بدأ حديثي من زاوية طريفة فأذكر أن أول العمداء المصريين لكلية العلوم المصريين (وهو مشرفة باشا) كان من خريجي مدرسة المعلمين العليا، وأن أول عمداء الكلية الثانية أي علوم الإسكندرية (وهو الدكتور حسين فوزي) كان من خريجي كلية الطب وأن أول عمداء كلية العلوم الثالثة أي علوم عين شمس (وهو الدكتور كامل منصور) كان من خريجي الزراعة، وهكذا فإن علاقة العلم بالتخصصات المهنية أو بما كان يسمي مدارس المهن كانت حاكمة ومسيطرة إلى هذا الحد.
وفيما بعد تخريج كليات العلوم لطلابها ودفعها لهم إلى الحياة العامة امتزج تدريس العلوم في التعليم الجامعي المصري امتزاجا تاما بالحياة العامة ولم يبتعد عنها بأي حال من الأحوال بل كان نظام التوظيف المصري يسمح في ذلك الوقت لخريجي العلوم أن يكونوا أساتذة المستقبل (أي أن يعينوا معيدين ويسلكوا سلك الأستاذية) في عدد من كبير من الأقسام والكليات، فقد كان بوسعهم أن يكونوا أساتذة في كليات الطب والصيدلة والطب البيطري والهندسة والزراعة والتربية والمعلمين والتجارة والاقتصاد.
وهو أمر طبيعي وإن تعجب له كثير من أبناء الأجيال الحالية من الذين سلكوا مسالكهم الجامعية في مسار واحد طويل أو في نفق واحد طويل على نحو ما حدث لجيلنا في مصر، وإن كان لم يحدث لجيلنا في المجتمعات الغربية فلا يزال العالم المتقدم يعيش بعيداً عن أسلوب المسارات المحددة سلفا وهو أسلوب من الأساليب العقيمة التي نعيش فيها في مصر، كما أن العالم المتقدم لا يزال بعيدا عن أن تنتشر فيه أو إليه روح التعصب المصرية التي أصبحت تظل الحياة العلمية. وعلى سبيل المثال فإنه يكفيني أن أذكر من أساتذتنا في كلية الطب أستاذ الكيمياء الحيوية الأشهر الدكتور محمد محمود عبد القادر الذي حصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم وقد كان لفترة طويلة رئيسا لقسم الكيمياء الحيوية في القصر العيني.
ويكفينا على صعيد مماثل أن نذكر من أساتذة كلية الهندسة الدكتور فؤاد محمد رجب أستاذ الرياضيات الأشهر الذي أثر عنه قوله المرح: أن الهندسة رفضته تلميذا وقبلته أستاذا. ويكفي أن أذكر من الذين درسوا الكيمياء في كلية الهندسة الدكتور مصطفى كمال حلمي وزير التعليم العالي والتربية والتعليم. ويكفيني أيضا أن أذكر من أساتذة كلية التجارة الدكتور محمد طلبة عويضة رئيس جامعة الزقازيق المؤسس الذي نال الأستاذية في كلية التجارة بعد أن وصل إلى درجة أستاذ مساعد في كلية العلوم التي تخرج فيها. قصدت من الأمثلة السابقة أن أشير إلى أن كلية العلوم البحتة على نحو ما كان اسمها في أول عهدها لم تكن منفصلة بأي حال عن الحياة المهنية والعلمية في جميع مستوياتها كما أنها بدأت وجودها على نحو ما أشرت مستفيدة من أرباب المهن أو من الذين بدأ تأهلهم لمهن أخرى قبل أن يتولوا شأن أستاذية العلوم وعمادة كليات العلوم.
وانتقل إلى الفكرة التي يجليها أحد كتبي المحبوسة عن النشر فأذكر أن علاقة أساتذة كلية العلوم الأولى الوثيقة بالثقافة العامة والثقافة العلمية والصحافة والمجتمع بدأت بداية موفقة من خلال اشتراكهم المبكر والقوي في تأليف لجنة التأليف والترجمة والنشر وهي اللجنة التي قامت بدور طليعي في نشر الثقافة والثقافة العلمية في مصر، وقد تناولت دور هذه اللجنة وتاريخها في أكثر من موضع من مؤلفاتي، لعل أشهرها حديثي عنها في كتابي عن مجلة الثقافة الذي صدر عام 1993، وفي كتاب الدكتور أحمد زكي الذي صدرت طبعته الأولى عام 1988 والثانية 2002 عام.
وإذا أردنا الإيجاز فإن فضل كليات العلوم ومن قبلها لجنة التأليف لا ينكر في عدة ميادين:
الميدان الأول: هو الكتاب المدرسي (والجامعي) مكتوباً بلغة عربية راقية سليمة مشرقة دقيقة.
الميدان الثاني: هو كتب تبسيط العلوم من ناحية والثقافة العلمية من ناحية أخرى.
الميدان الثالث: هو الكتب التي تناولت تاريخ وفلسفة العلم.
الميدان الرابع: والكتاب المترجم أو الترجمة على وجه العموم وترجمة العلم على وجه الخصوص.
الميدان الخامس: هو وضع المصطلحات العلمية في أثناء الترجمة وترتيبها وفهرستها في ملاحق المصطلحات وفهارس الكتب المترجمة وهو جهد مجمعي كما أنه جهد معجمي.
الميدان السادس: هو الأشهر وهو إنشاؤها المجلات والدوريات العلمية والثقافية، وعلى سبيل المثال فقد أنشأت لجنة التأليف مجلة الثقافة بكل ما تدل عليه التي عاشت (1939 – 1952) والتي كانت ملكاً خالصاً للجمعية، وقد أتي هذا الجهد بعد جهد بارز شارك به مجتمع هذه اللجنة جماعة وأفراداً في تحرير مجلة الرسالة وتأسيسها تحت رياسة أحمد حسن الزيات.
وبفضل هذه اللجنة وجهودها التي تحدثنا عنها في مواضع أخرى برزت أسماء كبيرة ورائدة في المجالات المرتبطة بالمثلث الذهبي الذي يجمع أضلاعه بين العلم واللغة والثقافة ويتبدى في تجليات مختلفة من الثقافة العلمية وتبسيط العلم وتاريخ وفلسفة العلم. ولما كان جيل خريجي كلية العلوم الأوائل يستهدي في حياته وإنجازاته بما سبقته من تجارب ناجحة فقد كان من الطبيعي في مجتمع متوثب وشاب أنهضته ثورة 1919 والحياة الليبرالية التي تلته أن يبدأ التأسيس المتخصص ذو الغاية المحددة، وهكذا أنشأ هؤلاء الخريجون الأوائل جمعية خريجي كليات العلوم وأنشأوا من خلالها مجلة أخرى رائدة وعظيمة الشأن هي رسالة العلم، ومن الواضح من اسمها أنها تستهدي تجربة الرسالة، وقد تولى القسط الأكبر من مسئولية هذه المجلة ونجاحها الدكتور عبد الحليم منتصر بكل ما أوتي من قدرات علمية وتنظيمية ولغوية وتحريرية.
وفيما بعد عقود فقد كان من الطبيعي أن يحاول عصر ثورة يوليو 1952 الوجود في هذه المنطقة وبخاصة في ظل استهداء الحكومة بالتجارب السوفيتية في العلم والعناية به يبد أن إسهامات عصر 1952 شابها ما شاب نشاط ذلك العهد من روح الروتينية والتقليد والشكلانية المحضة حتى أنك لا تستطيع أن تعثر للمجلة الرسمية التي أصدرتها الثورة في هذا الميدان وهي مجلة العلم أي نوع من أنواع التفوق أو التميز في الحياة العامة أو الثقافية.
ومع هذا فقد كان الزاد والمخزون السابق الممتد الأثر لا يزال يؤتى ثماره حتى من خارج مصر بيد أن التفوق الساحق ظل مرتبطا بكليات العلوم، فقد أصدر الدكتور أحمد زكي مجلة العربي في 1958 من الكويت وظل يقدم أروع وأعلى صور الثقافة العلمية من خلالها حتى وفاته عام 1975 كما أن عدداً من المجلات الثقافية العامة حرصت على أن تضم أبوابا ثابتة للثقافة العلمية تولاها علماء بارزون من الذين صقلتهم التجارب العلمية السابقة.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا