عاش الخديو عباس حلمي الثاني سبعين عاما كاملة 1874- 1944 لكن الثلاثين الأخيرة منها 1914- 1944 كانت في المنفى فقد توفي بعد ثلاثين عاما بالضبط من ذلك اليوم الذي عزله فيه البريطانيون بالقوة عن عرش مصر بعد أن حكم مصر 22عاما ما بين 1892 و1914 وكان قد تولى العرش مبكرا بسبب الوفاة المفاجئة لوالده الخديو توفيق الذي توفي عن أربعين عاما فقط. وقد نودي به بينما كان جده الخديو إسماعيل لا يزال على قيد الحياة في المنفى، وتوفي جده بعد ثلاث سنوات من توليه 1895.
ومن الطريف أن الحاكمين اللذين خلفاه على عرش مصر وهما السلطان حسين كامل 1853- 1917 والملك فؤاد 1868- 1936 كانا من أعمامه وكان أولهما يكبره بواحد وعشرين عاما إذ كان أصغر من والده بعام واحد فقط وكان ثانيهما يكبره بستة أعوام فقط، وقد توفيا قبله، وقد قدر لهما بالفعل أن يعملا بالفعل تحت رئاسته من دون أي حرج.
كان الخديو عباس حلمي الثاني أبرز نموذج في التاريخ المصري الحديث للحاكم الذي تتصادف التحولات السياسية الكبرى وتتابع في حياته من دون توقع، وفي حالته فقد كانت تلك التحولات ظاهرية أكثر منها جوهرية بل يمكن القول بأنها كانت تحالفات أكثر منها تحولات.. ولعل هذا هو السبب في أن الأحكام التي تقدمها أدبياتنا التاريخية عن هذا الخديو وعصره تحفل بالتناقض حين تحاول التعميم بينما التعميم غير ممكن، كما تحفل بالالتباس حين تحاول رسم خط لعلاقاته بينما كان المسار موجيا كموجات المد والجزر المتكررة.
وببساطة شديدة فإنه يمكن لنا القول بصعوبة الحكم على سياسات الخديو عباس وتاريخه ما لم ننتبه إلى التقلب الذي شهدته هذه السياسات في ستة محاور، وهو ما لم يحدث بهذه الدرجة مع أحد من سابقيه أو لاحقيه. ففي الصعيد الأول بدأ الخديو عباس حلمي عهده بمناوئة البريطانيين وبمناوئة البريطانيين له، وكان هذا على يد المعتمد البريطاني العتيد اللورد كرومر (في 1883) أي بعد عام من اعتلائه العرش وفيما بعد سنوات من التشاحن المستمر مع كرومر الذي ظل 24 عاما معتمدا بريطانيا من 1883 وحتى 1907 فإنه ارتبط بعلاقة جيدة مع خلفه جورست الذي شغل منصب المعتمد (1907 ـ 1911) فلما توفي جورست وخلفه كتشنر في منصب المعتمد (1911ـ 1914) عادت علاقة الخديو مع البريطانيين إلى السوء، وهكذا كانت علاقاته ببريطانيا مرآة صادقة لعلاقاته بممثلي بريطانيا في مصر، وليس العكس، أقصد أن أقول إنها كانت مرآة أكثر من تكون سببا، وبوسع القارئ فهم كثير من الحوادث والخلافات في هذا الإطار.
وعلى صعيد ثان فقد كان من المفترض أن تكون علاقة الخديو عباس حلمي بالدولة العثمانية أقوى مما كانت عليه بكثير فقد كان هو الحاكم الوحيد من أسرة محمد على الذي يرتبط برابطة قرابة الدم بالأسرة العثمانية لكنه مع هذا لم يستطع تنمية هذه العلاقة ولا توظيفها على نحو أفضل مما حدث من اضطراب في هذه العلاقة بسبب تعاقب الظروف السياسية التي كانت تفاجئه دون أن يكون مستعدا لها فضلا عن أن يكون مستبقا لها ولعل هذا يظهر بصورة جلية في موقفه الغامض من استيلاء الاتحاديين على الحكم 1908 وعزل السلطان عبد الحميد الثاني 1909.
على صعيد ثالث فلربما جاز لنا القول إن والده أي الخديو توفيق جنى عليه من حيث لا يدري حين ربط تكوينه الثقافي والعلمي والحضاري بدولة مستقلة قُدّر لها أن تزول إمبراطوريتها وهي دولة النمسا، حيث تعلّم الخديو عباس حلمي في فيينا، وبلغة لم تكن من اللغتين المؤثرتين في البلاطات الأوروبية وهي اللغة الألمانية في عصر سيادة اللغتين البريطانية والفرنسية، ولو أن الخديو عباس حلمي كان قد درس في لندن أو في باريس لكان له من معرفة الزملاء هناك وهنالك ومن معرفة المؤسسات البريطانية والفرنسية ما كان كفيلا بأن يساعده بقدر أكثر في إمضاء سياساته وتحقيق طموحاته وبصفة خاصة بعد عزله من الحكم لكنه ظل أسير البيئة شبه المنغلقة التي عاشها في فيينا، ومن الطريف أن مما يُؤكّد هذا المعنى أن الخديو عباس حلمي نفسه كان قد أفاد من التقارب الذي حدث بينه وبين أمير ويلز (الملك إدوارد السابع فيما بعد) والذي تولى حكم بريطانيا (1900 ـ 1910) بعد والدته الملكة فكتوريا، حيث قُدّر له بسبب هذه العلاقة أن يتعامل مع البريطانيين بروح أكثر وُدّا في مطلع القرن العشرين.
على صعيد رابع فقد كانت علاقة الخديو عباس حلمي بالحركة الوطنية والتي تبلورت في علاقته بالزعيم الوطني مصطفى كامل وجماعته مجالا أوسع مدى للتحولات أو التحالفات المتناقضة، فقد بدأت هذه العلاقة بتحالف وثيق وصل إلى حد مشاركة الطرفين في تكوين جمعية سرية ضد البريطانيين وظل الأمر كذلك حتى تم توقيع الوفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا 1902 فاضطر الخديو عباس نفسه إلى التباعد عن الحزب الوطني مع الحرص (مرحليا) على التواصل مع زعمائه ثم إذا به يمضي إلى الشقاق التام مع بدء عهد وزارة بطرس غالي في 1908 فينقطع هذا التواصل، وينقلب على هذا الحزب بل يُصدر قانون المطبوعات الذي يمثل بلغة عصرنا ما يُوازي تقييد حرية التعبير، وذلك بعد أن اطمئن إلى أن صداقته مع المعتمد البريطاني جورست (1907 ـ 1911) كفيلة بأن تمكنه من الاستمرار في منصبه وتنفيذ مشروعاته وتحقيق طموحاته.. لكنه على كل حال فوجئ بوفاته المبكّرة ثم إذا هو يُفاجأ بأن الجمعية التشريعية التي تم انتخابها في 1913 قد جلبت له معارضة وطنية جديدة أقوى مما كان يجده في معارضة الحزب الوطني له، وإن جاءت الظروف بما لم يكن في الحسبان حيث لم يتح الاستمرار له ولا لهذه المعارضة الجديدة بسبب قيام الحرب العالمية الأولى وبسبب عزله هو نفسه من منصبه.
من الجدير بالذكر أنه أصدر عفوا عن عرابي وسمح له بالعودة إلى مصر ومنحه راتبا شهريا حتى وفاته لكنه لم يرد له أملاكه ولا اعتباره لا له ولا لأسرته الكبيرة. على صعيد خامس فقد مرّ الخديو عباس حلمي بعلاقات متبدلة ومتقلبة مع جمعية الاتحاد والترقي التركية وحزبها وانقلابها العسكري بمرحلتيه 1908/1909 حتى قيل إن محاولة اغتياله في إسطنبول في 1914 تمت على يد “مخبول” ينتمي إلى هذه الجماعة، لكن الطريف أن الخديو عباس حلمي مع قيام الحرب العالمية الأولى تصالح مع الاتحاديين في ذات الوقت الذي تصالح فيه مع عدد من الوطنيين المصريين الذين كانوا قد أقاموا في إسطنبول هاربين من سطوته هو نفسه في مصر.
وعلى صعيد سادس فإن علاقته بألمانيا في الحرب العالمية الأولى لم تكن خالصة الولاء على حد التعبير العربي فقد كان الألمان على سبيل المثال يعرفون أنه ظل يتفاوض مع البريطانيين حول ممتلكاته في مصر ودخله منها، ومحاولة نقل العرش إلى ابنه الأمير محمد عبد المنعم… الخ وهكذا فإنه ببساطة شديدة يصدق عليه الوصف القائل إنه كان يتباعد عن الألمان حين يجد قبولا من البريطانيين، ويعود إلى الألمان حين يختلف مع البريطانيين. وليس سرا أن البريطانيين طرحوا اسمه في وقت من الأوقات لتولى عرش سوريا.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا