نبدأ بالقول بأن الأدب العربي تمكن من خلال بيانه الناصع أن يجلى كثيرا من المعاني التي قدمها الأدب الفرنسي بأفضل مما جلّاها البيان الفرنسي، والدليل على هذا حي متجدد لا ينازع فيه أحد، وهو دليل حي على عظمة تلك المعاني وذلك البيان، وقد كان الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي صاحب الفضل الأوفى على الأدبين العربي والفرنسي حين عرّف الأول بالثاني على نحو رائع وغير مسبوق، ولا يمكن لنا أن نتصور هذه العلاقة من دون ما تمتع به المنفلوطي من الذائقة الفائقة والعبقرية القارئة.
ولا شك في أن نصوص المنفلوطي ذات الأصول الفرنسية تدل على عبقريات متراكبة مع بعضها فهي تحفل بصدق في التعبير وبلاغة في التأثير ربما تفوق أصلها الفرنسي مع اعترافنا بالفضل لأصحابها الفرنسيين العظماء، ومن المفيد لتاريخ الأدب أن نلخص هذه العلاقة بطريقة الفلاش باك أي بادئين من المنتج النهائي أي من خلال أعمال المنفلوطي المنشورة.
– أما العبرات فهو كتاب قصصي يضم ثمان قصص طويلة معربة تضمنت الأفكار الأصلية بعد أن صيغت في ثياب أخرى استوحى المنفلوطي فيها النسيج العربي في الأحداث وقد وظفه المنفلوطي بحاسته بحيث يكون أقرب إلى تحقيق الغاية من النص الذي ترجموه له. وقد ألف المنفلوطي ثلاث قصص من القصص التسع التي نشرها في العبرات وهي: الحجاب، اليتيم، الهاوية أما العقاب فقد اقتبسها من صراخ القبور لجبران خليل جبران وأما الخمسة المعربة عن الفرنسية فهي: الشهداء، الذكرى، الجزاء، الضحية والانتقام، ومن بين هذه النصوص التي تضمنتها العبرات ترجم المنفلوطي واحدا من أشهر الآثار الأدبية الفرنسية شهرة وقيمة وهي “غادة الكاميليا ” لالكسندر دوماس الابن (1824- 1895) عضو الأكاديمية الفرنسية وقد نُشرت لأول مرة 1848 وتحولت إلى عدة أفلام كما تحولت إلى مسرحية وأوبرا هي المعروفة باسم أوبرا لاترافبيتا، يعلم القراء جميعا أن اسم بطلتها مارجريت، وأنها تموت بعد أن تعترف للقسيس بخطاياها. كما ترجم رواية “اتالا” التي نشرت 1801 من تأليف الفيكونت دو شاتو بريان (1768-1848).
– ما جدولين: نشرها المنفلوطي (مايو 1912) ملحقة بالنظرات وهي تعتمد على نص “تحت ظلال الزيزفون” للكاتب الفرنسي ألفونس كار (1808-1890) وكانت قد صدرت بالفرنسية 1832 بعنوان Sous les Tilleuls.
– رواية “في سبيل التاج” نشرها المنفلوطي في عام 1920 ولقيت في المحيط العربي ما لم يصل إليه أصلها الفرنسي Pour la couronne من تأليف عضو الأكاديمية الفرنسية فرانسوا كوبيه (1842 ـ 1908) الذي اشتهر بلقب الشاعر المتواضع وقد ألفها 1895.
– “الشاعر” نشرها المنفلوطي في مايو 1921 وتعتمد على نص مسرحية “سيرانو دي برجراك” من تأليف عضو الأكاديمية الفرنسية إدمون روستان الذي تصادف أنه ولد قبل المنفلوطي بثمانية أعوام وتوفي قبله بستة أعوام 1868 – 1918. وقد نشرت هذه المسرحية بالفرنسية في نهاية 1897 وانتجت في العام التالي وسرعان ما ترجمت للغات كثيرة وكان مؤلفها الشاعر روستان قد اشتهر بمسرحيته النسر الصغير عن حياة نابليون الثاني الذي هو ابن نابليون من ماري لويز.
– “الفضيلة” نشرت في 1923 وتعتمد على نص مشهور في الادب الفرنسي “بول فيرجيني” من تأليف عضو الأكاديمية الفرنسية وعالم النبات الفرنسي برناردين دي سان بيير (1814-1737) وكانت قد صدرت بالفرنسية 1787 وقد خلد الفرنسيون مؤلفها بتمثال برونزي جميل في ميدان بميناء لو هافر الذي يسافرون منه إلى بريطانيا وجعلوا عند قدميه صبي وصبيه عاشقين يتصافحان.
ونعود إلى ما هو متوقع من البدايات التقليدية، حيث بدأت ترجمة الأدب الفرنسي في مصر على نطاق واسع مع عودة البعثات، وبالطبع فإن جهد الشيخ رفاعة الطهطاوي يأتي في المقدمة فقد ترجم مغامرات تليماك وهي رواية ألفها فينيلون (1651 ـ 1715) واختار لترجمته لها عنوانا مسجوعا: “مواقع الأفلاك في أخبار تليماك”.
ثم يصعد منحنى ترجمة الأدب الفرنسي بشدة على يد محمد عثمان جلال (1828 ـ 1898) الذي ترجم “بول وفرجيني” للأديب سان بيير (1737 ـ 1814) وهي نفسها الرواية التي نشرها المنفلوطي بأسلوبه فيما بعد باسم “الفضيلة”، أما محمد عثمان جلال فكان قد ترجمها بعنوان “الأماني والمنة في حديث قبول ورود جنة” وهو ما يدلّنا على مدى وحجم الخطوة المتقدّمة التي خطاها المنفلوطي، كما نقل محمد عثمان جلال مجموعة من مسرحيات راسين التراجيدية بعنوان “الروايات المفيدة في علم التراجيديا” ومجموعة من مسرحيات موليير الكوميدية بعنوان “الأربع روايات من نخب التياترات”، وترجم مأساة كورني تحت عنوان “السيد” وترجم “خرافات لافونتين” شعرا تحت عنوان “العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ” وهكذا يمكن لنا القول بأن محمد عثمان جلال يمثل قمة مرحلة من مراحل الترجمة عن الفرنسيين.
ثم جاءت المرحلة الساطعة التي بدأنا بالحديث عنها في معرفة الأدب الفرنسي على يد المنفلوطي الذي استطاع أن يقدّم الأدب الفرنسي في صورة أحبّها كل قارئ للعربية، على نحو ما أشرنا. وبالمواكبة لجهد المنفلوطي فقد قفز الشاعر حافظ إبراهيم بالأدب الفرنسي المُترجم قفزة كبيرة حين ترجم جزءا من “البؤساء” لفيكتور هوجو بأسلوبه الرائع الذي لا يقل سحرا عن أسلوب المنفلوطي ونحن نعرف أن البؤساء تعتبر في نظر كثير من النقاد بمثابة أفضل روايات الأدب الفرنسي إذ صورت ببراعة فائقة مظاهر الظلم الاجتماعي في الفترة ما بين سقوط نابليون والثورة على لويس فيليب، ويُروى أن هوجو ألفها في 14 عاما وبطلها سجين سابق ظل الظلم مُسيطرا على حياته حتى بعد أن خرج من السجن.. وقد كانت ترجمة حافظ إبراهيم للبؤساء بمثابة فتح في علاقة العرب بهوجو، فها هي أحدب نوتردام التي كانت نُشرت لأول مرة في عام 1893 من أعمال فيكتور هوجو تجد حظها في العربية أيضا، ونحن نعرف أن هذه الرواية منحت مؤلفها لقب شكسبير الرواية وتحولت إلى أفلام سنيمائية عديدة ارتبط التصوير فيها بلقطات كنيسة نوتردام الشهيرة التي هي أحد معالم باريس.
جاءت المرحلة الرابعة وهي مرحلة جريدة السفور (1915 ـ 1925) لصاحبها عبد الحميد حمدي والتي كانت القصص المترجمة من الفرنسية ركنا من أركانها وإلى هذه المجلة التي شارك فيها عدد ممن لمعوا إلى أقصى حد بعد ذلك يعود الفضل في تعريف القراء العرب بالأسماء الكبيرة في الأدب الفرنسي وفي مقدمتهم جي دي موباسان (1850 ـ 1893) الذي يُعدّ رائد القصة القصيرة في الأدب الفرنسي، وأذكر في هذا المقام تعبيرا جميلا للدكتور حسين فوزي يقول فيه بصورة تلقائية وعرضية عن زملائه أبناء المدرسة الحديثة (أحمد خيري سعيد ومحمود طاهر لاشين ويحيى حقي..) إنهم أبناء موباسان.
وفي هذه المجلة نشر محمد تيمور ومحمود تيمور أعمالهما بل إنهما توليا المسؤولية عن المجلة عام 1918 حين شُغل صاحبها بإصدار جديد. وبطريقة شبه تقريبية فإنه إذا كان يوسف ادريس فيما بعد قد عرف بأنه تشيكوف مصر فإن محمود تيمور كان قد عرف بأنه موباسان مصر. وقد صل تيمور في اقتدائه بموباسان مع حرصه على التعبير عن الفكرة الإسلامية في قصصه أنه لم يختلف مع قصة من قصص موباسان إلا في وصف موقف بطل القصة المصرية من المرأة فبينما يعتقد القس أو رجل الدين المسيحي (بطل قصة موباسان) في كراهية المرأة وعدم طهارتها وغوايتها الدائمة للرجل فإن البطل في قصة تيمور يحترم المرأة ويُقدرها ويدافع عن المرأة بكل ما يملك متأثرا بعقيدته الإسلامية (قصة “رب لمن خلقت هذا النعيم”).
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا