الدكتور معروف الدواليبي (1909-2004) نموذج متميز من الساسة السوريين في عصر الليبيرالية، كان حين وصل إلى رئاسة الوزارة أصغر رؤساء الوزارة بفارق يسير عن أقرانه لكن المعنى الذي نريد أن نشير إليه من هذه الجزئية أنه كان واعدا، وأن زعامته كانت تستمد كثيرا من ألقها وتوهجها من عناصر شخصية صاحبها الذي كان ذا تميٌز حقيقي، فقد جمع بين الأدب والقانون والسياسة كما كان صاحب قبول وجاذبية.
ولد الدكتور معروف الدواليبي في 29مارس1909 و بدأ حياته العلمية مع زميل عمره العلامة الشيخ مصطفى الزرقا 1904 – 1999معمٌما بالعمامة الحلبية المشهورة لكنه تحول إلى الزي الحديث والتزم به بعد عودته من دراسته في فرنسا، وكان قد بدأ بدراسة الشريعة ثم درس الحقوق والآداب في الجامعة السورية ونال شهادتيهما معا بتفوٌق، وكذلك فعل زميل عمره الشيخ مصطفى الزرقا، وكان هذا النظام متبعا في سوريا في ذلك الوقت كما كانت مصر قد بدأت بتطبيقه وكان أشهر من تخرج تبعا له من المصريين هو الدكتور محمد مندور(1907- 1965) الذي حصل على الشهادتين معا طبقا لتوجٌه علمي لم يُقدّر له أن يستمر، وقد أهٌله تفوقه للبعثة إلى فرنسا (1938) وقد تزوج من فرنسية في أثناء دراسته في باريس (1939) وحصل على الدكتوراه في القانون من باريس بعد أن أتم دراساته في القانون الروماني وتاريخ القانون و الحقوق الكنسية وكانت رسالته عن الاجتهاد في الإسلام.
وبعد عودته من بعثته التي استغرقت كل سنوات الحرب العالمية الثانية (بكل مآسيها) عمل أستاذا في كلية الحقوق بجامعة دمشق، ورئيسا لقسم تاريخ القانون في كلية الحقوق كما عمل أستاذا في كلية الشريعة.
من الشائع المتداول الذي له أصل في الحقيقة أن الدكتور معروف الدواليبي كان من الإخوان المسلمين لكنه على المستوى الحزبي كان عضوا في حزب الشعب بل من أقطابه، وبهذه الصفة دخل الوزارة والبرلمان ووصل إلى مناصبه الوزارية والبرلمانية.
ومن الجدير بالذكر أن كان واحدا من أربعة من العلماء الأجلاء الذين رشحهم أبناء التوجهات العلمية الإسلامية والسياسية للانتخابات البرلمانية التي أجريت 1947 وقد فاز ثلاثة منهم كان هو أولهم في حلب، والمجمعي العظيم الأستاذ محمد المبارك في دمشق، والأستاذ محمد الشقفة في حماة بينما نجح التآمر على القاضي أنيس الملوحي في حمص.
كان الدكتور معروف الدواليبي في تعامله المبكر مع الفرنسيين واعيا لأثر الوكالة اليهودية وعلاقتها القوية مع رئيس الوزراء الفرنسي (1936)، وإلحاحها في التراجع عن استقلال سوريا. وقد بدأت ملامح زعامة الدكتور معروف الدواليبي في الظهور حين كان في باريس وانتُخب رئيسا للجنة الطُلاب العرب في فرنسا.
وقد حافظ الدكتور معروف الدواليبي على هذه المكانة بل واستثمرها في تكوين علاقات ذكية بالمجتمع المدني الفرنسي والمجتمع السياسي الفرنسي، وكان من حظه أنه اتصل بجماعة الرئيس ديجول الذي كان يُقاوم خضوع حكومة فيشي للاحتلال الألماني، وقد مكٌنته هذه الصلة من أن يشترك في أكثر من خطوة من خطوات تهريب الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية واستهداف الولايات المتحدة الأمريكية والحلفاء للمفتي العظيم، ومما هو جدير بالذكر أن الرئيس ديجول لم يستجب لضغوط الحلفاء عليه لتسليم الحاج أمين الحسيني، بل غض الطرف وربما ساعده على الهروب من أوروبا كلها حتى عاد إلى مصر.
وتذكر الروايات المتاحة أن الدكتور معروف الدواليبي دفع أحد كبار رجال الأعمال المغاربة في باريس وهو عبد الهادي ديوري إلى أن يوصي السلطان محمد الخامس ملك المغرب بأن يطلب من الرئيس ديجول (عند زيارته باريس للتهنئة) حماية الحسيني من التسليم لبريطانيا، وأن الرئيس ديجول استجاب لطلب الملك محمد الخامس. ويروى أن المسيو بونو المفوض السامي في سوريا ولبنان دعا السفراء العرب إلى منزله في باريس (محمود فخري باشا سفير مصر، ود. عدنان الأتاسي سفير سوريا، وأحمد الداعوق سفير لبنان)، وفاجأهم بوجود أمين الحسيني مدعوا وأنه أصبح حرا وأن بوسعه التنقل، وقد أوفدت الجامعة العربية الزعيمين رياض الصلح رئيس وزراء لبنان، وحميد فرنجية وزير الخارجية إلى باريس لتهنئة الحسيني الذي بدأ يتنقل بجواز سفر فرنسي باسم الدكتور منصور وبقي في باريس حتى تمكٌن الدكتور معروف الدواليبي من تهريبه إلى القاهرة على طائرة أمريكية (!) وقد حدث هذا بينما اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا الرئيس ديجول بتهريبه على طائرة فرنسية.
وقد أكسب هذا الموقف الرئيس ديجول كثيرا من الاحترام والثقة في الأوساط العربية كما خفٌف بعض الشيء من أثر مرارة العداوة البالغة التي نشأت بسبب قصف فرنسا للبرلمان السوري بالمدافع في 29 مايو 1945.
قرب نهاية الثلاثينيات كان الدكتور معروف الدواليبي هو ممثل سوريا في الاستفتاء الشعبي على مستقبل لواء إسكندرون وقد اختارته الكتلة الوطنية لهذه المهمة، ومع أن الاستفتاء الشعبي انتهى بالموافقة بنسبة 80% على بقاء اللواء بسوريا فإن الفرنسيين اتفقوا مع الأتراك على إلحاقه بتركيا.
بدأ الدكتور معروف الدواليبي نشاطه السياسي على المستوى الوطني متأخرا بعض الشيء بسبب غيابه في طلب العلم إذ أنه انتخب نائبا عن حلب في مجلس النواب 1947 وبهذا انضم إلى سلسلة الزعماء والنواب الحلبيين المتميزين كسعد الله الجابري، وناظم القدسي ورشدي الكخيا. وقد احتفظ الدكتور معروف الدواليبي بمقعد حلب في مجلس النواب السوري في كل الانتخابات البرلمانية منذ 1947 وحتى 1963 وتولى الرئاستين رئاسة النواب (1951) والوزراء (1951، 1961ـ1963)
في 1948 حينما انقسم الكتلة الوطنية إلى حزبين الشعب في (حلب) والوطن (في دمشق) كان الدكتور معروف الدواليبي أحد الأركان الأساسية لحزب الشعب (الجديد) مع رشدي الكخيا الذي خلف سعد الله الجابري في زعامة الشمال (حلب) بعد وفاته 1947 وناظم القدسي.
وحين بدأ عصر الانقلابات العسكرية ظهر معدنه فعلى حين تعاون الزعيم أكرم الحوراني مع الرئيس حسني الزعيم في إدارة الأمور بعد أول الانقلابات العسكرية بل إنه هو الذي كتب بيان الانقلاب، وسجٌله بصوته فإن حزب الشعب بقيادة الرؤساء رشدي الكخيا ومعروف الدواليبي وناظم القدسي رفضوا هذا التعاون وأكد الكيخيا على تمسٌكه بالمبادئ الديموقراطية ورفضه اعتداء القوات المسلحة على الدستور واغتصابها للسلطة.
ومع ميل السوريين إلى الاتحاد مع إخوانهم العرب كان الدكتور معروف الدواليبي في طليعة من عبٌروا عن الرغبة في الاتحاد مع العراق وكان هذا هو توجه حزب الشعب كما كان توجه الحزب الوطني الذي آلت زعامته في ذلك الوقت إلى الزعيم نبيه العظمة.
وقد نجح الحزبان “الشعب والوطني” في حشد الرأي العام السوري للخلاص من انقلاب حسني الزعيم وهو ما أنجزه سامي الحناوي بانقلابه.
لكن القوى المناوئة عمدت إلى تحريض الرئيس أديب الشيشكلي للقيام بانقلاب ثالث، وقد قام الرئيس أديب الشيشكلي بانقلابه مدعوما أيضا من الحوراني وحزبه الذي أيٌد انقلاب الرئيس حسني الزعيم من قبل، لكن الرئيس أديب الشيشكلي حافظ في البداية على وجود صورة الدولة التقليدية غير العسكرية متمثلة في شخص الرئيس هاشم الأتاسي رئيس الجمهورية، كما التزم بعدم المساس بالشخصيات الحزبية، وهكذا كلف الرئيس هاشم الأتاسي الرئيس خالد العظم بتشكيل وزارة ضمٌت الدكتور معروف الدواليبي والزعيم الحوراني معا: فكان الدكتور معروف الدواليبي للاقتصاد الوطني والحوراني للدفاع، وكان الرئيس أديب الشيشكلي يستهدف بهذا توازنا يُساعده في الوجود في الصدارة السياسية دون أن يتورٌط في مواجهات عسكرية.
هكذا اختير الدكتور معروف الدواليبي وزيرا للاقتصاد الوطني في 1950 (في الوقت الذي كانت فيه الدعوة إلى وزارة للاقتصاد تؤتي ثمارها، ففي مصر ضمت وزارة الوفد الأخيرة في يناير 1950 وزيرا للاقتصاد الوطني)، ثم أصبح نائبا لرئيس مجلس النواب السوري 1951
وقد شهد عهد هذه الوزارة أبرز موقف صعد فيه نجم الدكتور معروف الدواليبي سياسيا بفضل شجاعته في التعبير عما كان يجول في نفوس العرب من الضيق بالموقف الأمريكي والغربي من قضية فلسطين، فقد حضر الدكتور معروف الدواليبي اجتماع رؤساء الوفود العربية في 13 أبريل 1950 في الدورة 12 للجامعة العربية وهو الاجتماع الذي كان مُخصٌصا لإقرار مشروع الضمان الجماعي العربي.
وفي أثناء ذلك المؤتمر صرٌح الدكتور معروف الدواليبي لزهير الكزبري مراسل جريدة المصري (الوفدية ) في دمشق بأنه إذا استمر ضغط الحكومة الأمريكية على البلاد العربية فإنه يرجو اجراء استفتاء في العالم العربي يظهر فيه العرب أنهم يُفضلون ألف مرة أن يُصبحوا جمهورية سوفياتية على أن يكونوا “طعمة لليهود”، وقد أبرزت صحيفة المصري هذا التصريح في صفحتها الأولى، وأحدث دويا هائلا في المجتمع الدولي وبخاصة أن الحكم في ذلك الوقت كله لحكومة وفدية برئاسة النحاس باشا وقد رحبت الدوائر الوفدية بالتصريح ورأت فيه ما يدعمها في مفاوضاتها مع البريطانيين.
وقد سلك رئيس الوزراء السوري خالد العظم مسلكا حكيما تجاه تصريح الدكتور معروف الدواليبي؛ فلم يمكٌن الأمريكيين من تصوير التصريح على أنه تعبير عن رأي فردي.
ومع أن الصحافة الغربية وصفت الدكتور معروف الدواليبي بناء على هذا التصريح بوصف الشيخ الأحمر فإن الدوائر الديبلوماسية الغربية في الدول الثلاث انتبهت إلى خطورة هذا التوجه واهتمت بدراسته في اجتماع وزاري ثلاثي صدر عنه تصريح 26 مايو 1950 المعروف بالتصريح الثلاثي الذي أعلن عن معارضة هذه الدول لقيام سباق تسلح بين الدول العربية وإسرائيل، كما نبه إلى ضرورة الحيلولة دون توثيق علاقات الدول العربية بالدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي واستمرار بيع السلاح للدول العربية شريطة تعهد هذه الدول العربية بعدم استعماله ضد الكيان اليهودي، والتزام هذه الدول الثلاث بضمان الحدود وخطوط الهدنة.
ويستطيع الباحث في التاريخ العربي المعاصر أن يلحظ مدى القوة التي اكتسبها الوضع التفاوضي العربي بفضل تصريح الدكتور معروف الدواليبي وجودة صياغته وذكاء توقيته فقد عبٌر بأمانة عن مشاعر العرب، واستند في تعبيره إلى مكانة الدكتور معروف الدواليبي والحكومة التي كان هو نفسه عضوا فيها كحكومة منتخبة، مع أنه لم يكن وزيرا للخارجية وإنما للاقتصاد ومع أن رئيس الوزارة الرئيس خالد العظم كان موجودا في الوقت ذاته على رأس الوفد السوري في الاجتماعات العربية.
ومن المؤسف أن الوضع العربي بسبب غياب الديموقراطية وبسبب حالة الافتراق بين الشعوب وسلطاتها الحاكمة فقد مثل هذه القدرة القادرة على تحقيق مكاسب عربية في قضية فلسطين بعيدا عما دُبٌر لهذه القضية من مؤامرات شاركت فيها العسكرية العربية بالسلبية أو بالمعارك الخاسرة.
ثم بدأ صراع جديد لحزب الشعب مع الإدارة الأمريكية اضطر معه رشدي الكخيا زعيم حزب الشعب أن يُعلن استقالته من مجلس النواب احتجاجا على تصرٌفات الرئيس أديب الشيشكلي المدعوم من الإدارة الأمريكية، ومع أن استقالة الكخيا من رئاسة النواب كانت كافية لتصعيد الاحتجاج إلى مستويات أقوى فإن الدكتور معروف الدواليبي خاض انتخابات رئاسة مجلس النواب في 23 يونيو 1951 خلفا للرئيس رشدي الكخيا في مواجهته مع مرشح الرئيس أديب الشيشكلي وهو النائب عبد الباقي نظام الدين، وحصل الدكتور معروف الدواليبي على 57 صوتا بينما فاز مرشح الرئيس أديب الشيشكلي ب 37 صوتا وهكذا تأكدت الزعامة لحزب الشعب والقوى الوطنية في ذات الوقت الذي تأكد فيه أيضا احتجاج الكخيا على الممارسة السلطوية للرئيس أديب الشيشكلي التي تجاوزت الحدود.
وفي ذلك الوقت لعب الدكتور معروف الدواليبي من موقعه في مجلس النواب دورا وطنيا كبيرا تزعٌم من خلاله الرأي العام في تأييد الحقوق العربية ومنها حقوق المغرب العربي في الاستقلال.
ومع الوقت أصبح الدكتور معروف الدواليبي بمثابة مركز من مراكز البؤر المهمة المناهضة لسلطة العسكريين. وقد واصل الدكتور معروف الدواليبي حملته من أجل الدفاع عن السلطان محمد الخامس الحاكم الشرعي للمغرب على مدى كل الفترات التي أتيح له فيها الحديث المؤثر.
وقد تطور الأمر بأن كلٌف الرئيس هاشم الأتاسي الدكتور معروف الدواليبي بتشكيل الوزارة فيما فهمه الرئيس أديب الشيشكلي والعسكريون على أنه تحدٌ شديد لسلطتهم وتدخلهم، وأبدى الرئيس أديب الشيشكلي اعتراضه على تكليف الدكتور معروف الدواليبي برئاسة الوزراء بينما هو يقود حملة على فرنسا التي هي في رأي الرئيس أديب الشيشكلي المصدر الأول لتزويد سوريا بالسلاح.
ويُذكر التاريخ للدكتور معروف الدواليبي أنه كان حريصا على تشكيل وزارته رغم اعتراض العقيد أديب الشيشكلي، وقد شكٌل وزارته وتولى وزارة الدفاع بنفسه كما كلف الدكتور منير العجلاني (مستقل) بوزارة العدل وأحمد قنبر (من حزب الشعب) بالداخلية.
وأصدر الرئيس هاشم الأتاسي مراسيم تشكيل وزارة الدكتور معروف الدواليبي في 28 نوفمبر 1951، فاجتمع الرئيس أديب الشيشكلي رئيس الأركان برئيس الجمهورية في حضور رئيس الوزراء وأبدى اعتراضه العلني على إسناد الدكتور معروف الدواليبي وزارة الدفاع لنفسه وطالب صراحة بتشكيل وزارة جديدة تتفق مع رغبات الجيش.
وكان هذا الاجتماع بمثابة الذروة التي كشفت عن ميول الرئيس أديب الشيشكلي السلطوية إذ أنه في صبح اليوم التالي 29 نوفمبر 1951 اعتقل الدكتور معروف الدواليبي وأعضاء وزارته كما اعتقل الزعيم رشدي الكخيا زعيم حزب الشعب ووضعهم جميعا في سجن المزة وأعلن بيان الانقلاب الشيشكلي الثاني وهو ما يُعرف عند المؤرخين بالانقلاب السوري الرابع تمييزا له عن انقلاب الشيشكلي الأول في ديسمبر 1949، وكان هذا الانقلاب انقلابا سافرا إذا ما قورن بالانقلاب الثالث الذي قاده الرئيس أديب الشيشكلي نفسه والذي كان انقلابا مستترا.
وعلى نحو ما هي العادة المرذولة عند العسكريين فقد سارع العقيد أديب الشيشكلي بإلقاء تهمة العمل على الإطاحة بالدولة واستقلالها.. وحاول العقيد أديب الشيشكلي أن يحصل من الدكتور معروف الدواليبي على استقالة الوزارة فرفض ولكنه قدمها إلى الرئيس الأتاسي الذي قدم هو الآخر استقالته من منصبه، ومن ثم اضطر العقيد أديب الشيشكلي إلى أن يشكل مجلسا عسكريا لتولي أمور الدولة على نحو ما تقول الانقلابات العسكرية.
هكذا فإن الدكتور معروف الدواليبي أصبح رئيسا للوزارة ووزيرا للدفاع ليومين أو ثلاثة في نهاية نوفمبر 1951، وقد عدّ توليه وزارة الدفاع مع رياسة الوزارة بمثابة السبب المباشر لقيام العقيد أديب الشيشكلي بانقلابه الثاني الذي اضطر معه الرئيس الأتاسي لترك رياسة الجمهورية فتولاها الرئيس فوزي السلو ثم العقيد أديب الشيشكلي بنفسه.
وبدأ الرئيس أديب الشيشكلي يُمارس السلطة بطريقة سافرة، وبالاستحواذ على المؤسسات كلها في يده وحتى إنه رشح نفسه لرئاسة الجمهورية وتولاها وبقي فيها حتى آثر الرحيل في 25 فبراير 1954 لتعود الديموقراطية لسوريا بالتزامن مع عودة الديموقراطية المؤقتة في مصر حين نجحت حركة الجماهير في أن تجبر الرئيس جمال عبد الناصر على التراجع عن محاولته الأولى في إبعاد وإقالة محمد نجيب وأن تجبره على إعادة حرية التعبير.
فلما عاد ربيع الديموقراطية بعد نهاية عهد العقيد أديب الشيشكلي أُعيد الرئيس هاشم الأتاسي للرياسة لاستكمال مُدته، وشكلت وزارة برئاسة صبري العسلي الأمين العام للحزب الوطني وكان من الطبيعي تكريسا للحياة السياسية السليمة أن يُسند منصب وزير الدفاع إلى الدكتور معروف الدواليبي مرة أخرى. وهكذا عاد الدكتور معروف الدواليبي للمناصب الوزارية وزيرا للدفاع الوطني 1954 في وزارة الرئيس صبري العسلي.
بعد انقلاب النحلاوي كان الدكتور معروف الدواليبي هو السياسي الذي وقع عليه الاختيار ليكون رئيسا لوزراء سوريا بعد الانفصال عن مصر في 1961 وقد ظل يشغل هذا المنصب حتى 1962. ففيما بعد الانفصال عن مصر في سبتمبر 1961 مثل حزب الشعب الحاضنة الشعبية للانفصال وتجلى هذا في انتخاب الرئيس ناظم القدسي (وهو القطب الثاني في الحزب) لمنصب رئاسة الجمهورية خلفا للرئيس جمال عبد الناصر وتكليف الدكتور معروف الدواليبي برئاسة الوزارة (خلفا لجمال عبد الناصر أيضا)، وفي تلك الفترة كان الدكتور معروف الدواليبي نفسه هو الذي صاغ أو أذاع الفكرة الشائعة حتى الآن (على استحياء) من أن ترسانة الأسلحة السورية نقلت إلى القاهرة وكذلك الطائرات التي كانت سوريا قد اشترتها قبل الوحدة، وأن هذا النقل لم يكن من قبيل الاستحواذ فحسب، ولكنه كان بهدف تقليل فرصة نجاح أي انقلاب عسكري سوري على حكم الرئيس عبد الناصر، ومع هذا فقد قام النحلاوي وزملاؤه بالانقلاب بدون حاجة ماسة إلى سلاح متقدم.
كان الدكتور معروف الدواليبي أيضا هو الذي رسٌخ الفكرة القائلة بأن أمريكا لم تعترف بالانفصال السوري عن دولة الوحدة برئاسة عبد الناصر لأنها كانت ترى في عبد الناصر ضمانا لاستقرار حدود إسرائيل على حين أن الجيش السوري لو ترك وأمره في ذلك الوقت لأشعل هذه الحدود، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد لمست التزاما جادا من الرئيس عبد الناصر بعدم التصعيد بل المضي في تبريد القضية الفلسطينية وهكذا بنى الدكتور معروف الدواليبي استراتيجية على فكرة إدخال السوفييت في القضية.
ومن الطريف الذي أخفاه الإعلام الناصري عن العرب أن الاتحاد السوفييتي كان قد اعترف بالنظام الجديد في سوريا (الانفصال) على حين لم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية ودعا الدكتور معروف الدواليبي السفير السوفييتي إلى مقابلته، وأبدى رغبته في تعاون سوفييتي غير محدود مع تمسك سوريا بحريتها.
ومن الجدير بالذكر هنا أن الدكتور معروف الدواليبي في ظل عدم اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالانفصال ( و من ثم عدم وجود سفير أمريكي في دمشق ) استدعى السفير الأمريكي في بيروت وأنهى إليه بتفصيلات ما أبلغه إلى الاتحاد السوفييتي، وفي ذلك الوقت كان الاتحاد السوفييتي ينتهج سياسة ردود الفعل النشطة فأبلغ السوريين بعد 48 ساعة من لقاء الدكتور معروف الدواليبي بالسفير السوفييتي موافقة الاتحاد السوفييتي على تزويد سوريا بكل ما تحتاجه من السلاح بل إن القيادة الروسية طلبت من الرئيس عبد الكريم قاسم أن يحول إلى الحكومة السورية 400 دبابة من الدبابات التي كانت روسيا قد زودت بها بغداد.
ومع أن تفصيلات المداولات السوفييتية والأمريكية فيما بعد وقوع حدوث الانفصال لم تُذع بالكامل حتى الآن فإننا نستطيع أن ندرك أن وجود سياسي مقتدر و جريء مثل الدكتور معروف الدواليبي في الحكومة السورية التي أعقبت الانفصال قد آذى صورة الرئيس عبد الناصر ومخططاته على نحو لم يُتحسٌب له من قبل، ولو أنه تُحُسٌب له لكان موقفه من مواجهة الانفصال أشد صلابة مما كان عليه حين آثر الاستكانة إلى التطمينات الأمريكية والغربية دون أن يحسب حسابا للفهم السوفييتي النشط في ذلك الوقت وعلاقته بالواقع السوري.. وهو ما لم يبدأ في الاتضاح للمثقف العربي إلا بعد ثورات الربيع العربي في 2011.
على كل الأحوال فقد جاء البعث إلى الحكم وكان لا بد للرئيسين الدواليبي والقدسي باعتبارهما من حزب الشعب المناوئ الأكبر للبعث وصعوده من أن يتركا مجال السياسة نهائيا كما تركها الرئيسان القوتلي والعسلي وغيرهما من الحزب الوطني وكما تركها كل المستقلين من كتلة الرئيس خالد العظم بل والرئيس خالد العظم نفسه.
وبحلول مارس 1963 انتهت تماما مرحلة الوجود الليبيرالي في سوريا لتدخل سوريا إلى مرحلة البعث المُتعسكر الذي لا يزال حتى يومنا هذا في السلطة.
فلما تأكدت سيطرة البعث على مقاليد الأمور وأدرك الدكتور معروف الدواليبي ألا مستقبل آمنا له في سوريا آثر أن يعيش في المملكة العربية السعودية وقد عيٌنه الملك فيصل مستشارا في الديوان السعودي وبقي يحتفظ بهذا المنصب في عهد الملك خالد والملك فهد.
أنجز الدكتور معروف الدواليبي كثيرا من المهام السعودية في ميدان علاقاتها بالدول الإسلامية في المجتمع الدولي. فقد ترأٌس منظمة مؤتمر العالم الإسلامي كما ترأس مؤتمر العالم الإسلامي في كراتشي عام 1975، وهو المؤتمر الذي سجل لدى الأمم المتحدة بصفته هيئة مراقبة دولية واجتماعية، وكان هذا المؤتمر عقد دورته الأولى عام 1970 في مدينة القدس، وكان يرأسه مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وكان نائبه فيه الشاعر الإسلامي الفيلسوف محمد إقبال. كما كان عضوا مراقبا في مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي. كما كان رئيسا لمنظمة (الإسلام والغرب) الدولية، ومركزها جنيف بسويسرا، منذ سنة 1979 وهي سنة تأسيسها، حتى أواخر عام 1984. واختير أيضا نائب رئيس المؤتمر الإسلامي الشعبي في بغداد، ورئيسا لمجلس أمناء ذلك المؤتمر سنة 1984. وعضوا في الندوات العلمية الدولية حول الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان في الإسلام، في الرياض، ثم في باريس، ثم في الفاتيكان، ثم في مجلس الكنائس العالمي في جنيف، ثم في مجلس وزراء الوحدة الأوربية في ستراسبورغ منذ عام 1973 حتى أواخر عام 1974. وكان عضوا في مؤتمر رسالة المسجد الدولي في مكة المكرمة عام 1975ثم عضوا في المجلس الأعلى العالمي الدولي للمساجد في مكة المكرمة منذ 1975 حتى وفاته.
شارك الدكتور معروف الدواليبي في عدد كبير من المؤتمرات السياسية والعلمية، وفي كثير من الندوات، وألقى فيها العديد من المحاضرات، وكان حضوره فيها مشهوداً ومتميزاً.
من هذه المؤتمرات:
- كان رئيس وفد سورية الحكومي إلى حلقة الدراسات العربية والاجتماعية الدولية عام 1950.
- مثّل جامعة دمشق في مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي الدولي 1951 في باريس، بدعوة من مؤسسة الحقوق الدولية المقارنة في (لاهاي).
- عضو المؤتمر العام الأول لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة 1965.
- رئيس وفد الشعوب العربية في المؤتمر الأول للشعوب الأفريقية والآسيوية في نيودلهي 1955.
- عضو في الوفد السوري الحكومي إلى المؤتمر الدولي لدول عدم الانحياز في (باندونج) بإندونيسيا 1955.
من مؤلفاته الفكرية الأصيلة:
- الإسلام أمام الاشتراكية والرأسمالية (بالعربية والإنكليزية)
- نظرات إسلامية في الاشتراكية الثورية.
- المرأة في الإسلام: كلفته به منظمة اليونسكو وطبعته ضمن مجلد عن “الإسلام” بمختلف اللغات.
- الاجتهاد في الحقوق الإسلامية (باللغة الفرنسية).
- القومية العربية في حقيقتها.
- نظرات إسلامية.
من مؤلفاته التعليمية والجامعية:
- المدخل إلى السنّة وعلومها.
- المدخل إلى علم أصول الفقه.
- دراسات تاريخية: عن مهد العرب وحضاراتهم الإنسانية.
- المدخل إلى التاريخ العام للقانون.
- الوجيز في الحقوق الرومانية، جزءان.
- قلعة طروادة التاريخية.
- نظريات النقد الأدبي عند العرب.
من بحوثه الأصيلة وتحقيقاته ومذكراته:
- من هم الأريسيون؟
- أكذوبة الأرض الموعودة لبني إسرائيل من الفرات إلى النيل.
- أمريكا وإسرائيل.
- العرب والسيد المسيح في عهد دولة الأباجرة العرب وملكهم أبجر الخامس المعاصر للمسيح عليه السلام، وفيه قال بأن العرب هم أول من حملوا رسالة المسيح الحقيقية خلال ثلاثة قرون حتى قضت عليهم دولة بيزانس الرومانية في عهد الامبراطور قسطنطين في مطلع القرن الرابع للميلاد من هم (الفلسطينيون) في التاريخ العربي، ومعنى هذه الكلمة في اللغة العربية الكنعانية القديمة.
- الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان في الإسلام
- موقف الإسلام من العلم وأثر الرسالة الإسلامية في الحضارة الإنسانية.
- الإسلام والمشكلات الإنسانية
- الدولة والسلطة في الإسلام
- التصور العام للشريعة في الإسلام مقارنة بالشرائع القديمة والحديثة
نشرت مذكرات الدكتور معروف الدواليبي بإعداد الدكتور عبد القدوس أبو صالح، وتحرير الدكتور محمد علي الهاشمي، مكتبة العبيكان، الرياض في 263 صفحة.
وقد روى الدكتور معروف الدواليبي قصة عثوره على سفر أشعيا في عام 1953فذدر أنه اكتشفه في إحدى المغاور في جبال الأردن التي تبلغ مغاويرها نحو 600 مغارة وهي الأمكنة التي كان يختفي فيها المؤمنون ضمن مخطوطات دينية، وقد وجده بكامله، بينما المنشور في التوراة جزء منه. وبعد دراسته في الفاتيكان من عام 1961- إلى 1965 وتبينت قيمته، فأصدروا كتيباً يدعون فيه إلى الحوار ما بين المسيحية والإسلام، ويثنون على الإسلام كدين.
نشرت مذكرات الدكتور الدواليبي في قسمين: السوري والسعودي، وقد نقد الأستاذ غسان الإمام مذكرات “الدواليبي” في مقال في الشرق الأوسط في 5 يوليو 2001 وكذلك فعل الأستاذ سمير عطا الله، وأمين عام دارة الملك عبد العزيز آل سعود وغيرهما من الذين يميلون إلى تمجيد أو تضخيم الأدوار غير السورية.
وقد حرص كتاب سعوديون على التقليل من دور الدكتور معروف الدواليبي أو مما نسبه إلى نفسه من دور في عهد الملك فيصل ووصل الأمر ببعض من انتقدوا الدكتور معروف الدواليبي إلى أن وصفوه بالسطحية والمبالغة الذاتية وانعدام الدقة ومع ما تُقدٌمه هذه الاتهامات السعودية من أسانيد فإن جوهر روايات الدكتور معروف الدواليبي يبقى في كثير من الأحيان متٌسقا مع الحقائق المجردة.
توفي الدكتور معروف الدواليبي في 15 يناير 2004 ودفن في المدينة المنورة في البقيع.
وصفه زميله في كلية الحقوق، وصديقه، ورفيق دربه الشيخ علي الطنطاوي (1909- 1999): وما صنع الدواليب، مما هو أقرب إلى الأساطير منه إلى الواقع، ومذكراته من أغنى الذكريات بالمعلومات وعنده من الأخبار، ما هو عند الناس سرٌّ من الأسرار وكتب كثيرون في تمجيد دور الدكتور معروف الدواليبي منهم ازدهار سليمان مطر و الحسابات الخفية
تم الشر نقلا عن موقع مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
للرجوع لبداية المقال من هنا