الرئيسية / المكتبة الصحفية / كيف كانت ثورة 1919 نعمة من الله على المصريين والإسلاميين؟

كيف كانت ثورة 1919 نعمة من الله على المصريين والإسلاميين؟

كانت أول جُملة ألهمتني العدل والتعقل في وصف السِّمات الشخصية التي تتنازعُ قبول القُرّاء وسخطهم مقولة لإسماعيل صدقي باشا في وصف عيوب سعد زغلول باشا بأنها العيوب التي تُلازم الصفات الكبيرة، الجُملة مأخوذة من مثل فرنسي حكيم يجعلُك لا تتصارعُ مع الأمر الواقع وإنّما تتقبّلُه في إطار ما هو أكثر منه سعة ورؤية وامتداداً وعُمقاً، وما من شكٍ في أن العبارة كانت موفقة جداً في تعبيرها عن عيوب سعد زغلول باشا كما أنها ربّما تصلُح أيضا لتبرير بعض عيوب صدقي باشا الذي لم تكتمل له العظمة على النحو الذي اكتملت به عظمة سعد زغلول باشا.

 

كان من حُسن حظي أيضا أنّني حين كتبتُ عن زُعماء الحقبة الليبيرالية 1919 ـ 1952 بدأت بإسماعيل صدقي باشا 1875 ـ 1950 بكل ما تميّزت به شخصيته من وضوح وصرامة وصراحة في التعبير عن مُعتقداته المُعادية للديموقراطية في كثير من الأحيان، وفيما بعد عقدين من الزمان بدأت نشري الكُتُب الأخرى فصدر كتاب علي ماهر باشا ونهاية عصر الليبيرالية 1882- 1960 كما صدر الكتابُ الأكبر والأهم عن زعيم الأمة مصطفى النحاس باشا وبناء الدولة الليبرالية 1879- 1965 ثم صدر الكتاب الرابع عن محمد محمود باشا 1877- 1941 وزعامة الأقلية، وكان من المُقرّر أن يصدُر معه في وقت واحد الكتاب الخامس عن إبراهيم عبد الهادي: الباشا الذي يتحدّثُ عن نفسه.

بهذه الكُتُب الخمسة تكتملُ ملامح الاتجاهات الوطنية والفعلية والسياسية المُسيطرة على طبقة زعماء ذلك العصر ممّن يًسمّوْنَ في التاريخ الوطني بأبناء سعد زغلول باشا أو بلفظ أدق أبناء الزعيم الوطني المصري المُؤسّس الذي ربّما لا يكبُرُ بعضهم إلا بسنوات لا تصل إلى الجيل الكامل لكنه يُمثّلُ المظلة الكُبرى لنشاطهم السياسي وكفاحهم الوطني.

  

لا أزال أتصورّ الدارسين والباحثين الذين لم يشأ حظّهم أن يُصادفوا مثل هذا الترتيب في الدراسة والكتابة، وهم يجدون صعوبة نفسية هائلة إذا بدأوا الدراسة بالنحّاس باشا أو سعد زغلول باشا وعندئذ يجدون أنفُسهم غيرُ قادرين نفسيا ولا عقليا على المُضيّ في دراسة أيّ توجُه سياسي آخر بعيد عن الأغلبية، كما أنهم يقعون بسهولة شديدة في كمائن متعاقبة من التخوين والتعالي ونفي الآخر، كما أنهم ربما يفقدون ما تبقّى من قُدرةٍ عقليةٍ على تمييز الألوان المُختلفة للزعامة والقيادة والرئاسة. لكن البدء من توجّه “طرفي” كمثل إسماعيل صدقي باشا يُساعد الباحث على أن يمضي بسلام نفسي في محطّات الزّعامة ومحطات الوطنية كما يُساعده على تجاوز كل من مطبّات المذهبية والتأويل واستطرادات النزاعات والحزبية.

 

وهكذا أتاح الله سُبحانه وتعالى لي بفضله أن أدرُس ما يزيد على تسعين شخصية من شخصيات العصر الذهبي للمُمارسة السياسية المصرية التي كانت مضْرب المثل في ثرائها وإبداعها وإسهامها السياسي والتكنوقراطي على حد سواء، وهكذا فهمْتُ انشقاقات أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا في 1937 ومن قبلهم انشقاق الأحرار الدستوريين في مطلع العشرينات والسبعة ونصف في 1932 ثم مكرم عبيد في 1944 ونجيب الهلالي في 1950. وهكذا أصبحت الملامح الإنسانية في كل شخصية من هذه الشخصيات إذا ما أُجيد وصفُها قادرة على أن تُنير طريق الفهم والاستيعاب قبل أن تُضيء طريق التقييم والنقد. وعلى سبيل المثال فإني كُنتُ أرى الفارق بين اسماعيل صدقي باشا ومحمد محمود باشا يتمثّلُ في حرف واحد فإسماعيل صدقي هو المُتجبّرُ بالجيم بينما محمد محمود هو المُتكبّرُ بالكاف.

  

أستطيع الآن أن أُقاوم الاستطراد إلى شرح هذا الفرق، مُعتمدا على الإيحاء المُضيء الذي يُقدّمه الاختلاف بين الصفتين، ومُعتمدا على ما كتبتُه من قبل ممّا هو مُتاح في الكِتابيْن وعلى الشبكة العنكبوتية. لكني مع هذا الوضوح الذي دفعني إلى كتابة الفصول الكبيرة عن كلّ الزُعماء الباقين، ومنها ما نُشر مؤخّرا عن عدلي يكن وعبد العزيز فهمي ومكرم عبيد وحمد الباسل وفؤاد سراج الدين وأمين عثمان وغيرهم كنتُ أجدُ الجيل الجديد في مصر في أشدّ الحاجة إلى أن يعيش مع مثل هذه النصوص السياسية القادرة على إطلاع قارئها على السياسة من حيث هي القُدرة على الحكم على الأمور ومن حيث هي القُدرة على تغيير الأمر الواقع.

ولستُ أظنّ وسيلة أصلحُ من القراءة (التفاعلية) لتنمية الوعي بالسياسة من حيث هي مُمارسة ومن حيثُ هي علاقات فلسفية واجتماعية، ومن حيث هي تاريخ وجد بالفعل ثم من حيثُ هي أقوى مظاهر علم النفس الذي يُصوّرُ دخائل النفس الإنسانية على هيئة أقوال وأفعال يُمكن الحكم على صدقيتها من ناحية وعلى جدواها من ناحية أخرى.. ولا شك في ان الصدقية والجدوى هما المقياسان الأكثر أفضلية بين المقاييس الحاكمة للسلوك السياسي بكلّ ما يُعبّرُ عنه هذا السلوك من الفكر والأيديولوجيا والذكاء والقُدرة على التغيير.

 

ربما كان السؤال المهم في هذا المجال هو: ألمْ تشعُر بالأسى حين كنت ترى هذه الاختلافات بين زعامات لم يكن من المقبول منها أن تختلف مع اتحادها في الغاية والهدف؟ ربما تكون إجابتي معروفة سلفاً من كثرة ما أوحيتُ بها فيما كتبتُه أو تحدّثتُ به وهو أنّني على المستوى الشخصي كنت أتمنّى توهين الخلافات والتناقضات لكني على المُستوى السياسي والتاريخي كنت أرى الاختلاف هو الرحمة وهو النجاح بل إنني كنت (ولا أزال) أؤمن عن يقين بأن هذا الذي نراه من الاختلاف الحزبي هو صورة من صور التدافع الذي منّ الله به على البشرية، وجعله سببا لمنع الفساد.. ومع أنّ النص القرآني واضح في هذا المعنى فإن فهمه يتطلّبُ من قارئه أن يمرّ بتجارب كثيرة حتى يستطيع فهم معنى التدافع وفوائد التدافع ومخاطر غياب التدافع.

 

لا أريد أن أقفز إلى استنتاجات مشروعة من قبيل القول الصريح بأن حكم الفرد هو سبب فساد الأرض، ذلك أني أظن أنّ ما يراه المُعاصرون بأعيُنهم يُغنيني عن الحاجة إلى الشرح والتوضيح. كما أنني لا أريد ان أقفز إلى أقوال من قبيل أن التعدّد هو التعبير عن الصواب في حين أن الفردية تعبير عن الضلال، وبالطبع فإنّي لا أستطيع أن أتجاهل القول بأنّ الديموقراطية تعتمد في المقام الأّول على التّعدُد قبل أن تعتمد على الانتخابات والصُندوق والدستور فما جدوى هذه الآليات إذا لم يكن هناك تعدّد حقيقي قادر على أن يُعبّر عن نفسه بفروق واضحة وربما صارمة.

  

بقي السؤال الأخير: أيّهما أفيدُ أن يكون التعدّد علنيّا إلى درجة الصراع أم أن يكون صامتا على نحو ما يكون الأمر في عمل الفريق الواحد من البشر أو من الأجهزة، والإجابة بسيطة جداً وهي أن التدافع القائم على التعدّد يخلُق الحياة والصلاحية أمّا عمل الفريق فهو في أقصى تقدير مهما كان إنجازه يُحاول أن يجود المنتج أو أن يضبط الأداء فحسب.. وهكذا فإن الإنجاز الذي يُحقّقُه التدافع يكاد يبتلعُ كل إعجاز يحققه عمل الفريق مهما كان.

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com