أشرت أكثر من مرة إلى ما هو غير معروف بالدرجة الكافية من أن الملك إدريس السنوسي (1890-1983) كان أكثر الحكام العرب عطاء لمصر وللقضية الفلسطينية، وأشرت أيضا أكثر من مرة إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة التي تأسست في 1971 لا تزال مدينة بأغلى ما تملكه لليبيا في السنوات الأولى من عهد ثورتها مهما كان رأينا في الرئيس معمر القذافي، وأشرت أيضا من ناحية أهم من هاتين الناحيتين إلى أنه لولا الدعم الليبي الصادق والمخلص لسلاح الجو المصري (بتمويل التسليح والحصول على طائرات الميراج الفرنسية بمظلة ليبية سمحت بما لم يكن ممكنا ولا متاحا لمصر) ما استطاعت القوات المسلحة المصرية تحقيق نصر أكتوبر المجيد ولا خوض المعركة من الأساس .
ومن الإنصاف أن نروي الوقائع التاريخية المتصلة بهذه الحقائق فيما يتعلق بحجم وتطور بل ببداية هذا الإسهام الليبي غير المسبوق ولا الملحوق في الصراع العربي الإسرائيلي، بدأ الإعلان عن هذا الدعم في مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في القاهرة في يناير 1964 وسمي بالأول (بينما كان هو الثالث في حقيقة الأمر على نحو ما تم تصحيح تاريخ القمم والجامعة العربية بعد هذا)، وقد كان الوفد الليبي برئاسة الأمير الحسن الرضا (192 -1992) ولي العهد ومعه رئيس الوزراء محي الدين فكيني (1925- 1994) وقد وصل هذا الوفد إلى القاهرة يوم 12 يناير على متن طائرة الخطوط الجوية الإيطالية، وخصص له الدور التاسع بفندق النيل هيلتون بالمناصفة مع الوفد المصري . وفي جلسة مؤتمر القمة التي انعقدت يوم الإثنين 16 يناير (الذي وافق أول رمضان 1383) تكلم الرئيس جمال عبد الناصر عن حاجة المعركة إلى التمويل وقال بكل صراحة:
“إن حركة الجيش تحتاج لمال وإن موارد البلاد المطلة على إسرائيل محدودة، ولكن لا تنقصها القوة والأفراد، وما تحتاجه هو دعم مادي يمد الجيش بطاقته الحيوية وهي السلاح، والعتاد، والأجهزة المتطورة، وتدريب أفراد قادرين، وبناء حصون. وبما أن الدول التي أنعم الله عليها بنعمة البترول عدد سكانها قليل أو بعيدة عن جبهة القتال تستطيع أن تساهم بمبالغ مادية لدعم الصمود والمواجهة لهذا العدو الذي تدعمه أمريكا والدول الغربية. فأرجو أن يكون وقع كلامي إلى هذه الدول وهي ثلاثة: السعودية والكويت وليبيا. أرجو أن تعرف وتعي خطورة الموقف وتساهم ولو بقليل من ميزانيتها السنوية لدعم المعركة الكبرى التي تخصنا جميعاً ونسمع آراءهم أو وجهة نظرهم”
وعلى الفور طلب جلالة الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود (1902- 1969) الذي كان لايزال ملكا للسعودية الكلمة ووقف رغم مرضه وألقى كلمة قصيرة أشار فيها إلى أنه يؤيد الرئيس جمال عبد الناصر في ضرورة تحمل هذه الدول بعض الجهد للمعركة..، ويكفي أن أهلها يضحون بالأرواح بينما المال أقل بكثير من بذل النفس، ثم قال إنه من هذا المكان ” تعلن المملكة العربية السعودية تخصيص مبلغ 40 مليون دولار دعماً للمعركة.” وضجت القاعة بالتصفيق.
ثم طلب أمير الكويت الأمير عبد الله السالم الصباح (1895- 1965) الكلمة، وكانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء فطلب الرئيس جمال عبد الناصر إرجاء كلمة الكويت لحلول موعد الإفطار إلا أن الأمير عبد الله الصباح أصر على الكلام لدقائق معدودة قبل الإفطار وأنهى كلمته بقوله: ” لقد خصصنا 15 مليون دولار دعماً للمعركة وهي معركتنا.” وضجت القاعة بالتصفيق مرة أخرى. واختتم الرئيس جمال عبد الناصر الجلسة راجياً للجميع إفطاراً شهياً مع الإشارة إلى أن كلمة ليبيا تأجلت إلى اليوم التالي 17 يناير لتوضح أمرها بالنسبة للدعم.
يروي الليبيون ما حدث بالفعل وهو أن الأمير الحسن الرضا اتصل هاتفياً بالملك إدريس السنوسي في ليبيا قبل الجلسة المقرر انعقادها في اليوم التالي وأنهى إليه تفصيلات ما تم في جلسة ذلك اليوم فكلفه الملك إدريس السنوسي بأن يعلن أن ليبيا ستتكفل بدفع 55 مليون دولار “. في بداية الجلسة النهائية توجه الرئيس جمال عبد الناصر بالسؤال إلى سمو ولي العهد الحسن الرضا: “إيه أخبار ليبيا.. كيف حال صحة الملك؟” وكان رد السيد الحسن الرضا مفاجئا للجميع بنبله ونخوته وشهمته وإخلاصه الصامت حيث قال: “أولاً: جلالة الملك يبارك لكم الاجتماع، ويدعو الله أن تكونوا أكثر قوة واتحاداً وعزماً وصلابة وأن تزداد المحبة بين الجميع، ويعلن أن ليبيا ستساهم في دعم القوة العربية بمبلغ 55 مليون دولار”
ضجت القاعة بالتصفيق والاستبشار والتقدير والإعجاب بهذا الملك المعروف عنه أنه مشمول بالبركة والخيرية منذ قاوم الإيطاليين وحافظ على أرض بلاده واستقلالها، ولكي يضفي الرئيس جمال عبد الناصر مزيداً من البشر والمرح فإنه على عادة المصريين في إظهار رغبتهم في سماع الخبر أو اللحن الجميل مرة أخرى أمسك بحلمة أذنه وقال مخاطبا ولي العهد الأمير الحسن الرضا: ” سمعني مرة تانية ” وعندئذ وقف الأمير الحسن الرضا ورئيس الوزراء محي الدين فكيني وقالا في صوت واحد: “ستدفع ليبيا 55 مليون دولار بأمر مولانا الملك”.
وكانت هذه بداية لا نهاية لها لفضل هذا الشعب الليبي العظيم الذي يعاني أمس واليوم من ظلم الأشقاء وعسفهم وتعنتهم ضده وضد حريته لمصلحة أعداء متربصين به وبمستقبله وبالأشقاء أنفسهم معه.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
لقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا