يُهاجم هذا المرض المُجتمعات البشرية الناهضة في فترات الأزمات المعنوية التي تدفع أفرادها إلى أن يُراجعوا أنفسهم وتاريخهم وعلاقاتهم بالدين والقيم والتاريخ، يستهدف هذا المرض مراكز العاطفة الراقية في المخ البشري فيضغط عليها بجزء من دعاوى منتثرة من أجل تشويه الصورة الكاملة على نحو شبيه بمن يضع شيئا مُظلما على العينين ليُقلّل مدى الرؤية المُتاح أمام العينين فتُصبحُ الصورة الناشئة عن النظر غيرُ قادرة على تصور ما هو مطلوب رؤيته وإنما تُصبح الصورة المُتاحة مُعبرة عن جانب من الجوانب أو جزئية من الجُزئيات فحسب. هكذا تُصبح الصورة البصرية المُتاحة عبر العين المقيدة المجال قريبة من الصور التي استخدمت حاسة اللمس في تكوينها بدلا من حاسة البصر فيوصف الفيل بأنه صلب جدا لأن الواصف لم يتلمّس إلا نابه، أو بأنه رخو جدا لأنه تلمّس خرطومه فحسب.. وذلك على النحو الذي صوّره الشاعر الإنجليزي المشهور.
ينتمي مرض الذئبة الصفراء إلى أمراض المناعة الذاتية، يستهدف ثقة الأمة (أو المجتمع) في رموزها فيُبدّدُ كل نواحي عظمة أي رمز من الرموز بأن يدفعُك دفعا إلى الخوض في موضوع اتهام محدد مسقط لاعتبار هذا الرمز أو هذه الشخصية.. وعلى الرغم من أن هذا المرض لا يقول ولا يؤمن بالكمال البشري لكنه يتغاضى عن هذه الحقيقة من أجل الخوض في الشائعة التي يُراد ترديدها أو النقيضة التي يُراد إلصاقها وبالطبع فإن هذا المرض لا يعترف بحُرمة الخوض في الأعراض لأنه بطبيعته مُخترق لهذه المنطقة بل إنه عادة يُدمّرها وهو في طريقه إلى موضع إصابته لهدفه. هو إذاً الأخ الشقيق لمرض الذئبة الحمراء حيث تُهاجم أجهزة الجسم نفسها وتأكل نفسها، وذلك تحت شعار المناعة، والأصل في خلايا المناعة أن تُهاجم الأجسام الغريبة لكنها في هذا المرض تخطئ فتُشخّص نفسها على أنها غريبة ومن ثم تُهاجم نفسها.
لا ينتشر مرض الذئبة الصفراء من تلقاء نفسه وإنما تقوم الأجهزة أو الدول المُعادية بنشره، ذلك أنه يفعل في الشعوب ما لا تفعله الأسلحة الفتاكة، وذلك على نحو ما أن مرض الذئبة الحمراء يفوق في آثاره المُدمّرة أي تسمّم من السُموم المعروفة التي يُمكن علاج حالاتها الحادة بسرعة ويُمكن علاج حالاتها المُزمنة ببرامج طويلة الأمد لكنها تنتهي بالشفاء وتضمن تقليل الآثار السُمّية طيلة فترة العلاج. لكن مرض المناعة الذاتية في صورتيه الحمراء والصفراء يتطلّبُ اهتماما مُكثفا وعلاجات مُعقدة ومواظبة على العلاج، ومُتابعة دورية يقظة قادرة على تطوير العلاج
وهنا فإننا نُواجه بواقع مؤلم وهو أن هياكلنا ليست مُستعدة بالقدر الكافي لعلاج مرض الذئبة الصفراء، ومن المُؤسف أن نقول إن هذا المرض لا يزال ينتشر بمعدلات وبائية، بل إنه يجد تشجيعا في كثير من الأحيان بسبب السياسات قصيرة النظر، بل إن الأدهى والأمر أن الإصابة به أصبحت تسيطر على كثير من وسائل الإعلام الخاصة ببعض جماعات الإسلام السياسي والجماعات السياسية المدنية النازعة إلى احترام حقوق الإنسان، والأخطر من هذا كله أن “ثمار” هذا المرض من الحالات الجديدة الناشرة للعدوى تجد فرصة مواتية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، لكني مع هذا أقول ما أعتقد أنه الحق وهو أن حالتنا الوبائية الراهنة هي أكبر فُرصة حقيقية لمواجهة هذا المرض والتغلّب عليه بالعلاجات الناجحة التي سنحتاجها مع كل حالة.. ذلك أن من طبيعته أنه تتجدّدُ الإصابة به، وأن كل حالة من حالاته تحتاج إلى علاج، فكما أن الأخوين المُصابين بالتيفويد لا بد أن يُعالجا كلاهما وأن الأختين المُصابتين بنقص الدرقية لا بد أن تُعالجا كلتاهما، فكذلك الإصابة بالذئبة الصفراء لا بد من مُعالجة كل حالة منها على حدة، صحيح أن الوعي بالعلاج يُسهّل العلاج لكن لا بد من العلاج وإلا تدهورت الحالة.
ربما يكون من المفيد أن أشير إلى السبب الذي دفع القوى المُعادية لنا إلى نشر الذئبة الصفراء في حالات مُحدّدة أبدأ بأربعة من أشهرها مع وعد باستكمال الحديث عنها بتفصيل أكثر، وبتاريخ أطول. فالسبب الذي تهاجم أم كلثوم من أجله ليس هو الثأر لأسمهان التي لم يكن لأم كلثوم يد في قتلها، وليس سلوكياتها الشخصية أو المتوائمة مع الطغيان وإنما السبب الحقيقي هو غناؤها الرائع للمدائح النبوية وفي مُقدّمتها وُلد الهُدى فالكائنات ضياء.. هذه الأغنية بلحنها وبأدائها وبكلماتها الساحرة تستنفر مشاعر دولا بأكملها لا تُطيق سماع هذا المديح النبوي.. فما بالك مما تضمّنته هذه القصيدة من تقييم للمذاهب السياسية وصل بشوقي إلى قوله الرائع: داويت متئدا وداووا طفرة /وأخف من بعض الدواء الداء.. ماذا ترك هذا البيت من أسانيد لأي مُتهور أو لأي سياسي مُندفع بأية أيديولوجية (وليس الأيديولوجية الشيوعية وحدها). لهذا السبب فإن دولا وأجهزة بأكملها مُستعدة لإنفاق المليارات لتشويه أم كلثوم التي نشرت هذه الكلمات.. ومن العجيب أن يُردد أيّ إنسان مُحب لوطنه أو مُحب لدينه أو مُحبّ للنبي عليه الصلاة والسلام الأسطوانات المشروخة في الحديث عن أم كلثوم وهو لا يعرف ما وراء الأكمة.. أما أم كلثوم الإنسانة فقد رحلت بأوزارها ومزاياها وعُيوبها ولم تعُد تطلب من هذا الذي يُهاجمها غُفرانا ولا أجرا ولا مديحا.
أقفز من الفن إلى السياسة لأذكر بكل وضوح أن السبب في الهجوم اليساري والعلماني الضاري على سعد زغلول باشا هو موقفه الواضح الصريح الذي وقف به ضد طه حسين وعلي عبد الرازق في قضيتي الشعر الجاهلي والخلافة الإسلامية وموقفه الصريح الواضح في انتماء الأمة إلى الإسلام وإلى تراث الإسلام.. مع أني أقدّرُ أيضا مدى تمكّن هذه الأخلاق الإسلامية من علي عبد الرازق وطه حسين (على عكس ما يروج الكثيرون) هذا هو السبب الجوهري في الهجوم العلماني على سعد زغلول ومن العجيب أن هذا الهجوم العلماني على سعد زغلول لا يجد أرضا ينبت فيها إلا في بعض مواقع الإسلاميين الذين لا يعرفون تاريخهم الحقيقي وينخدعون بمرض الذئبة الصفراء فيجعلونه (لأنه يبدو في صورة صديق) يأكل ذاتهم على نحو ما تفعل الذئبة الحمراء.
أنتقل من المثل الثاني إلى مثل ثالث من المذهل أنه يبدو وكأنه مقلوب المثل الثاني وهو الهجوم على طه حسين وادعاء تنصُرّه وحربه على الإسلام والحقيقة المذهلة أن السبب في تشويه طه حسين لم يكن سياساته ولا علاقته بالغرب وإنما كان هو إسلامياته التي لا ترقى إليها ذرة من الشك في صدقها وفنيتها وجاذبيتها وحبها للإسلام ولبني الإسلام ولصحابة بني الإسلام. ومع هذا فإنه بعد كتبه الرائعة عن الإسلام وتاريخه المشرق تجد من لم يقرأ سطرا في تاريخ الإسلام وهو يظُن أنه سيُثاب على هجومه على طه حسين بدعوى أنه تنصر أو أنه يشُكك في ثوابت الدين مع أن أحدا لم يخدم الإسلام والتاريخ الإسلامي في “الجامعة” (واللفظ عام يشمل كل الجامعات العربية والإسلامية بما فيها الأزهر نفسه) مثل ما خدم طه حسين الإسلام وتاريخ الإسلام ولغة الإسلام من باب أولى.
المثل الرابع قد يكون مُثيرا للتفكير العميق، وللأسى على ما أصاب التزييف من وعي، فأنت ترى كتابات عربية تُهاجم الزعماء الأقباط المصريين في ثورة 1919 بأنهم باشوات وعملاء للاستعمار أو من طبقة الباشوات بينما كانت أغلبيتهم أفندية وطنيون، أما السبب الحقيقي في هذا الافتراء فهو أن هؤلاء الأقباط الوطنيين لم يقبلوا بما كان الإلحاح الغربي يحُثّهم عليه ليلا ونهارا من أن يُصروا على أن تكون لهم نسبة مُحاصصة في البرلمان والوظائف، ومن المُشرّف لمصر وأقباطها أن هؤلاء الأقباط رفضوا هذا المبدأ حتى عندما طُرح في اللجنة التي وضعت دستور 1923 لكنهم بهذا استحقوا غضب ونقمة القوى الغربية، ومن العجيب أن مرض الذئبة الصفراء يفتري عليهم أنهم عُملاء للمُحتل وأنهم كونّوا ثرواتهم من خلال علاقتهم بالمُحتل البريطاني أو الفرنسي، مع أن الحقيقة تقول إن دولة الخلافة العثمانية وليس غيرُها هي التي صنعت بطرس باشا غالي وأمثاله وكرّمتهم.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا