كان من أهم السمات التي طبعت أداء الرئيس جمال عبد الناصر ما ترسخ في الأذهان عن ولهه المفرط وتعشقه الزائد للمجد المبالغ في تصويره، وقد وصل به التعشق إلى العبادة المطلقة، وقد لعب التاريخ دوره في تعميق هذه السمة حتى وصلت من دون قصد الرئيس ناصر نفسه إلى ما يمكن وصفه بالحالة المَرضية (بفتح الميم والراء) بدلا من أن تظل في حدود الحالة المُرْضية ( بضم الميم وسكون الراء) وفي هذا الوضع فإن سمة تعشق المجد ربما تحقق كثيرا من الفائدة للمصاب بها في حدودها الأولى لكنها سرعان ما تصبح خطرة إذا لم تستوف متطلبات الحفاظ عليها وهي متطلبات تقتضي الجدية المفرطة والجهد الشاق.
ومن دون بذل الجهد الشاق يطلبه المجد فإن عبادة المجد سرعان ما تسبب الضرر البالغ بدءا من خطوتها الثانية مباشرة بل إنها تفرض على صاحبها قيودا من العظمة الحجرية أو المتحجرة ولا نقول المتخشبة فحسب، كما أنها تستدعي له حدودا من الألوهية الكاذبة حتى إن المصاب بها لا يستطيع حركة ولا صعودا ولا نجاحا بعد هذا التصوير الحافل باللذة والاستلذاذ واللذاذة.
لا يمكن لأحد أن يتصور مدى ما ابتلي به الرئيس عبد الناصر من جبروت الآلة الترويجية الضخمة التي أتيحت لدفع ضابط شاب دفعا إلى هذه الألوهية، وما تميزت به هذه الالة من مهارة وقدرة وكفاءة وأصالة وإخلاص في هذا السبيل، كما أنه لا يمكن لأحد أن يتصور مدى ما كان ممكنا لهذه الآلة الترويجية الضخمة من التأثير، وقد شملت هذه الآلة ضمن ما شملت الإعلام لكنها شملت أيضا تنظيمات خصوصية وربما سرية في دواوين عبد النصر في رياسة الجمهورية، وفي مجلس قيادة الثورة ومجلس الرياسة، والقيادة المركزية ،وفي رياسة الوزراء، وفي الاتحاد الاشتراكي ..الخ.
ومن الإنصاف الحقيقي أن نقول إن الرئيس عبد الناصر نفسه لم يستغل هذه الآلة الضخمة إلا بقدر محدود، وقد يدهش القارئ لهذا القول وهو يرى أن آثار هذه الآلة لا تزال مسيطرة على التراث والوجدان بل الواقع والوجود العربي.
كانت هذه الآلة الترويجية الضخمة تتكئ على نهضة تكنوقراطية وبيروقراطية وثقافية وتعليمية مصرية سابقة الحضور وسابقة التجهيز على 1952 وقد وصلت هذه النهضة الى صياغة بلورتها المركزية الفائقة قبيل وصول الرئيس عبد الناصر للسلطة، نعم فقد جاء الرئيس عبد الناصر إلى السلطة بعد أن وصل عصر النهضة المصري الحديث في الفن والأدب والثقافة الى ذروته التي كانت أمرا طبيعيا بعد نضج جيل ثورة 1919 وما أتيح لهذا الجيل من الفرص بفضل قيادات ذكية متنافسة في الرقي والإنجاز، وبفضل توفر موازنات كافية ومنضبطة، وبفضل ازدهار بيئة مثقفة حاضنة، وظروف جذب جعلت مصر وعاصمتها الأولى التي هي القاهرة نقطة من أهم نقاط الجذب العالمية للأساتذة الاكاديميين المتميزين، والعلماء والمحققين البارزين، والكتاب والفنانين الموهوبين.
واستوعبت القاهرة ومعها الإسكندرية ( في بعض الأحيان) كثيرا من هؤلاء الذين آثروا فيما بعد الحرب العالمية الأولى (وفي خضم هذه الحرب) الاستمتاع بمناخ الحرية الفكرية والإنسانية بدلا من البقاء في الاتحاد السوفييتي الممتد والمتمدد فاستقبلت القاهرة الروس والروس البيض والروس الحمر والشركس والشيشان كما استقبلت من دول شرق أوربا البوشناق والبلغار والصرب واليونان والكرج والأرمن ومن الآسيويين الأذربيين وأهل خراسان والأفغان والهنود والعرب من كل البيئات: الشوام والعراقيين والمغاربة واليمنيين والحضارمة وغير الحضارمة،.
وانصهر كل أولئك الوافدين الى المناخ الثقافي المصري في بوتقات متعددة وفرت الموهبة والمعرفة والتدريب والأداء والتأهيل فتكون من خلالهم مجتمع مهني وفني على أعلى درجات التفوق والتميز والنضوج، وأصبحت السنيما المصرية على سبيل المثال معلما من معالم الحضارة الناطقة بالعربية، كما أصبحت مواسم المسرح المصري علامة من علامات الفكر الأصيل والمترجم، الكلاسيكي والحديث، ولم يتأخر الكتاب والمترجمون عن التعريف بالمذاهب الجديدة في الفن والفلسفة والأدب والعلوم وتقديمها ودراستها والتعصب لها بل والدعوة لها والانتماء إليها والدفاع عنها، ولعل في موقف هؤلاء من استيعاب ونقد وتقديم الوجودية أو السريالية أو التكعيبية أو من مسرح العبث ما يدل دلالة واضحة على مدى ما كان من الممكن لهذه البيئة أن تقدمه.
وكان من نتيجة كل هذا الزخم أن تطورت الصحافة المصرية منذ نهاية الأربعينيات في اتجاه ديموقراطي لا شمولي وأصبحت للقارئ مكانته وقدرته على إسقاط أو ورفع قيمة الصحيفة، ومن تم أصبحت القراءة نفسها هي الحاكم الأقدر، وأصبحت القيمة هي المعيار الأول، وتضاءل قدر أي صحيفة تعبر عن سفارة حتى لو كانت تعبر عن دار المندوب السامي البريطاني نفسه وتتمول بنفوذه. ارتقى مستوى الإذاعة المصرية الرسمية التي نشأت منذ 1934 وأصبحت بعد عشرين عاما في قمة أدائها جاهزة لأن تلعب الدور أنيط بها في الشحن والإحماء والوعي والتثقيف طيلة عهد عبد الناصر.
جاءت التكنولوجيا بتقنية جديدة وكأنها بعثت من عالم الغيب لتخدم في المقام الأول الرئيس عبد الناصر وما يسمى مشروع الرئيس عبد الناصر، أعني تقنية الراديو الترانزستور أصبح قادرا على التقاط ما يذاع في القاهرة وفي نفس اللحظة في أي مكان في الوطن العربي وبذلت الهندسة الإذاعية جهودها في فراغ متاح فشغلت بل احتلت الموجات القصيرة والطويلة بهذا الإنتاج الإذاعي المحرض على الثورة الجديدة أو على تأييد مشروع الرئيس عبد الناصر.
ومع أنه ليس من الحكمة أن أحصر نفسي في مثل واحد رائع ومروع يدل على مدى النفوذ الإعلامي كان متاحا أمام الرئيس عبد الناصر فإني سأفعل وسأكتفي بأن أقول إنه في ذروة حرب اليمن كان اليمنيون يدخرون ما يشترون به جهاز الراديو الترانزستور، ولم يكونوا يعرفون أن هذا ترانزستور ولا راديو ولا إذاعة، ولم يكن لهم عناية لا بالتكنولوجيا ولا بالفن ولا بالموجات ولا باللغة ولا بالموسيقى وإنما كانوا يتمنون هذا الجهاز يتدافعون لشرائه متى توفر لهم ثمنه، وكانوا يعرفون هذا الجهاز باسم واحد ووحيد وهو “صوت العرب” ففلان اشترى صوت العرب (يقصد الراديو الترانزستور)، وفلان شغّل صوت العرب (يقصد الراديو الترانزستور)، وفلان سمع صوت العرب الآن (يقصد الراديو الترانزستور)، وفلان أغلق صوت العرب (يقصد الراديو الترانزستور).
هل يكفيك هذا المثل القوي دليلا على مدى النفوذ كان متاحا للرئيس عبد الناصر بل لم يستغله الرئيس عبد الناصر لا الاستغلال الكافي ولا الاستغلال الأمثل.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا