنوتية كبيرة اقترنت بزواجه من أولى زوجاته الأميرة كاثرين (ابنة الملكين المتعصبين إيزابيلا وفيرناندو وإليزابيث)، وكان مشروع هذه الزيجة بمثابة مُشكلة دينية وكنسية كبيرة لأنها كانت أرملة أخيه، وذلك لوجود نص ديني صريح يُحرٌم هذا الزواج، ولهذا فقد كان الحل الذي استغرق الوصول إليه أكثر من سنة أن أقسمت كاثرين ابنة إيزابيلا أن زواجها من الأمير آرثر شقيق هنري الثامن لم يكتمل!! وجاء هذا الحل استجابة لإلحاح أمها الملكة إيزابيلا الشديد على البابا بيوليوس الثاني لإتمام الزواج حتى إن هذا البابا في النهاية أصدر مرسوما بابويا يتضمٌنُ ما سمي بالإعفاء البابوي.
ومع هذا فإن هنري الثامن نفسه فيما بعد (وهذه هي المفارقة) أعلن أن هذه الزيجة تم ترتيبها بدون موافقته، كما أن أباه هنري السابع تراجع عن فكرته في الحلف مع إسبانيا، لكن الملكة إيزابيلا بتعصٌبها وطموحاتها التوسعية ظلٌت تدفع الجميع إلى إتمام الزواج فلٌما أتمٌ هنري السابعة عشرة من عمره عقب وفاة أبيه تم الزواج في يونيو 1509 وتم تتويج الملك وزوجته بعد أسبوعين، وهكذا ظنت إيزابيلا أن عرش بريطانيا سيكون بيد ابنتها إلى أن انقلبت الأمور على أعقابها على نحو ما نعرف.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا