الرئيسية / المكتبة الصحفية / كيف كانت ثورة 1952 تتمرد على قادة القوات المسلحة

كيف كانت ثورة 1952 تتمرد على قادة القوات المسلحة

يُمكن للباحث التاريخي أن يرصد حقيقة لم يصرح بها أحد أن كل ما أنجزته القوات المسلحة لنفسها بعد حرب 1956 وقبل هزيمة 1967 كان بجُهد المشير عبد الحكيم عامر المطلق، ولو استطاع الرئيس عبد الناصر منعه أو إيقافه لفعل. بل أكثر من هذا فقد كان اللغط حول مُميٌزات قادة الأسلحة (الجوية والبحرية.. الخ) يصدر عن الرئيس عبد الناصر نفسه لا عن الساسة المدنيين أو العسكريين.

حتى إنه كان يستكثر على قائدي البحرية والجوية أن يكونا وزيرين، مع أنه لو سأل التاريخ لوجد أن البحرية كان لها وزير مُستقل قبل مولده، وأن الجوية لو وُجدت قبل مولده لكان لها هي الأخرى وزير مُستقل. وربما يطول الأمور في مثل هذه الجزئيات التي عرضت لها بالتفصيل من قبل في كثير من كتبي من خلال الروايات والدراسات والرؤى، لكني أظن أن الفكرة قد اتضحت.

وإذا كنا قد عنينا في مواضع متعددة بتأمل ومتابعة مظاهر التمرٌد من جانب القوات المُسلٌحة على الرئيس جمال عبدالناصر فمن باب أولى فلنبحث عن تمرٌد الرئيس عبد الناصر نفسه على قيادات القوات المُسلحة على مدى الفترات الطويلة منذ 1952 وحتى 1967 ولنسأل أنفسنا عما يوحي به شغل الرئيس عبد الناصر لمناصب الوزراء والمحافظين والسفراء والمديرين ورؤساء مجالس الإدارة برجال القوات المسلحة فنتساءل بكل وضوح هل كان هذا الشغل للوظائف الذي كان بمثابة عسكرة للحياة المدنية تحكيما للمؤسسة العسكرية أم أنه مكان في أغلبه اختيارا وتوظيفا للزملاء والمعارف وأهل الثقة ممن أُتيح للرئيس عبد الناصر وزملاء الرئيس عبد الناصر أن يتزاملوا معهم على مدى خدماتهم العسكرية التي لم يؤدوا غيرها من خدمات وظيفية؟

المجالات الأخرى التي لم تكن تستلزم إثبات وجود ثقافي فإنها أيضا لم تحتفظ للعسكر الذين تولوها بأية خبرة أو قيمة مهنية مرتبطة بالقطاعات التي تولوها.

ترينا الروايات والدراسات أن الاحتمال الثاني هو الأرجح، فقد كان وجود هؤلاء الوزراء العسكريين بمثابة شغل مواقع ولم يكن بمثابة تطبيق لأيديولوجية أو فرضا لتوجهات، والأدلة على هذا كثيرة منها أن أكثر من تسعين في المائة ممن شغلوا هذه المواقع انتهت علاقتهم بها بخروجهم من الوزارة فيما عدا الاستثناء الوحيد الذي يُؤكٌد القاعدة وهو الوجود في بعض المواقع الثقافية التي لا يتحقٌقٌ الوجود فيها أصلا إلا بحد أدنى من المعرفة التي تُمكٌنُ من الاستمرار في كل الظروف مع اختلاف مستويات هذا الوجود أما المجالات الأخرى التي لم تكن تستلزم إثبات وجود ثقافي فإنها أيضا لم تحتفظ للعسكر الذين تولوها بأية خبرة أو قيمة مهنية مرتبطة بالقطاعات التي تولوها.

هل أستسمح القارئ في أن أعرض عليه الآن حقيقة صادمة تُثبت مدى الابتعاد عن تقدير كفاءة الرجال اعتمادا على فكرة الاستجابة لإلحاح المتقربين وتمكينهم من نوال القُرب؟ أي أن الرئيس عبد الناصر نفسه كان يولي المناصب من يُلح عليه بالطريقة المباشرة في أن يكون يده (حتى لو كان من المدنيين) بدلا من أن يبحث عمٌن يستحق (حتى لو كان من العسكريين الذين لم يعرفهم أو لم يشعُر بالود تجاههم)، إليك مثلا يستحق الوصف والتأمل.

هذا هو الدكتور عزيز صدقي الذي حصل على الدكتوراه وكان في الأصل مهندسا معماريا ثم وصل إلى الرئيس عبد الناصر عن طريق مكتب مجدي حسين المشرف على مديرية التحرير، يصل إلى أن يُصبح وزيرا للصناعة منذ 1956، ثم أصبح نائبا لرئيس الوزراء كنموذج لمدني أصبح من أهل ثقة عبد الناصر. كان هذا المدني الذي أصبح أهل ثقة للرئيس عبد الناصر زميلا في المدرسة الثانوية لطالب متفوق لم يكن يقلُ عنه ذكاء ولا ألمعية ولا قُدرة على النجاح والإنجاز والتجلٌد والصبر والعلم، وقد حصل زميل عزيز صدقي على مجموع مرتفع أهٌله لدخول كلية الطب لكنه تركها بعد فترة ليلحق بحُلم حياته في الكلية الحربية ليكون خليفة لوالده الذي كان ضابطا، وتوفي في شبابه، وتخرٌج هذا الضابط في الحربية (سابقا كل زملاءه) وتخرج في أركان الحرب سابقا كل زملاءه، وكل الدفعات السابقة عليه، وعُرف بالالتزام والتفوٌق والإبداع،

وكان الرئيس عبد الناصر نفسه يعرف عنه كل ذلك، لكنه لم يشأ أبدا أن يستفيد منه لا في الجيش ولا في غير الجيش، بل تركهم يُبعدونه إلى وظائف هامشية حتى حدثت الهزيمة في 1967 وطلب الرئيس عبد الناصر ممن اختاره قائدا عاما وهو الفريق فوزي أن يُرشح من يكون رئيسا للأركان، كما طلب ممن يعرفون الحقيقة المُجرٌدة نفس الطلب فكانت إجابتهم الحقيقية هي نفسها إجابة الفريق محمد فوزي، وهكذا عين الرئيس عبد الناصر رئيسا جديدا لأركان القوات المسلحة المصرية كان صالحا بل جديرا بأن يكون رئيسا للأركان قبلها بثلاثة عشر عاما على الأقل لكنه لم يشأ ان ينظر إليه طيلة هذه المدة بينما نطر إلى زميله المدني (وزملاءه المدنيين).

أظن أن القارئ يعرف اسم هذا القائد الذي أُفضٌل ألاٌ أذكر اسمه بعدما وصفتُه بكل الصفات الكاشفة عن اسمه.. ذلك أن عدم ذكر الاسم هو المُعادل الموضوعي لما فعله عبد الناصر، والذي انقلب إلى النقيض بإرادة الله وحده، فأصبح هذا الاسم هو صاحب أكبر قدر من التخليد ناله ضابط مصري على الإطلاق فلا تخلو مدينة من مدرسة أو مسجد أو شارع باسمه. وهو مالم يُتح حتى للرئيس عبد الناصر والسادات معا.

هكذا كانت علاقة ثورة يوليو 1952 أو قائدها الرئيس عبد الناصر بالقوات المسلحة أو بالجيش، لا هو انتفع بها ولا برجالها، ولا هي أعطته الولاء إلا من خلال وسيط.

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com