كانت الدولة العثمانية طيلة القرون التي عاشتها بمثابة أكبر نُقطة اتزان وتوازن بين الممالك الأوربية التي كانت تحكم العالم القديم: روسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وبين الممالك الصغيرة التي كانت ترتبط بهذه الإمبراطوريات الكبيرة من قبيل بلغاريا.
لم تحدث الحرب العالمية الأولى مُصادفة ولا من قبيل رد الفعل الفوري على مقتل ولي عهد النمسا والمجر في سراييفو، وإنما كانت هذه الحادثة هي القشٌة التي سبٌبت استدعاء التراث التاريخي من العداوات والثارات القديمة التي كانت تتجدٌد في التراث الشعبي ومن تم في العقيدة المُستترة للجنود والقادة الأوربيين على حد سواء.
إقرأ أيضا: بدايات عصر النهضة الفرنسية جاءت من تحالفهم مع الدولة العثمانية
وكانت فرنسا وإنجلترا قد بدأتا اللجوء إلى سياسة التحميس قبل المواجهة وهي سياسة كانت كلاهما أو إحداهما تدفع بها دولة من الدول أو جماعة من الجماعات إلى بدء الحرب على وعد بدعمها الكامل، وذلك حتى لا تظهر أي من الدولتين المحمٌستين بميول استعمارية وتوسعية كانتا معروفتين بهما وكانتا مثار تململ متكرٌر من الأوربيين بل من الأمريكيين على الرغم من بُعد المسافة. مع أن هؤلاء الأمريكيون كانوا يُمثلون في ذلك الوقت الخط الخفي.
وهكذا فإن روسيا التي أصبحت حتى تلك اللحظة أكبر لاعب مُحتمل في الحرب العالمية الأولى لم تدخل الحرب العالمية الأولى إلا بناء على تحميس فرنسا لها أما السبب المُعلن لدخول روسيا الحرب فكان أنها تقف مع صربيا ضد هذا الاعتداء الذي تُواجهه من الإمبراطورية النمساوية المجرية، ببساطة شديدة وبلغة غير دقيقة لكنها تكفل التذكر والفهم فإن فيينا أعلنت الحرب على بلغراد فرأت موسكو أن تدعم بلغراد بناء على تحميس باريس ثم لندن.
على كل حال فقد كانت هذه هي العقلية التي حكمت هذه الدول الكبيرة وهي تُمارس استعراض عضلاتها على النمسا، بينما لم يكن للنمسا من حليف حتى تلك اللحظة، وكان من الطبيعي طبقا لسياسة المحاور وردود الأفعال أن تطلب النمسا معونة ألمانيا التي استجابت لها، وكذلك فعلت بلغاريا التي تحكم علاقتها بصربيا عداوة تاريخية من عداوات أولاد العم التقليدية.
إقرأ أيضا: انقلاب 1909 العسكري الذي أضاع الدولة العثمانية
كانت الدولة العثمانية لا تزال بعيدة عن المعمعة وليس ذات مصلحة فيها أو لا ناقة لها فيها ولا جمل على نحو ذلك التعبير الجميل الذي أطلقه الشيخ المراغي بعد ربع قرن، لكن طبائع ومطامع العسكريين الثلاثة الذين كانوا يحكمون الدولة العثمانية بانقلاب عسكري متطور 1908/1909 والذي انتهى بحكم هؤلاء الباشوات الثلاثة طلعت وأنور وجمال منذ 1913 بعد أن كانوا قد عزلوا السلطان عبد الحميد في 1909 وأحلٌوا محله أخاه السلطان محمد الخامس الذي كان على سبيل المثال بمثابة الرئيس عدلي منصور (2013) أو الرئيس أحمد الخطيب في سوريا (1971).
رأى هؤلاء العسكريون أنها فرصة لهم لمُمارسة أعلى ما في السياسة من صلاحيات وهو قرار إعلان الحرب وظنوا أن هذا من حقهم باعتبارهم قد جلسوا على الكراسي، وكأنهم لم يكونوا يُدركون أن دخول الحرب قرار أكبر من العسكريين، وأنه يتطلٌبُ كثيرا من التأمٌل والفهم والتقدير الذي لم يكن لهم من حظوظها جميعا قدر كاف. ومع هذا فإن العسكريين الانقلابيين بحكم افتقادهم إلى الشرعية وبحكم حداثتهم في الصورة السياسية الدولية لم يكونوا قادرين على أن يظهروا في المشهد على نحو مُشرٌف يُوازي ظهور ملك أو إمبراطور أو رئيس أو قيصر وهو يُعلنُ الحرب، وهكذا بدأت مُشاركتهم في الحرب متسمة بما يتسم به الأداء الانقلابي من اللجوء إلى واجهات ضيقة في الخطوات الواسعة واللجوء إلى واجهات كبيرة في الخطوات الضيقة، بل إن هؤلاء العسكر الانقلابيين قدٌموا مُبرٌرات غير مُتناسبة مع قرارهم بالمُشاركة في الحرب.
إقرأ أيضا: كيف زور العرب لأولادهم تاريخ الدولة العثمانية
وإذا كان هناك من مثل شبيه بما فعله هؤلاء القادة في دخولهم الحرب العالمية الأولى فإنه هو سياسات الرئيس جمال عبد الناصر في 1956 و1976 التي تكاد تكون صورة طبق الأصل من الخطوات التي انتهجها الانقلابيون لدخول الحرب في 1914 من دون الوعي الكافي بأنهم يدخلون إلى حرب عالمية قد يفقدون فيها الإمبراطورية التي رفعت من قيمتهم وجعلتهم في هذه المكانة، ومع أنهم مدينون لسعة صدر الدولة من ناحية ولانقلابهم العسكري فإنهم لا يعرفون قيمة المواقع التي أصبحوا يحتلٌونها سواء على مُستوى الدولة أو العالم المسكون في تلك الفترة من التاريخ.
علن قادة الانقلاب العسكري التركي إلغاء الامتيازات الأجنبية التي كان القوميون الأتراك يُطالبون من باب المزايدة بإلغائها، وكأن العقلية الانقلابية تعتمد على إثارة المشاعر القومية بمثل هذا القرار في أحرج اللحظات التي لا تُناسب إعلان قرار من هذا القبيل بما يُمثله من الاستفزاز وما يُؤدي إليه من ابتزاز أصحاب الامتيازات أنفسهم، وقد فعل الصدر الأعظم هذا وكأنه الرئيس عبد الناصر حين أمٌم قناة السويس وجهٌز الأغاني والأهازيج التي تتحدث عن أن هذا التأميم كان ردا على تخاذل الأمريكيين والبنك الدولي في تمويل بناء السد العالي، وبالنسبة للانقلابيين الأتراك فقد كانت عقيرتهم ترتفع في تلك اللحظة بذكر تخاذل البريطانيين والفرنسيين عن تمويل موازنة الدولة العثمانية بالقروض الكفيلة بدعم خزينة الدولة رغم مُحاولات التقارب التي بذلها هؤلاء الانقلابيون مع فرنسا وبريطانيا.
إقرأ أيضا: هكذا تم الثأر منذ مئة عام لرعونة الانقلابيين الأتراك مع الأرمن
لا يعجبنٌ القارئ من هذا السلوك الناصري المُبكٌر عند قادة الانقلاب العسكري التركي في 1914، ولا يعجبنٌ القارئ من هذا السلوك “التركي” المُتأخر عند عبد الناصر في 1956. ننطلق إلى التطوٌرات فنجد الصدر الأعظم (أي رئيس الوزراء التركي الانقلابي) يمضي خطوات واسعة شبيهة بما عرفناه من الخطوات الانقلابية العربية المُعاصرة، وإذا به يُعلن إغلاق المضايق في وجه الملاحة التجارية وكأنٌه عبد الناصر في مايو 1967 وإذا به أيضا يُلغي مكاتب البريد الأجنبية.
ولم يكن الأمر بعد هذا بحاجة إلى إعلان حرب صريح فها هي الدولة العثمانية على يد انقلابيها قد تورٌطت بما فيه الكفاية فدخلت الحرب من دون شموخ القوي الذي يدخل الحرب رافعا رأسه، وإنما هي دخلتها دخول الانقلابي الذي يُظهرُ غير ما يُبطن، ويرفع شعارات تتناقض مع سياسته حتى تأتي لحظة تفرض عليه أن يعترف بما كان في نيته، وقد جاءت اللحظة سريعا حين حقٌق الألمان انتصارات رائعة مُتتالية على الروس، فأصبح من المقبول دعائيا وشعبويا أن ينضم الانقلابيون إلى الألمان المُنتصرين، وليس إلى النمساويين والمجريين الذين كان عندهم مُبرر لشنٌ الحرب انتقاما لمصرع ولي عهدهم!
إقرأ أيضا: القائد التركي الانقلابي الذي دمر ما بناه عشرون خليفة عثمانيا
هكذا جاء دخول الدولة العثمانية للحرب كأنه حضور للمهرجان بعد الانتصارات الألمانية على روسيا، وقد رأى هؤلاء الانقلابيون بقصر نظرهم أن يُهاجموا الموانئ الروسية في البحر الأسود وعند ذاك لم يكن هناك بدٌ أمام الروس من أن يُعلنوا الحرب على الدولة العثمانية، ومن ثم كان لا بد للسلطان الصوري محمد الخامس (1844 ـ 1918) أن يُعلن الحرب ردا على إعلان روسيا الحرب بينما كان كثير من رعاياه في الهند ومصرو إفريقيا قد أجبروا على دخول الحرب منذ شهور في جانب بريطانيا وفرنسا بطرق ملتوية.
وكان إعلان الحرب على هذه الطريقة مُبشٌرا بنهاية الدولة العثمانية على الرغم من كل البسالة التي ظهرت من جنودها المُخلصين وضباطها الأفذاذ، لكن هذا كله لا يُجدي مع قيادة عليا تتمتٌعُ بالرعونة وتفتقد إلى الخبرة السياسية والشرعية معا.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا