في 1933 سافر عدلي باشا يكن إلى فرنسا على عادته كل صيف، وتوفي في باريس في الساعة السابعة من صباح 22 أكتوبر 1933، ونقل جثمانه الى مصر.
عدلي باشا يكن هو أبرز زعيم مصري رزق بحسن الخاتمة، فقد كان هو رئيس مجلس الشيوخ حين داهمت مصر دكتاتورية صديقه إسماعيل صدقي باشا وحكمه العسكري في 1930 و انقلابه على الدستور، وحله لمجلس النواب، ووضعه لدستور بديل ، وتزويره للانتخابات التي أجراها لخدمة سياسته فما كان من عدلي باشا يكن إلا أن احتج على تصرفات صدقي باشا مرة بعد أخرى وانضم إلى الحركة الوطنية المناهضة للانقلاب، بل إنه اشترك في توقيع ما سمي الميثاق الوطني (وهو بيان المعارضة الذى أجمع عليه زعماء الشعب في مواجهة انقلاب صدقي) وحين وقع هذا الميثاق فقد قبل أن يكون اسمه الثالث بعد النحاس باشا ومحمد محمود باشا باعتبارهما زعيمي الحزبين الممارسين للسياسة يومهما، و ذلك على الرغم من أنه كان يكبرهما في السن، ويسبقهما في تولي الوزارة كما كان يسبقهما في تولي رياسة الوزارة، وعلى الرغم من أنه كانت له مكانة بروتوكولية متقدمة كرئيس لمجلس الشيوخ، بل وقد وصل عدلي باشا يكن في انحيازه للشعب ومحاربته للطغيان إلى أكثر مما هو مطلوب من مثله في سنه فآثر أن يلجأ إلى أقصي درجات الاحتجاج الممكنة واستقال من رئاسة مجلس الشيوخ، وهكذا رحل عن الدنيا في التاسعة والستين وقد قارب السبعين من عمره، وهو في أقصى درجات الفخار والعزة بعد حياة حافلة بالأمجاد والتكريم والتبجيل .
زعامة حقيقية
كان عدلي باشا يكن صاحب زعامة حقيقية، وعلى الرغم من أنه لم يكن يوما ما زعيم الأغلبية فقد كانت زعامته الثابتة خالية من التجاوزات والتشوهات وخالية أيضا من الترهلات والانتفاخات على حد سواء، وكانت زعامته هي الأولى من كل الزعامات المعاصرة له بوصف الزعامة الممشوقة وهي الصفة التي نستخدمها (طبيا وبلاغيا) في وصف القامة السامقة القوية المترفعة المستحقة للإعجاب.
لا يملك أي قارئ للتاريخ المصري إلا أن يسأل نفسه مرة واثنتين وثلاثاً: ما هي المقومات الخطيرة التي كان يتمتع بها عدلي يكن باشا (1864 – 1933) ليكون منافسا قويا لسعد زغلول باشا مرة واثنتين، ولا يعجبن القارئ من مثل هذا التقرير المختصر، ذلك أن سعد زغلول وعدلي يكن تنافسا في الجمعية التشريعية سنة 1913 لمن تكون الرئاسة للوكيل المعين (عدلي) أم للوكيل المنتخب(سعد)، ثم تبنيا رؤيتين مختلفتين في سياق مداولات الوفد المصري فإذا بالأغلبية تنحاز لعدلي على حساب سعد، ثم إذا حزب جديد يتأسس برئاسة عدلي باشا هو حزب الأحرار الدستوريين…. وحين توافق الحزبان الكبيران على الائتلاف في 1926 فإن الاتفاق تم على أن يتولى سعد زغلول رئاسة مجلس النواب وأن يتولى عدلي يكن رئاسة الوزارة، وهكذا.
وقد بلور الأستاذ محمد كامل سليم السكرتير العبقري لسعد زغلول أزمة الوفد الكبرى بأنها الخلاف بين سعد وعدلي، وجعل هاتين الجملتين عنوان كتابه القيم الذي صدر عن سلسلة «كتاب اليوم» في السبعينات.
ولابد للقارئ أن يفكر معي في الأسئلة المنطقية التي تتعلق بصياغة أو بصناعة أو تكريس هذه الثنائية فنحن نعرف على سبيل المثال، أن حركة الوفد المصري بدأت بمقابلة سعد زغلول، وعلى شعراوي، وعبد العزيز فهمي للمعتمد البريطاني على حين كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت هو رشدي باشا.. لماذا إذاً تبلورت الخلافات على أنها بين عدلي وسعد وليست بين رشدي وسعد؟ ونحن نعرف أن عبد العزيز فهمي اختلف مع سعد وأصبح بمثابة أبرز المختلفين معه من فريقه وحدث هذا بينما الوفد في باريس.. (بمن فيه عبد العزيز فهمي) على حين انضم عدلي للوفد بعد وصول الوفد إلى باريس.. لماذا إذاً بلور الخلاف على أنه بين عدلي وسعد ولم يبلور على أنه بين سعد وعبد العزيز؟
هكذا يمكن لنا أن نطرح كثيراً من الأسئلة.. وسنقرأ فيما يلي إجاباتها بطريقة شبه مباشرة، ولكن المؤكد أن عدلي قبل غيره من معاصري سعد كان هو صاحب القامة الطويلة التي تكفل له الوقوف بجوار سعد باشا بما كان لسعد باشا من قامة شامخة أبية مؤثرة مستحوذة على إعجاب القلوب والعقول.
هذا الحضور
وفي كثير من المصادر المتاحة نقرأ إشارات جيدة لشخصية عدلي يكن ولخلقه القويم النبيل، ومع احترامي لكل هذه الآراء فإني أحب أن أبدأ بذكر الأسباب والعوامل التي هيأت لعدلي يكن التمتع بهذا الحضور الضخم في تاريخنا الحديث قبل أن يتمتع على نحو أو آخر بهذه الشخصية.
بادئ ذي بدء فإن عدلي باشا لم يكن شأن معاصريه من المحامين أو القضاة وربما كان هو الاستثناء الوحيد بين هؤلاء الذين ناظروه فيما قبل اندلاع ثورة 1919، لم يكن عدلي باشا قانونيا بأي صورة من صور القانونيين الممارسين فلا هو قاض ولا هو محام ولا هو وكيل نيابة ولا هو مشتغل بالقانون وإنما كان عدلي باشا رجل إدارة مبرزا، حين كانت مهمة الحقوق لا تزال من مهام الإدارة.
نشأ عدلي باشا يكن في إحدى الأسر التي يرتبط نسبها بالأسرة العلوية الحاكمة فقد كانت جدة والده من أخوات محمد على باشا الكبير، وفي الثامنة من عمره اصطحبه والده إلى الاستانة فأقام فيها سنوات، وتعلم علوم عصره وأجاد اللغات، ثم عاد إلى مصر فعين منذ مرحلة مبكرة جدا موظفا في قلم الترجمة بوزارة الداخلية حيث عايش الحكومة المصرية في مستواها الأعلى ثم نقل إلى قلم المطبوعات. وسرعان ما اختاره نوبار باشا الذي كان أول رؤساء الوزارة المصريين سكرتيرا خاصا له في أثناء رياسته الثانية للوزارة (1885).
أضاف عدلي يكن، إلى هذا البعد الإنساني – السلطوي الذي بدأ به حياته الوظيفية بعدا مكانيا لم يتح لغيره بذات القدر الذي أتيح له به، فقد تقلد مناصب إدارية مهمة وعمل مديرا لخمس مديريات من مديريات القطر المصري، ومحافظا للقاهرة، وهكذا كان الرجل يعرف أقاليم مصر بأكثر مما يعرفها غيره. وقد بدأ هذه السلسلة من المناصب بأن عمل وكيلا لمديرية المنوفية (1891)، ثم وكيلا لمديرية أخرى تذكر بعض المصادر أنها هي المنيا وتذكر مصادر أخرى أنها هي الشرقية، ثم نقل وكيلا لمحافظة القناة، وفي سنة 1895 رقي مديرا لمديرية الفيوم، ثم نقل إلى المنيا، فالشرقية، فالدقهلية، فالغربية، ثم عين محافظا للقاهرة، وبهذا شغل منصب المحافظ والمدير والوكيل في ثمان من المحافظات والمديريات (هي القاهرة وخمس من مديريات مصر في الوجهين البحري والقبلي)، وهو رقم قياسي لم يحققه غيره، وكفيل بأن يجعلنا ندرك مدي ما كان يتمتع به من خبرة ميدانية، وعلاقات واسعة.
عين عدلي يكن مديرا لديوان لأوقاف حين كانت وزارة الأوقاف (في عهد الاحتلال البريطاني وفيما ما بين عهدين وجدت فيهما وزارة للأوقاف) قد تحولت إلى ديوان يتولى أعماله مدير له صلاحيات كالوزراء.
كما اختير عدلي باشا 1913 وكيلا للجمعية التشريعية وكان الوكيل المنتخب هو سعد باشا زغلول.
وهكذا فإنه في 1921 (حين كان رئيسا للوزارة للمرة الأولي) أو في 1926أو في 1929(حين كان رئيسا للوزارة للمرة الأخيرة) كان يستعين بخبرته في الحكومة وبمعرفته للرجال منذ أكثر من خمسين عاما، فقد رأي كل هؤلاء التنفيذيين والوزراء والمستوزرين شبابا ثم رآهم وهم يكبرون، والأهم من هذا أن هؤلاء رأوه وهو يراهم وهم يكبرون، أي أن عدلي يكن كان يعرف عن كل هؤلاء المبرزين ما يتيح لنظرته ،إليهم أن تكون على الدوام نظرة متمتعة بالقوة الكافية وقد كان لهذه الصفة التي نسميها الآن بالمعرفة المباشرة قدر كبير في المجتمع السياسي الذي برز فيه عدلي يكن.
تشكيلة من الوزارات
حظي عدلي باشا منذ 1914 بتشكيلة بديعة من الوزارات التي تولاها، فجمع بين وزارات الأرستقراطية الفكرية دون غيرها، فقد تولي وزارات الخارجية والداخلية والمعارف، ولم يشغل نفسه بغير هذه الوزارات. ومن الطريف أن أحدا لا يشاركه هذه التنويعة بين تلك الوزارات الثلاث إلا أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، وإن كان أستاذ الجيل قد تولي وزارتي الداخلية والخارجية بصفة رمزية شرفية على حد ما يقول التعبير المعاصر.
بدأ عدلي يكن مناصبه الوزارية في وزارة رشدي باشا الأولي (أبريل 1914) كوزير للخارجية، لكن فرض الحماية في ديسمبر 1914 ألغى وجود هذه الوزارة، وهكذا توليى عدلي باشا بدلا منها وزارة المعارف في وزارتي رشدي الثانية والثالثة، ثم الداخلية في وزارته الرابعة (أبريل 1914)، وقد تبادلا المواقع في هذه الوزارة فأصبح رشدي باشا وزيرا للمعارف خلفا لعدلي يكن الذي تولى الداخلية ولم يطل عهد هذه الوزارة أكثر من ثلاثة أسابيع.
وهكذا اشترك عدلي باشا في وزارات رشدي الأربع، وإن كان قد تولي ثلاث وزارات مختلفة (الخارجية ثم المعارف ثم الداخلية).
ثم إن عدلي باشا لم يقبل رئاسة الوزارة ولا الاشتراك في عهد الوزارات الإدارية الثلاث (1919 ـ 1921) التي حكمت في أثناء اندلاع ثورة 1919.
هكذا تولي عدلي يكن أثناء رياسته لوزارته الأولي رئاسة الوفد الرسمي للمفاوضات مع بريطانيا. وحين استقالت وزارته في ديسمبر 1921 ظلت البلاد بلا وزارة لأكثر من شهرين حتى قبل ثروت باشا تشكيل أولى وزاراته في عهد الملكية (مارس 1922).
وبعدما عاد عدلي يكن من مفاوضات 1921 مع اللورد كيرزون وهي جولة المفاوضات المصرية البريطانية التي عرفت في تاريخ مفاوضات الاستقلال باسميهما (عدلي – كيرزون 1921) اقترح جماعة من مؤيديه أن يؤلف حزبا يعارض سعد زغلول فرفض الفكرة وقال: “إن تأليف حزب ليعارض حزبا آخر في مسألة المفاوضة أمر غير معقول، لأن المفاوضات واستقلال الأمم لا يكونان إلا باتحادهما، ولا يمكن أن يكون لرجلين في وطن واحد رأيان مختلفان في هذه المسألة”، ولهذا اعتذر عن إجابة ما طُلب منه.
وقد عاد عدلي يكن باشا لتولي رئاسة الوزارة مرتين، وفي هاتين المرتين (الثانية والثالثة) أخذ بتقليد الاحتفاظ بوزارة الداخلية لنفسه مع رئاسة الوزارة.
وقد عاشت وزارته الثانية ما بين يونيو 1926 وأبريل 1927، أي أنها استمرت أكثر من عشرة أشهر، أما الثالثة فعاشت ما بين أكتوبر 1929 وأول يناير 1930، أي أنها استمرت لأقل من 3 أشهر، وكان خلفه في رئاسة الوزارة بعد وزارتيه الأولى والثانية هو ثروت باشا، أما خلفه في وزارته الثالثة فكان هو الزعيم الفائز بالانتخابات وهو النحاس باشا.
ألف عدلي وزارته الثالثة (1929) عقب إسقاط الشعب لوزارة محمد محمود باشا، فأجرى الانتخابات في شهر ديسمبر من تلك السنة، وسرعان ما تخلى عن الحكم ليتولاه حزب الأغلبية.
وفي عهد صدقي 1930- 1933 كان عدلي باشا في مقدمة مَنْ وقعوا الميثاق الوطني المناهض للحكومة وانقلابها، وظل متمسكا بهذا الميثاق معتذرا عن تأليف أي وزارة على غير قواعد الميثاق الذي وقعه ومجهضا بهذا الموقف أي كمين منصوب من أجل الحصول على التطبيع مع عهد ديكتاتورية وانقلاب صدقي باشا.
ظل عدلي باشا كما نعرف مشاركا بقدر كبير في أهم التحولات في مستقبل مصر في الفترة التي شارك فيها في السياسة الخارجية، أيا ما كان تقييمنا لنتائج مشاركته أو ما قبل به أو سعى إليه، فهو الذي قبل مع رشدي باشا بالحماية البريطانية وبعزل الخديو عباس حلمي وتولية السلطان حسين كامل محله واستمرار الوزارة كما هي، وقد حصل في مقابل هذا على صيغة من بريطانيا كانت بمثابة مستند رئيسي في مساعي الوفد المصري بعد هذا من أجل الاستقلال.
والأهم من هذا بالطبع أن عدلي باشا مع ثروت كانا صاحبي الفضل في تصريح 28 فبراير 1922 الذي صدر من جانب واحد، واعترف باستقلال مصر، وبدأت بناء عليه حياة سياسية جديدة في مصر فأعلنت الملكية، وأعلن الاستقلال، وعادت وزارة الخارجية إلى الوجود، ووضع الدستور وأجريت انتخابات تشريعية، وتشكلت وزارة حزبية، وافتتح البرلمان.. إلخ.
ولولا دخول عدلي باشا في ائتلاف 1926 ما عاد الحكم إلى الوفد والشعب، كما أن وزارته الثالثة في 1929 هي التي مهدت لعودة النحاس باشا.
ومن الجدير بالذكر أن عدلي يكن جاء إلى رئاسة الوزارة من أجل حل مشكلات لا من أجل المنصب ذاته، وبتوافق مع القوى الشعبية، فقد شكل وزارته الأولي في 1921 التي سميت وزارة الثقة بناء على توافق أو اتفاق مع الوفد، ولهذا السبب وحده فقد سميت هذه الوزارة بوزارة الثقة، وحين شكل وزارته الثانية فقد كانت وزارة ائتلاف مع الوفد بزعامة سعد باشا زغلول، وحين شكل وزارته الثالثة فقد كانت وزارة محايدة لإجراء الانتخابات التي تنتهي بأن يعود الوفد.
وهكذا يتبين لنا أن عدلي لم يصل إلى رئاسة الوزارة إلا باتفاق مع الوفد أو بموافقته، ولم يصل، إليها من أجل تحطيم الوفد أو معاداته أو القضاء عليه على نحو ما كان الهدف المعلن في وزارات الزعماء الثلاثة إسماعيل صدقي، ومحمد محمود، وأحمد ماهر.
إنجازات مهمة
ومع هذا كله فقد حقق عدلي باشا في وزاراته الثلاث عدة إنجازات مهمة، ففي عهد وزارته الثالثة على سبيل المثال واصل تنفيذ سياسة الإصلاح الزراعي المبكرة فوزع خمسة آلاف فدان على صغار المزارعين في الغربية (وهو ما حرصت ثورة 1952 على أن تخفيه من التاريخ). وأنجز إنجازاً مهما لمدينة الجيزة حين ضمها إلى المنطقة الممنوحة لشركة الكهرباء في القاهرة لإنارتها، موسعا بهذا من نطاق مزايا العاصمة لتشمل ما سمي بعد ذلك بالقاهرة الكبرى، وكان عدلي يكن باشا مع الملك فؤاد صاحب فضل في إنشاء المتحف الزراعي بالقاهرة، وقد اعتمد لإنشائه ما يزيد على ثلاثين ألف جنيه في أثناء وزارته الثالثة.
قبل هذا كان عدلي باشا أول من اهتم بتطوير مدينة الأقصر فزودها بالمياه وفتح صيدلية بها في عهد وزارته الأولى. وفي عهد وزارته الأولى تولت الحكومة إقامة تمثال نهضة مصر في ميدان رمسيس، وانتهت الحكومة، إلى إقرار مبدأ فرض الرقابة والمنع على الأفلام السينمائية. كما اهتم بكثير من النواحي الصحية وتولى إنشاء مراكز رعاية الطفل بالقاهرة.
وفي عهد وزارته الثالثة كان هو الذي نفذ الإصلاح السياسي وأعاد العمل بالمواد التي عطل محمد محمود باشا العمل بها من دستور 1923، وحدد الدوائر الانتخابية لمجلس النواب بـ 235 دائرة، واستصدر المراسيم الخاصة بدعوة الناخبين لانتخاب مجلس النواب الذي عاد بالوفد، إلى الحكم في مطلع عام 1930.
وفي عهده عمدت الحكومة إلى زيادة مواردها الاقتصادية فقررت زيادة الرسوم الجمركية على الفحم والمازوت، إلى 8%، وعلى الأخشاب (ما عدا خشب الوقود)، إلى 10%، وعلى البنزين والزيت المدني إلى 15% . كما قررت وزارته زيادة رسوم الرصيف على البضائع الواردة، إلى ميناء بورسعيد لتصل إلى 7 في الألف، وزيادة الرسوم المستحقة على الكحول عند الاستيراد. وإليه يعود الفضل في فرض رسم استهلاك أو رسم إنتاج على بعض الأصناف بنسبة 2% من قيمتها. لكنه مع ذلك كله كان هو من قرر تأجيل النظر في مشروع توليد الكهرباء اعتماداً على خزان أسوان والبالغ تكلفته 5ملايين جنيه.
السمات الشخصية
آن الأوان لنتأمل الآن في السمات الشخصية لعدلي باشا يكن.
كان التسامح الإيجابي من أبرز الأخلاق التي كان عدلي باشا يتمتع بها فقد قبل أن يعمل في الائتلاف تحت زعامة سعد باشا زغلول، على حين لم يتقبل عبد العزيز فهمي باشا صديق سعد القديم مصافحة سعد زغلول أبدا، وحين وصل دعاة الصلح، إلى الاقتراح الذي يقضي بأن يزور سعد صديقه عبد العزيز في بيته رفض عبد العزيز فهمي أن يستقبل سعداً ، وحين اقترحوا أن يزور سعد دار جريدة السياسة ويكون عبد العزيز فهمي في تلك الدار بالمصادفة، ويتم اللقاء بطريقة مشرفة لعبد العزيز فهمي أبى وقال قولته المأثورة: أتظنون أن هذا يحل الموقف، إن دار الحزب هي داري.. وهكذا. ربما كان لعبد العزيز فهمي عذر بسبب تصرفات قام بها سعد تجاهه، لكن هل وصلت هذه التصرفات إلى الحد الذي حدث مع عدلي يكن حين تعمد الوفد أن يفشل عدلي في الانتخابات البرلمانية الأولى، وفشل في المرحلة الأولى من الانتخابات أي في درجة المندوب الثلاثيني حين فاز عليه المرشح الوفدي، وكان هذا المرشح على نحو ما صوره الزغلوليون هو طباخ عدلي باشا يكن!
وهل وصل الحد بسعد زغلول أن قال في عبد العزيز فهمي قولته التي قالها في عدلي حين قال قولته المأثورة في خطبة شبرا البليغة: إن مفاوضة عدلي للإنجليز تعني أن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس، وهل وصل الحد بسعد في هجاء أتباع غيره مثل ما حدث منه حين قال عن أنصار عدلي باشا إنهم برادع الإنجليز.
مع هذا كله فإن عدلي يكن لم يصل بالعداء بينه وبين سعد زغلول إلى الدرجة التي أوصل بها عبد العزيز فهمي العداء رغم تقديره (أي تقدير عبد العزيز فهمي) الشديد لمواهب سعد وقدراته إلى الحد الذي جعله ـ أي جعل عبد العزيز فهمي ـ يجيب الملك فؤاد ـ في وقت معاصرـ بأن سعداً هو أعظم قاض في مصر، وكان هذا حين سأل الملك عبد العزيز فهمي عن أعظم قاض في مصر.
وننتقل إلى خلق آخر من أبرز أخلاق عدلي باشا وهو الرحمة بمعناها الواسع بما في ذلك المعنى السياسي الذي ينجي صاحبه من اللدد في الخصومة أو الاختلاف ذلك أنه لم يكن قاسيا على مخالفيه، وهنا نقارنه بعبد الخالق ثروت باشا (خلفه في وزارتيه الأولي والثانية)، وقد كان عبد الخالق ثروت أصغر في السن من عدلي. لكنه دخل الوزارة في اليوم نفسه مع عدلي، لكن ثروت الذي خلف عدلي في وزارتيه الأولي والثانية (برضا عدلي أو بترشيح من عدلي) كان قاسيا جدا على الوفد والوفديين على النقيض من عدلي.
وربما يرجع هذا إلى طبيعة عمل وثقافة الرجلين، ونحن فيما نورد من تحليل (يسميه أهل العلوم السياسية بالتحليل البعدي أو التالي) لا نقصد التبرير لثروت باشا وتصرفاته، لكننا نصور عظمة عدلي وطول قامته بطريقة غير مباشرة.
فثروت باشا الذي وصل إلى منصب النائب العام كان حفيا فيما يبدو بالقانون المطلق، وبالقيم القانونية المطلقة، وبالطاعة، وبإمضاء الأوامر، وبحفظ النظام وكان هذا متوقعا منه بالطبع بأكثر مما هو متوقع من عدلي يكن الذي كان رجل دبلوماسية شعبية وإدارة حكومية طويلة النفس.
لم يكن له فضل
ومن العجيب أن سعد باشا زغلول كان صاحب فضل كبير على ثروت، على حين أنه ـأي سعدـ لم يكن له فضل مواز في قيمته على عدلي باشا، وترفع بعض الروايات من قيمة دور سعد زغلول باشا في اختيار ثروت ليكون نائبا عاما حين كان سعد زغلول عضواً في مجلس الوزراء، بينما كان هناك مرشحون كثيرون أكبر منه وأقدم وأحق، لكن سعدا بما عرف عنه من تقدير عميق للشخصيات، صمم على دعم اختيار ثروت باشا لمنصب النائب العمومي، ومع هذا فقد كان موقف ثروت المعادي لسعد باشا والوفد أكثر قسوة بكثير من موقف عدلي.
ونأتي إلى الخلق الثالث الكبير في عدلي باشا وهو أنه لم يكن من ضحايا الأيدولوجية أو فلنعبر عن هذا المعنى بلغة عصره فنقول إنه لم يكن معنيا في المقام الأول بالشعارات، فلا هو يؤلف لنفسه شعارا، ولا هو يرحب بشعار يؤلف له، ولا هو يشجع على هذا الشعار. ولهذا فإنه عاش ومات من دون الحرص على أن يحظى بلقب مميز كلقب محمد محمود صاحب اليد الحديدية، أو ألقاب إسماعيل صدقي: رب الكفاءات، أو الرجل القوي، أو عدو الشعب، أو علي ماهر: رجل الأزمات، أو رجل الساعة، أو ألقاب مصطفى باشا النحاس: زعيم الأمة، أو سيد الناس، أو الرئيس الجليل.. إلخ. وفي الحقيقة فإن هذا الخلق الذي يمثله عدلي يكن يرتفع بقدر الشخصية من حيث لا يحصرها في نجاح واحد أو في جانب واحد.. كما يرتفع بقدر المهمة الوطنية التي يتولاها بحيث يكون النجاح وحده هو مقياس النجاح، وفي هذا فإن عدلي كان ناجحا وناجحا جدا.
الخلق الرابع في عدلي باشا أنه كان رجل عمل قبل أن يكون رجل فلسفة ورجل ممارسة قبل أن يكون رجل تنظير، ولهذا فإنه لم يكن مفتونا ببلورة فكر معين يقيده في تحركه السياسي أو الإداري، وقد كان عدلي على الدوام ذلك الرجل، ولم يغير من مشاعره ولا توجهاته نجاح تجربة سعد زغلول ولا وجود سعد زغلول بكل ما امتلكه سعد من الأدوات ومن مقومات العبقرية: بلاغة ولغة وفقها وقانونا.
وهكذا ظل عدلي يكن وهو بعيد عن أن يقيد نفسه بأية صورة من صور التقييد ، ونحن نراه حراً تماماً في حركته السياسية مع الملك ومع البريطانيين ومع أقطاب الحركة الوطنية ، ذلك أن عدلي يكن باشا رغم مبادئه القوية ومثله الرفيعة لم يكن حاصرا لفكره أو مقيدا لحركته بشيء أو بارتباط أو بمفهوم لا قبل سعد ولا بعد سعد، فلا هو قال إن الحق فوق القوة، ولا أن القوة فوق الحق، كما أنه لم يفعل فعل زيور حين لخص وجهة نظره في قوله: «إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه»، ولا هو فعل كعبد العزيز فهمي الذي قال: «إن الدستور ثوب فضفاض»، ولا مثل إسماعيل صدقي الذي قال: «إن الشعب لم يبلغ بعد المبلغ الذي يؤهله للحكم الديمقراطي».
ومع حرص عدلي باشا على عدم التقيد بالأفكار المسبقة فقد كان كما نعرف مشاركا بقدر كبير في أهم التحولات في مستقبل مصر في الفترة التي شارك فيها في صياغة أو تنفيذ السياسة الخارجية، أيا ما كان تقييمنا لنتائج مشاركته أو ما قبل به أو سعى إليه.
الخلق الخامس في عدلي يكن ربما يتعارض مع العمل السياسي لكنه كان حصيفا في التمسك به مع بقائه في المعترك السياسي، هذا الخلق هو الاعتداد اللامتناهي بالذات، والذي وصل منتهاه حين أصر عدلي يكن على الاستقالة من رئاسة الوزارة بسبب موقف أحد النواب الوفديين في مجلس النواب، وقد كان الموقف لا يقتضي رد الفعل الذي اتخذه عدلي يكن باشا بشممه وإبائه على نحو ما نرى.
حكومة شوارع وسط البلد
وفي تاريخ رؤساء الوزارة المصريين تسعة رؤساء وزراء قبلوا العمل وزراء تحت رئاسة رؤساء آخرين بعدما كانوا قد وصلوا ،إلى رئاسة الوزارة، وبعض هؤلاء اضطروا ،إلى هذا بفعل ظروف سياسية (عبد الناصر مع محمد نجيب)، أو مؤقتة انتقالية (صدقي سليمان مع محمود فوزي)، أو لأن رئيس الوزراء الذي عادوا تحت رئاسته كان هو رئيس الدولة نفسه (زكريا محيي الدين وعلى صبري وصدقي سليمان مع عبد الناصر)، أو هو زعيم الأغلبية في وزارة الشعب (محمد سعيد ومحمد توفيق نسيم مع سعد باشا)، أو من أجل إنشاء جبهة ائتلافية وطنية كبري (إسماعيل صدقي مع محمد محمود ، ويحيى إبراهيم مع زيور).
ولكن الحالة التي كان عدلي طرفا فيها كانت متميزة إلى أبعد الحدود، فإن رئيس الوزراء الذي قبل العمل تحت رئاسة عدلي كان هو حسين رشدي باشا الذي اختار عدلي نفسه وزيرا في وزارته الأولى، وفي هذا دلالة واضحة على مدى ما كان يتمتع به عدلي يكن من تقدير، فإن رشدي باشا حين شكل الوزارة في 1914 كان هو الذي اختار عدلي باشا وزيرا لأول مرة، ثم قبل رشدي باشا نفسه أن يعمل تحت رئاسته حين شكل عدلي وزارته الأولي.
وعلى النقيض من رشدي باشا وثروت باشا وصدقي باشا، فإن عدلي باشا لم يعمل تحت رئاسة غيره بعدما تولى رئاسة الوزارة، بل إن رشدي باشا الذي استوزره عمل معه كنائب لرئيس الوزراء، كما أن ثروت باشا عمل معه كوزير للداخلية في وزارته الثانية بعدما كان قد وصل إلى رئاسة الوزارة.
ومن الطريف أن الحكومة التي سمت شوارع وسط البلد قد جعلت شارع عدلي فيما بين شارعي فؤاد وعبد الخالق ثروت، وهي مصادفة عجيبة من خمس زوايا:
- فقد كان عدلي باشا أقرب إلى الملك فؤاد من ثروت باشا، إذ لم يكن الملك فؤاد يرتاح إلى ثروت باشا
- والأعجب من هذا أن ترتيب الوفاة جاء من اليمين: ثروت توفي أولا وتلاه عدلي ثم الملك فؤاد.
- ومن الطريف ثالثا أن أطوال الشارع جاءت تعويضا عن طول القامة فشارع عدلي باشا هو أقصر الشوارع الثلاثة على الرغم من أن عدلي باشا كان أطول قامة من الملك فؤاد ومن ثروت. وقد دخل الرجلان الوزارة معا، وكان ترتيب اسم عدلي سابقا مباشرة لاسم ثروت، ووصل ثروت إلى رئاسة الوزارة خلفا لعدلي باشا وشكل وزارتين فقط كانتا تاليتين لوزارتي عدلي الأوليين، على حين شكل عدلي وزارة ثالثة في 1929 بعد أن كان ثروت نفسه قد توفي، وهكذا فإن بقاء عدلي باشا في الوزارة المصرية (1914 ـ 1929) أطول من ثروت (1914 ـ 1927)، وقد عوض ثروت عن هذا بطول شارعه.
- ومن الطريف أكثر أن شارع عدلي لا يصل إلى شارع رمسيس على نحو ما يصل شارع ثروت، كأنما في هذا دلالة على أن جبروت ثروت يصل به إلى جبروت رمسيس على حين لا يصل الجبروت بعدلي إلى رمسيس.
- بقي بعد هذا كله أن لثروت محطة في ترام الإسكندرية وليس لعدلي محطة باسمه في ذلك الترام على حين أن لرشدي محطة وحيا في الإسكندرية.
الوفاة
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن شارع رئيسهما الذي اختارهما وهو رشدي باشا يبدأ مثل شارعيهما هما من شارع الجمهورية (إبراهيم باشا سابقا) لكنه ينتهي عند شارع شريف باشا ولا يصل حتى إلى شارع والد زوجة شريف باشا الذي هو سليمان باشا!! وفضلا عن هذا فإن شارعه غير مطروق بحركة التقاطر على النحو الذي يستمتع به شارعا ثروت وعدلي في ظل الحركة القادمة ما بين شرق القاهرة إلى وسط القاهرة وكوبري قصر النيل. وقد أطلق اسم رشدي على شارع كان يسمى “الساحة” بينما هو شارع ضيق، ويكاد اسم الساحة ينازع اسم رشدي في السيطرة على الشارع، وقد لا يتناسب هذا مع عهد رشدي باشا بالوزارة المصرية (1908 ـ 1921) ولا مع مكانته. أما عدلي وثروت فإن أحداً لا ينازعهما في شارعيهما، وقد كان للشارعين اسمان قديمان: المناخ، ويعني المحل الذي تنوخ فيه الإبل عند قدومها للقاهرة للبيع، وقد انتقل المناخ الآن إلى سوق إمبابة ، والمدابغ، حيث كانت تدبغ الجلود، وقد انتقلت المدابغ الآن ،إلى البساتين، وهكذا كان إطلاق اسمي الرجلين على الشارعين فألا للشارعين على نحو ما كان الرجلان مصدر خير لوطنهما الحبيب.
أما إسماعيل صدقي رابع هؤلاء الفرسان فإنه رغم بقائه في السلطة حتى 1946 وفي الحياة حتى 1950 ومع أن أثره في السياسة المصرية وفي التاريخ المعاصر يفوق آثار ثلاثتهم فإنه لم يحظ بإطلاق ولا بتكريم، لأنه حين توفي كان رجال الوفد في السلطة وهم ضحاياه التقليديون الذين لم يكن عندهم أدنى استعداد لتكريمه بعد كل ما فعله بهم! وبالتالي فلم يكن هناك أحد ليسعى الى تكريمه.
رزق عدلي باشا يكن بابنة وحيدة هي نايلة هانم، وقد تزوجت في سنة 1924 من شريف صبري باشا شقيق الملكة نازلي وخال الملك فاروق، وقد توفيت إلى رحمة الله في نوفمبر سنة 1933 عقب وفاة والدها مباشرة.
في 1933 سافر عدلي باشا يكن إلى فرنسا على عادته كل صيف، وتوفي في باريس في الساعة السابعة من صباح 22 أكتوبر 1933، ونقل جثمانه الى مصر.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا