مكرم عبيد (1889 ـ 1961) اسم كبير في التاريخ المصري الحديث ببلاغته ، واكتسب قيمته الأسطورية من المنبر الذي مارس منه نشاطه وهو منبر الوفد بكل ما مثله الوفد من قيمة لم تتكرر ولم تعوض حتى الآن ، كان محاميا و وزيرا وبرلمانيا ونقيبا للمحامين وسكرتيرا للوفد متدفقا بالحركة والعلاقات والتوصيات والمواءمات والترضيات وقد احتفظ اسمه برونق خاص اجتذب محبي اللغة والخطابة والبلاغة والفن على حد سواء فقد كان فخورا بأن يكون من طائفة المتأدبين كما كان نموذجا للتعبير الحي عن الثقافة العربية الإسلامية باقتباساتها ومروياتها و منابعها .
اسمه بالكامل وليم مكرم جرجس ميخائيل عبيد، وهو زوج السيدة عايدة ابنة مرقص حنا باشا الزعيم الوفدي الكبير والوزير البارز ونقيب المحامين في عهد سعد زغلول باشا.
مولده
ولد مكرم عبيد في 25 أكتوبر (1889) بمدينة قنا، لكن أصل أسرته يعود إلي أسيوط، وقد روي أن جده لأبيه تزوج من ابنة المعلم جرجس الجوهري (وكان واحداً من رجال محمد علي باشا)، وانتقلت الأسرة إلي قنا، أما والده فكان يمتلك حوالي ثلاثين فدانا من الأراضي الزراعية، لكنه عمل مع شقيقه في مقاولات الأشغال العامة وشارك في إنجاز خط السكة الحديد بين نجع حمادي والأقصر، وعند إتمام هذا المشروع قلده الوالي «الوسام المجيدي» وأنعم عليه بلقب البكوية من الدرجة الثانية، واشتري بعض أراضي الخاصة الملكية (الدائرة السنية) بالقرب من قنا، وتوفي في ديسمبر 1925.
أكمل وليم مكرم عبيد تعليمه الابتدائي في مدرسة أميرية بقنا (1890)، وبعد أن أمضي فترة قصيرة في مدرسة التوفيقية الثانوية بالقاهرة عاد إلي الصعيد والتحق بالمدرسة الأمريكية بأسيوط، ثم أرسله والده إلي جامعة أكسفورد بإنجلترا ليستكمل دراسته هناك (1905) وهو في سن السادسة عشرة، ولم يكن مثل هذا الإرسال المبكر للتعليم بمثابة شيء نادر الحدوث في ذلك الوقت، فقد حدث مثل هذا أيضاً مع كثيرين كان منهم النقراشي باشا الذي سافر في بعثة حكومية، وكان مكرم عبيد واحداً من الطلاب الذين درسوا في «النيو كولدج» بأكسفورد، وفيها ظهر تفوقه وحصل علي المرتبة الثانية في القانون (1908)، وفي طريق عودته التحق بجامعة ليون الفرنسية حيث كان يسعى لأن يتم دراسة الدكتوراة لكنه لم يتقدم فيها .
العودة للوطن
بعد عودته إلى وطنه عمل مكرم عبيد (1913) في سلك السلطات الإدارية المرتبطة بالاحتلال البريطاني، وقد أهله تعلمه في بريطانيا لينال حظوة كبار موظفي سلطات الاحتلال، وقد عمل سكرتيراً للجريدة الرسمية بوزارة الحقانية.
بدأت مشاركته في الحركة الوطنية حين وضع مذكرة قانونية في أعقاب إضراب الموظفين (1919)، كما شارك بحماس في الترحيب بسعد زغلول (1919) لدي عودته من منفاه في مالطة، وقد رأي سعد زغلول أن يرسله سعد زغلول إلي لندن، وإلى أمريكا للدعاية للقضية المصرية وعند عودته استقبل استقبالا شعبيا حافلا، وكان سعد بنفسه على رأس مستقبليه.
كان مكرم قد عين مدرساً بمدرسة الحقوق (1919)، غير أنه فصل من هذه الوظيفة في أغسطس 1921 بعد إحالته إلى مجلس تأديب بتهمة اشتراكه في إقامة مأدبة تكريم لسعد زغلول، وبعد فصله ألقي خطابا عاما في سبتمبر 1921 أعلن فيه صراحة أنه لن يحتفظ باسم وليم لأنه اسم أجنبي، وأكد أنه يرغب من ذلك الوقت فصاعدا في أن يعرف باسم مكرم عبيد، وهكذا فإنه فضل أن ينادى باسم والده، ولهذا السبب يبدو مكرم عبيد وكأنه والد لأشقائه، كما يبدو في بعض الأحيان الأخرى أنه جد لأولاد أشقائه الذين يحتفظون بأسماء آبائهم في أسمائهم. لكن الطريف في الأمر أن بعض أولاد وبنات شقيقاته حذفوا هم أيضاً أسماء آبائهم لينتسبوا إلي جدهم مباشرة كالسيدة مني مكرم عبيد، وابنة عمها الوزيرة نادية مكرم عبيد (واسمها الحقيقي نادية رياض مكرم عبيد)، وهو ما يدفع إلي الظن بأن هؤلاء أولاد وبنات مكرم عبيد بينما هو عمهم ، وبينما مكرم الحقيقي جدهم ، وكان هذا اللبس يحدث في حالة فكري مكرم عبيد الذي كان نائباً لرئيس الوزراء وأميناً عاماً للحزب الوطني في عهد السادات، ومن الطريف أنه يصغر مكرم بسبع وعشرين سنة، مما يزيد في اللبس القائل بأنه ابنه، مع أن مكرم لم ينجب كما هو معروف.
جاءت الذروة الأولي في حياة مكرم عبيد حين نفي مع سعد زغلول إلي جزيرة «سيشيل» وأصيب هناك بالملاريا فسمح له بدخول المستشفى البريطاني للعلاج في 3 فبراير 1922، وطلبت سلطات المستشفى أن يرافقه أحد زملائه في أثناء فترة العلاج، فتطوع لذلك مصطفي النحاس باشا وظل معه في المستشفى يمرضه إلى أن شفي وغادر المستشفى في 13 فبراير 1922. وبعد هذا النفي توثقت علاقة مكرم عبيد بسعد زغلول إلي حد أن أطلق عليه «ابن سعد».
النرجسية
بعد وفاة سعد زغلول وانتخاب النحاس رئيسا للوفد خلفه مكرم عبيد في منصب سكرتير الوفد (أكتوبر 1927)، وهكذا وصل مكرم عبيد مبكرا إلي أقصي ما وصل إليه في تاريخه كله، وقد مارس نشاطه في هذا المنصب باقتدار وقوة جعلاه بمثابة الرجل الثاني والقوي في الوفد، بيد أنه شأنه شأن الشخصيات اللامعة التي تسيطر عليها آفات النرجسية بدأ سلسلة من الخلافات المتصلة والمتعاقبة مع أقرانه، مما كان له أكبر الأثر في خروج مجموعة من أبرز رجال الوفد ومؤيديه علي فترات متتالية، وكان من هؤلاء علي سبيل المثال نجيب الغرابلي باشا ومجموعة السبعة ونصف في بداية الثلاثينيات، ثم الأستاذ العقاد والسيدة روز اليوسف في 1935، ثم الزعيمان أحمد ماهر والنقراشي في 1937، وقد كان من الطبيعي بعد هذا كله أن يخرج مكرم عبيد هو الآخر في 1942.
وبالإضافة إلى نشاطه الحزبي والتنفيذي البارز مارس مكرم عبيد نشاطا برلمانيا، وحاز ثقة الجماهير الوفدية، على سبيل المثال فإنه نجح في دائرتين في انتخابات عام 1926، كما انتخب نقيبا للمحامين ثلاث مرات.
وقد عرف مكرم عبيد طريقه إلى موقع متقدم في الحياة التنفيذية من خلال مناصب الوزارة، وكان وزيرا ناجحا على نحو ما كان برلمانيا وخطيبا، ومن الإنصاف أن نشير على سبيل المثال إلي تعبيره الذكي عن المعاني التي تتعلق بفهمه لحقوق الشعب في تقديمه لموازنات الحكومة.
عبيد وزيراً
وقد بدأ مناصبه الوزارية بتولي وزارة المواصلات، ثم تولي وزارة المالية في سبع وزارات، وهو شبيه في هذا إلي حد ما بالدكتور هيكل باشا الذي بدأ وزيراً للدولة ثم تولي وزارة المعارف ست مرات، وقد جمع في المرة الأخيرة معها وزارة الشئون الاجتماعية، وكلاهما أصبح رئيس حزب، مع الفارق الكبير في شخصيتيهما ، وكلاهما لم يتول رئاسة الوزارة، بيد أن هيكل باشا ظل في الحزب من البداية حتي الرئاسة، علي حين انشق مكرم ليكون لنفسه حزباً برئاسته.
ومن المهم أن نتأمل تاريخ مكرم عبيد مع المسئوليات الوزارية بقدر من التفصيل والتواريخ. عمل مكرم عبيد وزيراً للمواصلات لأول وآخر مرة في وزارة النحاس باشا الأولي، وهي الوزارة التي لم يتعد عمرها ثلاثة شهور (مارس 1928 ـ يونيو 1928)، وقد جاءت بعد هذه الوزارة وزارة محمد محمود التي عطلت الدستور، وبهذا فإن مكرم عبيد لم يكن من الذين استوزروا علي عهد سعد زغلول ولا في حياته، وإنما كان من الوزراء الأول في وزارة النحاس الأولي، ولك أن تعتبره أول وزراء النحاس، وهو إن لم يكن الأول بين وزراء النحاس فهو الأول مكرر، كما أنه من المهم أن ننبه إلي أن الزعيمين أحمد ماهر وعلي الشمسي كانا بالمقارنة بمكرم قد وصلا إلي الوزارة منذ أربع سنوات في أثناء عهد وزارة سعد زغلول باشا (1924)، أما الباشوات الغرابلي، وواصف غالي، ومرقص حنا فكانوا قد وصلوا مع النحاس باشا إلى المنصب منذ يناير 1924 عهد وزارة الشعب.
وبدأ عهد مكرم عبيد بوزارة المالية التي أسندت له في ثاني وزارة اشترك فيها وهي وزارة النحاس الثانية (يناير 1930)، وهي وزارة دام عمرها ستة شهور وجاء بعدها عهد صدقي باشا الذي ألغي الدستور، وقد تكرر تولي مكرم لوزارة المالية في وزارة النحاس الثالثة (مايو 1936) والرابعة (أغسطس 1937) وهما وزارتان متصلتان في بداية عهد فاروق، وقد استمر عهدهما عشرين شهرا، ثم تولي المالية أيضا في وزارة النحاس الخامسة (فبراير 1942)، وهي المالية أي عقب حادث 4 فبراير، لكنه سرعان ما ترك الوزارة عند تشكيل النحاس باشا لوزارته السادسة في مايو 1942، بل إن هذه الوزارة نفسها شكلت كي يخرج مكرم عبيد من السلطة التنفيذية.
هكذا فإن مكرم عبيد تولي وزارة المالية في أربع وزارات للنحاس، ثم إنه تولاها للمرات الخامسة والسادسة والسابعة في وزارات أحمد ماهر الأولي والثانية والنقراشي المتصلة والممتدة على مدي الفترة ما بين أكتوبر 1944 وفبراير 1946.
ومع إن مكرم كان أقدم في تولي المنصب الوزاري من النقراشي باشا فإنه قبل الاستمرار تحت رئاسة النقراشي باشا طيلة عهد وزارته الأولي، وقد حرص الدكتور هيكل في مذكراته على أن يشير إلى أنه عندما اقترح علي الملك أن يخلف النقراشي باشا زميله أحمد ماهر باشا في رئاسة الوزارة كان مكرم باشا موافقاً على هذا ومؤيداً لوجهة النظر التي وراء هذا الرأي.. ومع هذا فإن مذكرات كثيرة، ومنها مذكرات هيكل باشا نفسه وكريم ثابت باشا وغيرهما، تشير إشارات واضحة إلى مدي العنت الذي لقيه النقراشي باشا بعد ذلك من مكرم باشا نتيجة الفكرة التي سيطرت علي مكرم بأحقيته في أن يرأس النقراشي لا أن يحدث العكس! وقد وصل تعنت مكرم مع النقراشي وزملائه من الوزراء حداً جعل السياسيين يؤمنون بأنه قد أصبح من المستحيل التعاون مع مكرم من خلال أي موقع تنفيذي.
ونحن نستطيع الآن أن نفهم أن مكرم كان قد وصل إلى حالة من الإحباط بسبب عدم وصوله إلى ما كان يتصور نفسه جديراً به من رياسة الوزارة، لكننا لا نستطيع أن نفهم أن يتحول هذا الشعور إلى حالة مزمنة من قلق مرضي مسيطر إلى الحد الذي جعله غير قادر علي التعاون مع الآخرين.
ولولا هذا الشعور المسيطر علي مكرم لكان في وسعه أن يبقي في وزارات ائتلافية أخري كثيرة كوزارة النقراشي باشا الثانية وامتدادها في وزارة إبراهيم عبد الهادي، لكن يبدو أن مكرم كان تجسيداً للفكرة القائلة بأن الموقع السياسي إذا لم يتوافق مع تطلعات شخصه فإنه يصبح بمثابة أكبر عذاب لصاحبه.
الخروج من الوفد
كان خروج مكرم عبيد علي الوفد حدثا دراميا، وقد حاول مكرم في البداية أن يصوره على أنه انتصار للنزاهة ضد المحسوبية، ومضي في هذا الشوط إلى حد إصداره ما سمي بالكتاب الأسود، لكن هذا السلاح الذي أشهره مكرم بكل ما هو ممكن من تحد وتجن في وجه الوفد سرعان ما فقد مضاءه، وأبرز مضاره، وفيما بعد سنوات قليلة ظهر للجماهير أن مكرم كان ضحية لألاعيب القصر، ولأوهام القوة الذاتية، لكن هذا لم ينف عن مكرم تآمره.
ويري المستشار طارق البشري أن أخطر ما واجه مكرم في حياته الحزبية هو خلافه مع مصطفي النحاس وانفصاله عن الوفد (1942)، فالذي يذكر لهذا السياسي الكبير أنه فيما عدا هذا الصنيع لم يحد عن جوهر مواقفه الوطنية، ولا عن الخط الوطني السياسي الذي كان يلتزمه إبان توليه أمانة الوفد. وقد عبر إبراهيم فرج باشا عن هذا المعني نفسه بقوله:
«لقد تساءل كثير من المؤرخين وظلوا يتساءلون: كيف حدث هذا؟ كيف فات على عبقرية مكرم عبيد وذكائه السياسي وعقله الفذ المستنير أن يتنبه إلى أحابيل الشياطين والدساسين».
المكاسب
ونعود إلى خروج مكرم من الوفد لنكتشف أن هذا الخروج تم تعويضه من جهة الرسميات والشكل بسلاسة ودون انفعال، وقد تم هذا مققا للوفد ثلاثة مكاسب كبرى:
- فأما الوزارة (المالية) فقد اختير لها وزير قبطي هو كامل صدقي باشا، ومع أن معلوماتنا التاريخية تشير إلي أنه لم يلبث في هذا المنصب طويلا فإنه يهمني أن أشير إلي أنه حين ترك هذا المنصب نال منصبا لا يقل عنه أهمية ولا رفعة وهو منصب رئيس ديوان المحاسبة، علي حين حلّ رئيس ديوان المحاسبة أمين عثمان باشا محله كوزير للمالية، وليس من شك أن قيمة أمين عثمان كسياسي تكنوقراطي كانت مؤهلا له لهذا المنصب، وقد تمكن أمين عثمان من أن يملأ ما هو أكثر بكثير من الفراغ الذي كان مكرم قد تركه حتي من قبيل صيغة بيان الموازنة بعبارات رنانة من السياقات المعبرة عن الاتجاهات الاقتصادية الجديدة التي بدأت تفرض نفسها مع الحرب الثانية.
- و أما في المجال الثاني لنشاط مكرم وهو المتصل بقدراته البرلمانية والصحفية كخطيب أو كاتب يتملك ناصية اللغة والسجع والمحسنات البديعية ونحت الألفاظ والشعارات والردود والمصطلحات في دفاع الوفد عن نفسه، سواء في الحكومة وحتي المعارضة، فقد تم تعويضه بأحمد نجيب الهلالي باشا ، والواقع أن أحمد نجيب الهلالي يتفوق علي مكرم في هذا المجال بمقاييس البلاغة واللغة، وبمقياس القبول أيضاً، فقد كان يتمتع بقدر أكبر من خفة الدم وبثقافة أرفع من ثقافة مكرم، وبقدرة هادئة مثمرة إذا ما قورنت بعصبية مكرم الذي لا تظهر عبقريتها إلا في الخطابة أو الترافع، ومع هذا فإن الإنصاف للحقيقة يقتضي أن أشير إلي حقيقة غير مشهورة وهي أن ثقافة حرص مكرم على إظهار المنابع الإسلامية في ثقافته كانت أكثر من حرص الهلالي وقد بدا هذا في جانبين: التطعيم الذي كان مكرم يطعم به حديثه سواء علي مستوي الاستشهاد أو الاقتباس، كما بدا في صياغات الجمل المكرمية التي تتمتع بجرس إسلامي علي حين تتمتع الجملة الهلالية بجرس إنجليزي واضح يزيد بكثير عما تتمتع به عبارات مكرم المناظرة. وقد أدى نجيب الهلالي باشا دوره بامتياز مذهل حين كان بمثابة محامي الحكومة في مجلس النواب عند مناقشة اتهامات مكرم الفظيعة وهجومه الضاري، وقد كان في ذلك الوقت وزيراً للمعارف، وقد أثبت الهلالي نجاحا بارزا جعل مكرم نفسه يفقد صوابه ويوجه إلي الهلالي سهام نقد مبتذلة لم تكن تليق بمكرم باشا.
- أما علي مستوي الحياة الحزبية فقد تمكن النحاس باشا بإيمانه واستقامته أن يسحق الآثار الجانبية التي كانت متوقعة بسبب خروج مكرم عبيد عليه، ولم يكن هذا سهلا كما أنه لم يكن صعبا، ذلك أن مكرم ظل في كل يوم يحارب النحاس بكل ما أوتي من قوة وكأنه يريد كما كان يقال أن يثبت للنحاس قوته في الخصومة علي نحو ما كان يعرف قوة صداقته،، وكأنه لا يزال يتوسل إلي أن يثبت لزعيمه مدي قوته حتي في الخصومة ليعيده ويقدره وليرفع مكانته، وكأنه ـ وهذا هو وجه العجب والدهشة ـ أراد أن يثبت أن مكرم قوي في خصومته علي نحو ما كان قويا في صداقته، ووصل مكرم في هذا السبيل إلي ما لم يصل إليه عدو من أعداء النحاس القدامى، ومع هذا فإن النحاس لم يهتز، ولم يتأثر، ولم يتراجع ولم يبحث عن وسيلة لإعادة مكرم أو تهدئته أو تحييده، بل إنه رفض فكرة الصفح أو قبول الاعتذار.
الحسرة
عاش مكرم بقية حياته متحسرا وهو يشهد تعاقب أكثر من خلف له على منصب سكرتير الوفد، فقد تولاه عبد السلام فهمي جمعة باشا ثم محمد صبري أبو علم باشا ثم فؤاد سراج الدين باشا، ومن غرائب الأقدار ما يروي من أن مكرم باشا كان حريصا على الدوام أن يكرر انه هو الذي أخذ بيد سراج الدين شاباً وضمه لعضوية الوفد حين قابله بالمصادفة في مكتب أحد أصدقائه من المحامين.
ومع أننا لا نستطيع القول بأن عبد السلام جمعة باشا رغم مكانته ومناصبه قد فرض نفسه كسكرتير عام للوفد على نحو ما كان مكرم يفعل، خاصة أنه لم يكن يلازم النحاس، ولا يزوره كل يوم في منزله، ولا يستقل معه السيارة… إلخ، بل كان وهذا هو وجه المفارقة الطريفة والبالغة لا يقيم في القاهرة وإنما تمسك بإقامته في طنطا. مع هذا فإن وجود عبد السلام جمعة باشا في هذا المنصب على هذا النحو قد قلل تماما من التصوير المبالغ فيه للأهمية التي كان يضفيها مكرم علي المنصب من خلال شخصه وعلى نفسه من خلال المنصب، فها هو السكرتير العام الجديد يتولى الأمر من دون أن يحدث هذا الضجيج الصاخب ودون أن يكلف الوفد خروج بعض أقطابه واحدا بعد واحد، ودون أن يصور للناس أن للحزب الكبير كهنوتا وطبقات، بل هو يؤدي تبعات المنصب وهو مقيم خارج القاهرة.
وهكذا تم ـ ربما بدون جهد كبير ـ القضاء بصورة كبيرة على جزء كبير من أسطورة مكرم الذي لا يسير الوفد ولا يحيا من دونه، وهكذا كان مكرم نفسه صاحب أكبر معول في هدم هذه الأسطورة المكرمية على نحو ما رأينا. وصحيح أن «التحبيشات» المكرمية كانت لازمة للوفد كنوع من أنواع البهار المتقون، لكن الزمن نفسه كان قد تجاوز هذه الفكرة التي تم ترسيخها بما فيه الكفاية، ولم يعد مستحباً الإكثار منها بمناسبة وبدون مناسبة.
الوحدة الوطنية
علي أن الجانب الإيجابي في خروج مكرم من صفوف الوفد أن الوحدة الوطنية تأكدت بخروجه من الوفد ولم تتأثر بهذا الخروج فقد كان للأقباط المصريين فضل بارز وغير منكور في الوفد بل إن سينوت حنا كما نعرف قد افتدي النحاس بشخصه في مظاهرات المنصورة علي عهد صدقي، وقد أتاح خروج مكرم الفرصة لأكثر من زعيم قبطي لدخول الوزارة، وربما لم يكن هذا ليتحقق مع وجود مكرم لا لأن أحدا سيعترض علي وجود وزير قبطي ثان، وإنما لأن مكرم نفسه كان غيورا بطريقة فظيعة وكان لا يحب الشريك، وقد أدي إبراهيم فرج باشا للوفد القديم ثم للوفد الجديد ولزعامة النحاس أدوارا لم تكن تقل عن دور مكرم.
ومع هذا فإن خروج مكرم كان بمثابة إسكات غير مباشر لمزاعم الأحزاب السياسية الفاشية التي كانت قد بدأت في الانتشار والتي كانت تزايد على الوفد بوقوعه تحت التأثير القبطي.. فها هو مكرم الذي هو مصدر استشهادهم بهذا التأثير يخرج من الوفد، وقد يحل محله قبطي آخر أو لا يحل، فقد أصبحت القضية قضية شخصيات لا قضية مندوبي ديانات.
وعلى حين ظل بناء الوفد متماسكا فإن المجموعة التي أيدت مكرم عند خروجه عن الوفد لم تتسع ولم تتزايد، كما أن مكانة مكرم في المجتمع بدأت في الأفول، وقد ساعدت أزمة الكتاب الأسود على تمتع مكرم بقدر من الضجيج لكن أوارها سرعان ما خبا، وقد أصبح مكرم متلهفاً على أي دور دون أن تتلهف الأدوار عليه، بل إنه سرعان ما وصل إلى مرحلة العيش من دون أن تعرض الأدوار عليه، مع أنه كان نموذجا للنجم الذي يتعطش الأدوار لاستمرار لمعانه.
وقد انعكس هذا كله علي سلوك مكرم عبيد نفسه الذي أصبح يتألم حين يدرك أنه يفقد كل يوم أرضا قديمة، وقد ظل مكرم عبيد بدهائه وذكائه يصور نفسه وكأنه سيدنا يوسف الذي خرج من السجن إلي تولي مسئولية خزائن الأرض، وقد حدث فعلا أنه خرج من المعتقل ليتولى وزارة المالية، ولكن مكرم كان كما نعرف يطمح إلي ما هو أكثر من ذلك، خصوصا أنه بالفعل كان وزيرا للمالية في عهد النحاس وفي وزارات النحاس الثالثة والرابعة والخامسة، فماذا جدّ عليه أكثر مما كان قد حققه من قبل تحت رئاسة النحاس: أيكون وزيرا فحسب وتحت رئاسة من هو تال للنحاس وهو أحمد ماهر؟؟ أو مَنْ هو تال له هو وهو النقراشي؟؟
ويكفي لتصوير حجم مكانته الجديدة ومحاولاته من أجلها أن نشير إلى أنه عندما أصبح وزيرا في الوزارة التي شكلها أحمد ماهر خلفاً لوزارة النحاس في أكتوبر 1944 تمسك (بعون من القصر الملكي) بأن يكون لحزبه أربعة مقاعد شأن الحزبين الكبيرين الأحرار والسعديين. ونحن نعرف أن العجب قد انتاب مَنْ حضروا المشاورات (ومَنْ كانوا قريبين من جوها في ذلك الوقت) من هذا العدد الذي طلبه مكرم وبخاصة أنه لم يكن هناك ضمن الذين تبعوه في انشقاقه علي الوفد ثلاثة غيره ممن يرقون إلي مرتبة الوزارة ليكمل بهم حصته هذه في الوزارة، ولكن مكرم صمم وتصلب وكان لابد لطلبه أن يجاب لأنه كان أول ثمن يقبضه من القصر بعد الدور المجهد الذي أداه في محاولة إيذاء صورة الوفد والنحاس ، ولم تلبث الانتخابات البرلمانية أن أجريت فإذا بمكرم وحزبه (مع كل التسهيلات) لا يحصل علي أية نسبة من الأصوات أو المقاعد تتوازي مع دعاواه وطنطنته البرلمانية وذلك علي الرغم من أن الوفد لم يشارك بمرشحيه في هذه الانتخابات.
وهكذا كان لابد لحصة مكرم في وزارة ماهر الثانية أن تتقلص إلى ما يوازي ما أسفرت عنه الانتخابات من تصوير حجمه الحقيقي في الشارع السياسي.
وضع أقل
وكان من الطبيعي أن يظهر ضيق مكرم عبيد من هذا الوضع الجديد الذي لم يرض طموحه ولا توقعاته الشخصية، ولهذا فإننا نري في الروايات ما يدلنا على أن مكرم عندما كان يلتقي برئيس الوزراء الجديد أو يحضر معه الاجتماعات واللقاءات كان يحاول أن يظهر أنه الرجل الثاني في الوزارة على نحو ما كان يحس من النحاس، ومن الطريف أن هذا لم يكن ممكنا، وذلك أن النقراشي باشا كان أقرب إلي أحمد ماهر باشا بالطبع وبالصداقة وبالزمالة وبحكم كونه نائبه في الحزب السعدي.
هكذا أصبح مكرم يجد نفسه في وضع معنوي أو مظهري أقل مما كان يتمتع به في الوزارات الوفدية، ويروي أنه ذهب يشكو لأحمد حسنين باشا من هذا الوضع المؤلم محتجا بأنه في الماضي كان أهم من الرجلين حين كان ثلاثتهم في الوفد، وبلغ به الألم أن يصور الأمور من وجهة نظر بيروقراطية لا يفكر بها إلا صغار الموظفين، فقال لرئيس الديوان إنهما ـ أي ماهر والنقراشي ـ كانا يستأذنان في الدخول عليه… وما كان من أحمد حسنين إلا أن أجابه بأن ذلك كان تبعا لنظام الوفد، أما الآن فإن ثلاثتهم خارج الوفد، وليس لخارج الوفد أن يأخذ بما كان داخل الوفد من نظام وأقدميات.
وبعد تشكيل أحمد ماهر لوزارته الثانية بشهر واحد حدثت مفاجأة جديدة كانت نتائجها ضد مكرم عبيد أيضا.. فقد اغتيل أحمد ماهر، وخلفه النقراشي في رئاسة الوزارة، وهكذا وجد مكرم عبيد نفسه فجأة، كما ذكرنا، مرؤوسا للنقراشي (الذي كان أحدث منه في تولي المنصب الوزاري) ولم يكن ظرف اغتيال أحمد ماهر وما خلفه من أثر نفسي قاس ليسمح لمكرم بالاعتراض، ومع هذا فإنه تململ، وظل تململه يتصاعد في القول والفعل، ولكن أحدا لم يعر هذا التململ أية أهمية.
ولم تمض شهور حتى حدث حادث جديد كان له أثر سيء أيضا علي مكرم، وذلك أن أحمد حسنين أصيب في حادث سيارة، وتوفي في فبراير 1946، وهكذا فقد مكرم عبيد وجود الرجل الذي كان قد تعاقد معه علي هدم النحاس من أجل القصر، وحدث شيء شبيه بما نسميه في القانون بضياع ثمن الصفقة، بسبب وفاة الطرف الآخر أو بعدم القدرة على الوفاء بالحساب، لأن صرف الرصيد كان مرتبطا بوجود صاحب سلطة التوقيع على الحساب على قيد الحياة وقد مات صاحب الحساب دون أن يترك توكيلا لأحد غيره بالتصرف في الوفاء بالدين!!
فقد القوة
سرعان ما فقد مكرم عبيد القوة التي كانت تمكنه من أن يتعسف مع رؤساء الوزارة، وهكذا شكلت وزارة جديدة في فبراير 1946 برئاسة إسماعيل صدقي من دون أن يدخلها مكرم عبيد علي الرغم من حاجة هذه الوزارة إلى سند حزبي وبرلماني، ومن الطريف أن هذه الوزارة تشكلت من الدستوريين والمستقلين فقط!! وقد قيل يومها في أوساط السياسيين إن صدقي لم يشأ أن يزعج نفسه بضوضاء مكرم، ولا بحذلقة حافظ رمضان، على حين بخل عليه السعديون بالمشاركة، وإن كانوا قد عادوا لتدعيمه بعد شهور.
وهكذا فإنه منذ نهاية عهد وزارة النقراشي الأولي (فبراير 1946) ووفاة أحمد حسنين في الشهر نفسه انتهي عهد مكرم عبيد بالمناصب الوزارية وبالحضور كشخصية كبيرة في مجتمع الحكومة والسياسة، وأصبح يركز كل همومه في استثمار ما تصور أنه الأصداء الباقية عن انفجار هجومه الدائب والدائم (ولا نقول في الهجوم نفسه لأنه كان قد استنفد بالكتاب الأسود قدراً كبيراً من قوته على هذا الهجوم) على النحاس دون أن ينجح في تحقيق أي شيء ذي بال.
وبعد شهور لم يكن مكرم في وضع يسمح له بالعودة إلي دخول وزارة النقراشي الثانية في ديسمبر 1946، ومن باب أولي لم يكن مكرم ليستطيع العمل تحت رئاسة إبراهيم عبدالهادي الذي خلف النقراشي عند اغتياله، وهكذا قدر لمكرم أن يشهد خروج أحمد ماهر والنقراشي من الوفد ثم من الحياة دون أن يضيف له هذا الخروج شيئا إلا نفوذا كاذبا بأنه هو الذي أخرجهما من الوفد في 1937، مع أنه كان سكرتيرا للوفد قبل خروجهما وبعد خروجها، ثم شاء القدر أن يعمل مكرم نفسه تحت رئاسة الرجلين في المنصب الوزاري الذي عمل فيه تحت رئاسة النحاس وليس أكثر، ثم شاء القدر أن يشهد مكرم اغتيال الرجلين وهما في رئاسة الوزارة دون أن تتاح له الفرصة ليستفيد من هذا الغياب أو للحلول محل أيهما في هذا الموقع أو في موقع أكثر أهمية من موقعه السابق.
العريضة الشهيرة
وينبغي أن نشير إلي فضل كبير في مرحلة مكرم الأخيرة، ذلك أنه أسهم في توقيع العريضة الشهيرة في نهاية عهد الملك فاروق، ومهما يكن من أمر هذه العريضة فإن توقيعه يمثل نقطة بيضاء في تاريخه، لكن مكرم للأسف الشديد عاد مرة أخري إلى الأحقاد فقد كان من المنخدعين في محاكمات الثورة وقد ظنها فرصة للإدلاء بما في جوفه من مرارة شديدة تجاه رموز الوفد. وقد ظل اسم مكرم عبيد علي الدوام بمثابة وقود للحديث عن معني الوحدة الوطنية، وهو حديث طبيعي صادق. كذلك ظل مكرم بمثابة نموذج يلجأ إليه عند الحديث عن دور المثقف والسلطة، ومع أن مكرم لم يكن المثقف الوحيد في جيله، وإنما كان واحداً بين كثيرين من المثقفين، فإنه كان يتمتع بجاذبية السجع والخطابة والحرص علي نحت الأقوال المأثورة، ونحن نري ذاكرة كثير من كبار صحفيينا وكتابنا وهي تحتفظ له بذكري ما كان يلقيه من أقوال منمقة كانت كفيلة بفتنة الشباب في ذلك الحين.
أسرار الساسة والسياسة
كان الأستاذ محمد التابعي أبلغ وأدق من وصف مرحلة تدهور علاقة مكرم بالنحاس باشا على يد أحمد حسنين باشا الذي هو صديق التابعي، وقد أورد الأستاذ محمد التابعي كثيرا من هذه التفصيلات في كتابه «أسرار الساسة والسياسة» بعبارات بسيطة لم تجد حرجا من اللجوء إلى العامية:
” في 12 مارس 1942 حدثت المقابلة التي دبر لها أحمد حسنين بين الملك ومكرم عبيد، وأخفي مكرم خبر المقابلة على مصطفي النحاس باشا رئيس الوفد ورئيس الحكومة، وفي صباح اليوم التالي قرأ النحاس باشا كلمة مكرم في جريدة الأهرام التي يشيد فيها بالمليك المحبوب في عبارات حافلة بالتقعر الذي عرف به مكرم”.
” وكان أحمد حسنين قد رتب مع مندوب جريدة الأهرام أن يأخذ حديثا مع مكرم عبيد عقب خروجه من لقاء الملك، واستمهله مكرم حتى يكتب كلمة يتقعر فيها وقال فيها ما لا يقوله إلا العبيد (على حد تعبير مصطفي النحاس)، ولم يعرض مكرم البيان على النحاس باشا كما اعتاد من قبل، ولم يخبره بأمر المقابلة وسافر إلى الفشن دون أن يخطر النحاس باشا الذي فوجئ ببيان مكرم في “الأهرام” في صبيحة اليوم التالي”
” وبعد ذلك يقول مكرم وأعداء الوفد إن السيدة زينب الوكيل هي التي أفسدت العلاقة بين النحاس ومكرم!”.
ونواصل قراءة ما يرويه الأستاذ التابعي:
“تصادف أنني ذهبت لزيارة النحاس باشا في نفس اليوم الذي ظهرت في صباحه كلمة الأستاذ مكرم عبيد بجريدة الأهرام، وبينما نحن نتحدث دق جرس التليفون الموضوع فوق مائدة صغيرة بجوار رفعته، وكان المتكلم الأستاذ مكرم عبيد من مدينة المنيا، وكان مكرم يتحدث ولم أسمع حديثه طبعا وقاطعه النحاس باشا: لكن سيبك من ده كله وقول لي: إيه الكلام يه يا مكرم اللي أنت كاتبه في أهرام النهارده ‘وتقوله ليه؟ ثم علشان إيه ما عرضتوش عليّ قبل نشره؟ دي غريبة! لأنك دايما بتاخد رأيي في أحاديثك وتصريحاتك قبل نشرها، اشمعني المرة دي لأ؟».
مكرم…. … … … …
«النحاس: يعني إيه؟ عايز تقول إنك كتبت الكلام ده نص الليل؟ وقبل كده ما كنتش لسه كتبت حاجة؟».
«ثم يقول التابعي: ولاحظت عندما أنهي النحاس باشا الحديث وأعاد سماعة التليفون إلى مكانها أن علامات الغضب كانت مرسومة واضحة على وجهه في عينيه وقال رفعته: ده كلام ما يكتبوش إلا العبيد».
وقد عقب التابعي: «إنني حريص على تقرير حقيقة منصفة، وهي أن الأستاذ مكرم عبيد سبق أن دافع دفاعا بليغا قويا عن الاستثناءات والترقيات في عام 1937، فما باله يحاربها في عام 1941؟!».
مقدمة الكتاب
أصدرت الدكتورة مني مكرم عبيد كتابا نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب في 1989 بمناسبة الذكري المئوية لمكرم (1889 ـ 1989)، وقد ضم هذا الكتاب كثيراً من أقوال مكرم علي ذلك النحو الذي صدر أيضا في الأربعينيات في كتاب «المكرميات» الذي ألفه واحد من أشد الصحفيين والشبان غراما بمكرم عبيد وهو الأستاذ أحمد قاسم جودة. وكانت مني مكرم عبيد في ذلك الوقت لاتزال عضوة في حزب الوفد، وهكذا استجاب لها إبراهيم فرج السكرتير العام للحزب وكتب مقدمة لهذا الكتاب لكنه كان حريصاً على أن يشير في هذه المقدمة بكل وضوح إلى خسارة مكرم الكبيرة بسبب خروجه على النحاس باشا، وهنا يجدر بنا أن نذكر أن إبراهيم فرج كان بمثابة ابن للنحاس على نحو ما كان مكرم يلقب بابن سعد!! ومن الطريف أن المقدمة التي كتبها إبراهيم فرج لم تكن تزيد على صفحتين، بيد أن خطأ مقصود أو غير مقصود كرر صفحة كاملة منها كي تخرج في الحجم اللائق بها في مقدمة الكتاب على هيئة ثلاث صفحات تتلوها صفحة بيضاء قبل الانتقال إلى الكلمة التالية، وكانت لأحمد بهاء الدين!
ومن المهم أن ننقل للقارئ فقرة إبراهيم فرج الجميلة والفائقة في مجاملتها في تقييم مكرم:
“لم يكن مكرم عبيد ملكاً لنفسه أو لأسرته، كان ملكاً لأمته، ولذلك فكل الذين انشقوا على الوفد دون استثناء نبذتهم الأمة وأخرجتهم من حظيرتها إلا شخصاً واحداً هو مكرم عبيد، فقد ظل رغم خروجه من الوفد قابعاً في وجدان الأمة التي استشعرت الأسي العميق على ما حدث بينه وبين صديق عمره وقرين منفاه”.
“لقد تساءل كثير من المؤرخين وظلوا يتساءلون: كيف حدث هذا؟ كيف فات على عبقرية مكرم عبيد وذكائه السياسي وعقله الفذ المستنير أن يتنبه إلى أحابيل الشياطين والدساسين، لكن القدر شاء أن يحدث ما حدث وأن يبقي الأصل قائما في قلب مكرم وقلب النحاس، وعبر مكرم عنه عندما كان يشارك في تشييع جثمان صبري أبو علم في عبارته البليغة: كل شيء يحدث ويفني إلا حب النحاس لمكرم، وحب مكرم للنحاس، وصدق مكرم وكذب الدساسون المنافقون”.
أما الأستاذ خالد محمد خالد فقد قدم أكثر العبارات والفقرات رصانة وحبا ومجاملة في وصف رؤيته المحبة لعبقرية مكرم وهي كما نرى رؤية شابة استبقتها ذاكرة صاحبها البليغ:
“أما عبقريته فكانت أفاقها كثيرة، وعطاياها غزيرة، وإلهاماتها دفّاقة ومثيرة، بيد أني أجمع ذلك كله في أنها كانت ـ بعد عبقرية سعد زغلول ـ لسان العصر وكلمته، وتعبيره وفكرته، واتقاده وحماسته، وبعبارة واحدة كان «الموصل الجيد» بين عبقرية العصر، وروح التاريخ، ومسيرة الحرية، وإرادة الشعب!! ورجل تستوطنه كل هاتيك العظائم، من الحق أن يكون عظيما!!”.
“وإنه لمن ذكاء الصدف ومحاسنها أن أدعي من السيدة مني مكرم عبيد لكتابة هذه المقدمة المتواضعة، في الوقت نفسه الذي تنشر فيه «مذكراتي» التي تنتظم بين وقائعها ومشاهدها قصتي مع مكرم بيد حاكية آثار عبقريته في تكويني كخطيب وكاتب، وفي تنمية وتعلية وشفافية إحساسي بجمال الكلمة وموسيقاها، وروعة الإلقاء، وسحر الأداء، مما يجعلني أقول بحق واعتزاز: إن مكرم عبيد كان في هذا المجال، وبهذه المثابة، أحد أساتذتي الكبار الذي تعلمت منهم وانتفعت بهم!! كان العصر الذي تألق فيه مكرم وتألق، عصر التمكين لأهداف ثورة 1919 في ضمير الأمة وسلوكها وعصر تحقيقها، وتوثيقها، وكان عصر البلاغة والبيان، ومن ثم كانت الكلمة الأنيقة، الحافزة والموعزة، المسكرة والمبهرة، أحد أسلحته وأقواها ، واعتاها وأبقاها!!. وكان مكرم عهدئذ أمير البيان، وفنان الكلمة، منطوقة، ومسطورة، منذرة، وبشيرة، وديعة، ومثيرة!!من أجل ذلك كان دوره في إذكاء الوطنية تميزا وفريدا، كذلك كان العصر عصر السياسة، فقد انتهت الثورة المسلحة ببعض تنازلات تقدمت بها بريطانيا، متهيئة المناخ لوسائل أخري تعتمد على الحوار والتفاوض، أي على الدبلوماسية والسياسة، وكان مكرم بشهادة خصومه «ابن بجدتها»، وداهية دواهيها!!».
الوفاة
توفي مكرم عبيد باشا في 5 يونيو 1961 ونعاه مصطفي النحاس باشا ببرقية، فقد كان وقتها ممنوعا من مغادرة منزله، وعلى نحو ما شارك مكرم باشا في تشييع الإمام الشهيد حسن البنا فقد شارك أنور السادات رئيس مجلس الأمة في ذلك الوقت في جنازته، وألقي كلمة تأبينه في الكنيسة المرقسية (الرئيسية) وكانت لاتزال قائمة في مقرها القديم بالأزبكية .
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا