الرئيسية / المكتبة الصحفية / الشيخ الدمرداش الذي تبرع بكلية طب عظيمة

الشيخ الدمرداش الذي تبرع بكلية طب عظيمة

في 1929 توفي أبرز رجال الطرق الصوفية المصريين في عصره وهو الشيخ عبد الرحيم الدمرداش عن ثماني وسبعين سنة فاحتفل بجنازته احتفالا كبيرا يليق بنائب وعضو برلمانات وباشا وشيخ طريقة، وقد كان بالإضافة إلى انتمائه لطبقة الباشوات وكبار الساسة يعامل عند البريطانيين بما يعامل به أعظم ما يمكن لأجنبي أن يعامل به، وكان يحظى بما يعامل به من نال أعظم ألقاب الشرف الإنجليزية وهو لقب السير Sir، ودفن هذا الشيخ في قبر أعده لنفسه ولا يزال قائما حتى الآن في حرم مستشفى الدمرداش الذي أنشأه، ووقفه لأعمال البر وعلاج المرضى.

 

من العجيب أن ذلك العام شهد إنشاء مستشفى قصر العيني الجديد المعروف باسم مستشفى المنيل الجامعي والذي هو مستشفى كلية الطب الأولى في العاصمة المصرية، ولما كان التطور الاجتماعي يقتضى إنشاء كلية طب ثانية في العاصمة فإن هذه الكلية الثانية حين بزغت إلى طور الوجود أنشئت في رحاب مستشفى الدمرداش، وعرفت بهذا الاسم قبل أن تتأسس جامعة عين شمس التي ضمتها، فقد كان هذا المستشفى أنسب مؤسسة علاجية متميزة ومتاحة لهذه الوظيفة الجامعية، وكان المؤسس الشيخ عبد الرحيم الدمرداش قد بناه وأوقفه وأباحه لبني الإنسان من جميع الأديان، واشترط على الحكومة المصرية حين أهداه لها أن تستبقي مديره الإنجليزي، ويكفي لتصوير عظمة هذا المستشفى أن نشير إلى أنه لايزال على نحو ما أنشئ يمثل المستشفى الرئيسي أو النواة أو الأيقونة لكيانات كلية طب عين شمس الضخمة والمترامية الأطراف والتي أصبحت مع الزمن من أبرز كليات الطب في العالم العربي.

 

أما الأمر التاريخي البارز في سيرة حياة الشيخ الدمرداش فهو أنه كان يمارس السياسة على نطاق واسع، وكان معروفا بقربه الحميم من الإنجليز عقليا وسياسيا حتى إنه كان في نظرهم بمثابة النموذج المفضل لرجل الدين، ورجل السياسة، وقد نال كل الدعم والتكريم المتاح من البريطانيين، ولم يكن هذا بكثير على رجل كان يجاهر برأيه العميق في أن مصلحة المصريين تكمن في مصادقة البريطانيين مصادقة تامة. وكان يعتقد في صواب هذه الرؤية بصفة مطلقة، وبالإضافة إلى هذا فإنه في مستوي البرلمانات والعمل التشريعي والسياسي كان الشيخ الدمرداش عضوا في مجلس شورى القوانين، وعضوا في الجمعية العمومية.

أما على مستوي الذرية فقد اشتهرت ابنته السيدة قوت القلوب الدمرداشية بميولها الأدبية، وبدعمها لجهود الأدباء والصحفيين، وعلاقاتها الوثيقة بهم، وبتنميتها لثروتها وبوفائها لذكرى والدها إلى حد كبير وربما نتناول هذا إن شاء الله عن قريب. أما مكانته الصوفية فيلخصها أنه هو شيخ الطريقة الدمرداشية الأشهر بمصر، إذ دامت مشيخته لأكثر نصف قرن. وقد كان والده الشيخ مصطفي من شيوخ التصوف، أما جده فهو البكباشي صالح بك الجركسي الأصل.

  

ولد الشيخ عبد الرحيم الدمرداش بالقاهرة ونشأ بها، وتلقي تعليما دينيا تقليديا بدأه في أحد الكتاتيب حيث حفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالأزهر الشريف، وتتلمذ للشيخ عبد الرحمن الرافعي الحنفي، والشيخ عبد المعطي الخليلي، وأخذ التصوف عن والده، وصاحب كثيرا من العلماء، وجالسهم، وانتفع بعلمهم كثيرا، وكان منهم من يناظرونه في السن كالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الكريم سلمان، ومن يصغرونه كالشيخ محمد مصطفي المراغي شيخ الأزهر.

   

وعرف عنه حبه للثقافة التاريخية والجغرافية والثقافة العامة على وجه مشهور ، وعندما توفي والده عين شيخا للسادة الدمرداشية، وكان لا يزال في الرابعة والعشرين سنة، وهكذا فإنه استمر في هذه المشيخة أكثر من نصف قرن، فأتاحت له شخصيته المتميزة المثقفة واستمراره في هذا الموقع منذ شبابه دورا صوفيا واجتماعياً وسياسياً كبيرا في مجتمعه، وأتيح له أن يصبح علما على رجال التصوف في عصره حتى قيل إنه نهض بالطريقة التي رأسها نهضة لم يسبقه إليها شيخ طريقة قبله، وأصبحت الطريقة الدمرداشية على مستوي العضوية تضم كثيرا من العلماء، والوزراء، والأعيان، وكبار الموظفين.

  

ويذكر له أنه جدد الزاوية الدمرداشية وجعلها مسجدا كبيرا، وزاد في عدد الخلوات المعدة لاختلاء الدمرداشيين، ومن الجدير بالذكر أن الطريقة الدمرداشية تكاد تتميز بنظام رياضي وروحاني خاص وصعب، لكنه على كل حال يهيئ لها من أتباعها قوة بشرية قادرة، وعلي سبيل المثال فإن على كل عضو في هذه الطريقة أن يواظب على الليالي التي تقيمها في مسجد الدمرداش مساء كل خميس حيث يقيمون شعائرهم الدينية، ويبتهلون إلى السماء بدعائهم تحت قبة المسجد مدة لا تقل عن سنتين، وبعدها ينظر أحد النقباء في أمره، ويتأكد بنفسه من سيره، فإن وجده طيبا مرضيا قيد اسمه ضمن لائحة المرشحين لنيل العهود من الزعيم الأكبر، والعهود لا تمنح إلا في ليالي الخميس من شهر رمضان.

   

ويذكر أن لهم سبحة خاصة لا ينالها إلا المقربون، ويبلغ عدد حباتها مائة حبة، وأما الخلوة فهي عندهم مكان مقدس، لا تزيد سعة الواحدة منها على مترين، ويدخلها المريد في أول يوم الاثنين من شهر رمضان، ولا يغادرها إلا في ليلة الخميس التالية، ولا يأكل في الخلوة إلا الأرز والسكر والقهوة، ولهم تقاليد عند الوفاة، وهي أنهم إذا فجعوا بوفاة واحد منهم يسرعون إلى بيته ويحتلون مقدمة المشهد، ويقولون في سير الجنازة نغمات خاصة هي: «هوه لا إله إلا الله» مرارا وتكرارا حتى يصلوا إلى المقبرة.

   

ظل الشيخ الدمرداش وجها من وجوه المجتمع المصري في عصره، وكان كثير الأصحاب والمعارف، وكان قادرا على أن يستزيد في هذا الميدان، وعلى مستوي الصفات الشخصية كان جميل الحديث والهندام، وكان يميل إلى الفكاهة، وكان يعتمد على نفسه في جميع أعماله، وقد نمي ثروته إلى الحد الذي رفع به شأن بيته الكريم، وعد من كبار رجال المال في عصره. وكان يقرأ ورده في فجر كل يوم، وكان مواظبا على إحياء الحضرات كل أسبوع، وعلى إقامة المولد في كل عام، واستمرت مدة مشيخته للطريقة أربعا وخمسين سنة.

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com