الرئيسية / المكتبة الصحفية / هل أضاعت ثورة يوليو أفضل الفرص للتسليح العربي؟

هل أضاعت ثورة يوليو أفضل الفرص للتسليح العربي؟

كان التحدي الأكبر الذي واجه ثورة 23 يوليو ولم يستطع كيانها أن يثبت نجاحا فيه هو السلاح، وقد كانت مشكلة مصر مع السلاح قد بدأت في الظهور في أعقاب الحرب العالمية الثانية حين بدأت أمريكا بنعومة شديدة وخبيثة السيطرة على تسليح الدول تحت دعوى القول بأنها تفعل هذا منعا لظهور هتلر جديد أو ألمانيا جديدة أو يابان جديدة، وليس معنى هذا أن مصر في 1955 مثلا كانت قادرة على أن تكون ألمانيا الهتلرية في 1928 لكن أمريكا كانت تتحسب لكل شاردة وواردة في هذا الميدان بما عرف عنها من سياسات الحذر المستقبلي التي مكنتها من أن تحصد لنفسها وحدها مكاسب الحربين العالميتين الأولى والثانية.

  

وقد كان من الطبيعي أن تتصدى وزارة الوفد الأخيرة في 1950 لقضية تسليح مصر بكل جدية وحزم، وبهذه الجدية وهذا الحزم تمكنت مصر من بعض السلاح ومن بعض التسليح لكنهما تمكنت مما هو أكثر فائدة وهو إدراك حقيقة ما كان يحاك لمصر ولجيران الكيان الصهيوني من منع التسلح والتسليح، وهكذا وجدت وزارة الوفد نفسها ووجدت مصر نفسها معها متجهة بالجبر والاختيار معا إلى بدء سياسة الاعتماد على النفس في التسليح، وهكذا ظهر مفهوم مصانع السلاح المصرية أو المصانع الحربية المصرية وخطت مصر خطوات واثقة في هذا السبيل قبل قيام ثورة 1952 وان كانت الدعايات الناصرية قد تعمدت إخفاء الحديث عن هذه الإنجازات وتصوير التصنيع الحربي وكأنه إنجاز ناصري بينما الحقيقة عكس ذلك. ومن الجدير بالذكر أن علي صبري كان قد ذهب على رأس وفد رسمي إلى أمريكا من أجل التسليح لكنهم عادوا لمصر وهم يقولون بكل وضوح إنهم اكتشفوا وسمعوا وأخبروا وأخطروا صراحة بأمريكا لن تسلح مصر، وربما لن تسمح بتسليحها.

مع هذا فإنه فلما أصبح الحكم بعد الثورة في يد الضباط وأصبح عبد اللطيف البغدادي وزيرا للحربية في يونيو 1953 بدأ الحماس المصري المعهود في طبقة الشباب (كضباط الثورة) للفخر بالعمل الصامت بدلا من التكتم عليه، وهكذا عرف المصريون أن مهندسا عسكريا بارزا هو المهندس حسن رجب ( مؤسس القرية الفرعونية فيما بعد) أصبح وكيلا لوزارة الحربية لشئون المصانع الحربية، ووجدت الثورة منحا إلهية غير محدودة متاحة بالمصادفة أمامها تتمثل في خبراء التسليح الألمان الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية بلا عمل وبلا وظائف وبلا مصانع.

 

 ولو أن سياسة الرئيس عبد الناصر نهجت نهجا كتوما ودؤوبا وجادا لاستطاع أن يقيم في مصر صناعة حربية متقدمة على يد هؤلاء الخبراء الذين أحبوا مصر وجو مصر وأهل مصر، ولكانت قد نشأت صناعة عسكرية حقيقية (وليست رمزية) قادرة على المنافسة العالمية بفضل ما هو متاح في مصر في ذلك الوقت من طبقة متعلمة ومتأهلة على مستوى الهندسة وعلى مستوى التكنولوجيا فضلا عن الطبقة العاملة والخبرة المميزة وفضلا عن مناخ العمل وعلاقات العمل المنضبطة.. الخ وفضلا عن توافر التمويل وتوافر السوق العربية المحيطة بمصر. لكن الرئيس عبد الناصر استسهل وفضل الفخر والمباهاة بصناعة صواريخ لم يصنعها واستسهل البروباجندا الزاعقة والزائفة، وكانت النتيجة كارثية بالطبع.

 

وهكذا فإننا نستطيع أن نفهم أن العرض السوفييتي لصفقة السلاح التشيكية ربما كان هبة من السماء للرئيس عبد الناصر وربما كان علاجا سهلا أضاع فرصة العلاج الحقيقي لكننا نستطيع أن نفهم أيضا أن الرئيس عبد الناصر لم يكن بعيد النظر بما فيه الكفاية ليطلب نوعا من التصنيع المشترك للسلاح على أرض مصر وليس شرطا أن يمتد هذا التسليح ليشمل كل شيء على نحو ما كان الخطاب الناصري يتحدث عن المدى الكامل من الإبرة للصاروخ ولكن كان من الممكن أن تركز مصر على نوع واحد من السلاح تحقق تفوقا فيه وتتبادله مع منتجي بقية الأسلحة.

 

ومما يؤسف له أن الأمور مضت عاما وراء عام وقد أصبحت مصر بعيدة عن الدخول إلى قلب سياسات التصنيع العسكري مكتفية بالوجود على هامش صغير أو ضيق لهذه الصناعات. على أن صفقة السلاح التشيكي أحدثت انقلابا من نوع آخر في العسكرية المصرية حيث تغير السلاح مما يسمى العقيدة الغربية إلى العقيدة الشرقية، ولا يعجب القارئ من هذا المصطلح الذي يعني أسلوب إنتاج التسليح وليس له علاقة مباشرة بالعقيدة بمعناها الفلسفي أو الديني المعروف.

 

أدى الحل السهل لمأزق السلاح إلى مأزق استراتيجي آخر وهو الوقوع في أسر الشبكة السوفيتية معنويا فمنذ 1955 وحتى  توقيع معاهدة السلام بعد قرابة ربع قرن من الزمان كانت الكتلة الشرقية سواء في ذلك تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي ودول حلف وارسو هي المورد الرئيسي للسلاح إلى مصر باستثناء فترة ما بعد 1967 حين بدأت مصر ( بفضل التمويل الليبي ) الاعتماد على طائرات الميراج الفرنسية وعلى آليات ومكونات هندسية مختلفة من ألمانيا الغربية وغيرها من الدول الغربية بيد أن الإمدادات العسكرية لم تكن تتعارض مع العقيدة الشرقية (بالمعنى الذي أوضحناه من قبل ).

  

ومما يؤسف له أن بعض الأسلحة المصرية ذات القيمة الكبيرة وقعت أسيرة أيدي الإسرائيلية منذ مرحلة مبكرة. ومن هذه الأسلحة المدمرة إيلات التي تحولت على يد الإسرائيليين إلى سفينة حربية مهمة شاء لها الحظ أن تدمر بصواريخ مصرية في 1967 عقب الهزيمة. وقل مثل هذا في عدد لا يستهان به من الأسلحة السوفييتية المهمة التي وقعت في يد العدو الإسرائيلي (ومن ثم في يد أمريكا) كنتيجة لهزيمة 1967 وما حدث فيها من انسحاب كامل بدون السلاح وما تلاها من مواجهات، وقد حدث هذا بسبب ما وصفه السوفييت أنفسهم بأنه قلة كفاءة القوات المصرية التي لم تحافظ على السلاح بما كان ينبغي أن يتوافر من حرص على الأسرار الصناعية للتسليح السوفييتي، وهي نقطة كانت تجعل السوفييت يترددون على الدوام في تحديث التسليح للمصريين.

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com