عبد العزيز فهمي باشا (1870 ـ 1951) اسم كبير من الأسماء الكبيرة في عصر الأسماء الكبرى، وهو صاحب شخصية مرموقة كما أنه من أبرز رموز عصر النهضة، وقد وصل إلى مكانة قاضي القضاة ونقيب المحامين (ثلاث مرات) ونائب رئيس المجمع اللغوي ورئيس ثاني الأحزاب المصرية (مرتين)، وهو ما لم يجتمع لأحد هكذا سواه. وهو أيضا المصري الوحيد الذي يحمل اسمه أحد خطوط المترو.
عبد العزيز فهمي باشا هو أول الزعماء تأثرا بسعد زغلول باشا، وإذا كان النحاس باشا هو التلميذ الأوفى لسعد زغلول فإن عبد العزيز فهمي هو تلميذه الأول على الرغم مما شاب علاقتهما من الجفاء.
ولد عبد العزيز فهمي باشا في كفر المصيلحة من قرى محافظة المنوفية في 23 ديسمبر 1870، وتلقى تعليماً أزهرياً ومدنياً ثم بمدرسة الحقوق وتخرج فيها، وعمل في وظائف النيابة العامة في الدقهلية وطنطا وقنا ونجع حمادي وبني سويف.
وفي 1897 تعاقد على العمل نائبا للمستشار القانوني لديوان الأوقاف.
وفي 1903 افتتح مكتبا للمحاماة وامتهن المحاماة وسرعان ما أصبح من المحامين البارزين.
انتخب عبد العزيز فهمي باشا مبكراً عضواً في الجمعية التشريعية 1913 فكان واحدا من أبرز رموز النخبة السياسية التي قدر لها أن تقود الحياة السياسية منذ ذلك الحين وحتى منتصف القرن العشرين، ثم كان أحد مؤسسي الوفد المصري عام 1918 فقد كان ثاني ثلاثة بدأت بهم ثورة 1919 حين ذهب مع سعد زغلول وعلي شعراوي إلي المعتمد البريطاني يطالبونه بحق مصر عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد سافر مع سعد زغلول إلى باريس واختلفا فعاد إلى مصر. عندما وقع الانشقاق بين سعد وأعضاء الوفد كان من أبرز نقاد سعد وانضم لحزب الدستوريين وأصبح رئيساً له مرتين الأولى خلفا لعدلي يكن باشا 1924، والثانية عقب وفاة محمد محمود باشا في 1941، لكنه سرعان ما آثر أن يعتزل السياسة.
لم يشترك عبد العزيز فهمي باشا في الوزارات المصرية إلا مرتين، الأولى ضمن حصة الأحرار الدستوريين في الائتلاف مع زيور في وزارته الثانية (مارس 1925 ـ سبتمبر 1925) كوزير للحقانية، وكان في ذلك الوقت رئيساً للحزب، وقد أقيل من منصبه بسبب موضوع كتاب الشيخ علي عبد الرازق، أما المرة الثانية فكانت في وزارة محمد محمود باشا الثانية (ديسمبر 1937 ـ أبريل 1938) وفيها قبل العمل كوزير دولة كي تضم الوزارة الشخصيات الكبيرة على نحو ما سميت!
من الحنبليين
كان عبد العزيز فهمي باشا مؤهلا في السياسة والزعامة لأكثر مما وصل إليه لولا تدقيقاته الشديدة، ولو أنه ظل من طلاب الأزهر لكان المثل الأعلى للمُفْرِطين في التدقيق لدرجة التزمت أو من يسميهم العامة بالحنابلة بين الأزهريين، وإن كان الحنابلة يبرئون بأنفسهم عن هذا الوصف الذي يطلق عليهم.
ولأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فقد عُوض عبد العزيز فهمي باشا عن جده واجتهاده وفقهه وعلمه وسلوكه بأن أصبح أول رئيس لمحكمة النقض، على حين أن استقامة خلقه وافتقاده الحدود الدنيا من متطلبات العمل السياسي ودهاءه لم يصل به في المناصب الوزارية إلى أكثر من وزير فحسب، ومع أنه كان مرشحا للمنصب الوزاري منذ بداية عهد السلطان فؤاد بل ومنذ عهد السلطان حسين كامل أو نهاية عهد الخديوي عباس حلمي، فإنه لم يصل إلى هذا المنصب إلا في وزارة زيور الثانية (1925) كواحد من ممثلي الحزبين المؤتلفين في وزارة من غير الأغلبية التي هي الوفد .
ولست أنكر أنني دائما ما أوظف سيرته في حث المتصلبين على النجاة من النظرة الجزئية في حكمهم على الأمور واللجوء إلى النظرة الكلية. فهذا هو عبد العزيز فهمي باشا يأبى العمل تحت رئاسة سعد لكنه فيما بعد لا يأبى العمل تحت رئاسة أحمد زيور باشا 1864-1945 ولا غير زيور باشا، وهو مضطر إلى هذا بالطبع.
ورغم ما يبدو من هذا الضيق في النظر إلى المجتمع المضطرب بالحركيات السياسية والحزبية فقد كان هذا الرجل محظوظا، فقد وصل عبد العزيز فهمي باشا مبكرا إلي رئاسة الحزب الثاني في البلاد وترك هذه الرئاسة برغبته، ولم يكن هذا هو كل الحظ الذي صادف عبد العزيز فهمي باشا ، فإن له في الحياة الدنيا وفي حياة الخلود حظوظا أخرى كثيرة، فهو المصري الوحيد الذي أطلق اسمه ، كما ذكرنا، على خط من خطوط المترو، وحدث هذا منذ عقود كاملة قبل أن تطلق أسماء الرؤساء الأربعة علي بعض محطات خطوط مترو الأنفاق وليس على الخط بأكمله. ووصل عبد العزيز فهمي باشا إلى منصب نائب رئيس المجمع اللغوي، وهي مكانة كبيرة جدا لأنه وصل إليها في وجود أعضاء من طبقة الجارم، وطه حسين والعقاد وهيكل وأحمد أمين وأحمد حسن الزيات ومنصور فهمي وغيرهم.
بين المكانتين
جمع عبد العزيز فهمي باشا ، كما ألمحنا ، بين المكانتين الأوليين في سلك القضاء والمحاماة في عصر الليبرالية، فقد كان نقيبا ،أول رئيس لمحكمة النقض والإبرام (النقض فيما بعد)، أي قاضى القضاة وقبلها كان رئيساً لمحكمة الاستئناف الأهلية وكان هذا المنصب هو أكبر مناصب القضاء قبل إنشاء محكمة النقض ، وكذلك كان نقيبا منتخبا للمحامين، بل إنه كان على وشك أن يكون أول نقيب حين تأسست نقابة المحامين في بداية القرن لولا أن المحامي الأشهر الأستاذ إبراهيم الهلباوي أبدى رغبته في أن ينال هذا الشرف ، ونقل الدكتور محمد حسين هيكل هذه الرغبة إلى عبد العزيز فهمي باشا الذي تقبلها بصدر رحب وأعلن أن هذا من حق الأستاذ الهلباوي وتولى بنفسه الدعوة إلى انتخاب الأستاذ الهلباوي. وقد انتخب هو نفسه نقيباً للمحامين بعد ذلك، ومن الطريف أن سعد زغلول باشا والنحاس باشا لم يقدر لهما أن يترشحا لهذا المنصب، فيما ناله من وزراء الوفد مرقص حنا باشا ومكرم عبيد باشا وكامل صدقي باشا ومحمود بسيوني باشا ومحمد صبري أبو علم باشا، ومن الجدير بالذكر أن المؤرخ العظيم عبد الرحمن الرافعي لم ينل هذا المنصب إلا بالتعيين في عهد ثورة 1952.
وليس هذا هو كل ما يذكره تاريخ حياة عبد العزيز فهمي باشا ، فقد دخل تاريخ التربية والتعليم في وطنه من أوسع الأبواب، ذلك أنه حين اعتزل السياسية أراد أن يضرب المثل بما يجب على الوطني الحق أن يفعله، فانصرف إلي أهل قريته الأصلية يمحو أميتهم جميعا، وتعليمهم جميعا ، حتى نسجت الأساطير عن هذه القرية التي لم يبق فيها أمي ثم لم يبق فيها مواطن بلا وظيفة حتى إنهم صرفوا راتبا للدابة التي تنقل البريد ، ومن الحق أن نقول إنه لم يبدأ جهده من فراغ، فإن نسب التعليم في قرى إقليم المنوفية مرتفعة من قديم، لكن عبد العزيز فهمي باشا نجح في أن يمحو أمية كل أمي في قريته حتى أصبحت نسبة المتعلمين فيها مائة في المائة، وكان المصريون المفتونون بباريس وأوربا وفرنسا يسمونها «كفر باريس»، مع أن نسبة المتعلمين في باريس لا تصل إلى 100%، ولو لم يكن لعبد العزيز فهمي باشا في حياته كلها غير هذا الإنجاز لكفاه.
وقد كان لعبد العزيز فهمي باشا وجود بارز في كثير من وقائع الفترة التي عاشها، ومواقفه المتعددة الشهيرة أكثر من أن تحصى، وربما يختلف المؤرخون والنقاد والسياسيون في أيها أهم، وهذا دليل على مدي الحيوية الفكرية التي كان يتمتع بها هذا الرجل، لكنني سأستبق الحديث عن مواقفه السياسية بذكر موقفين فكريين غريبين تبناهما هذا الرجل ولم يصبه فيهما التوفيق، لكنهما يدلاننا على مدى ما كان عقله (المحافظ) يتمتع به من جرأة شديدة لم يكن يتمتع بها أو يندفع إليها غيره من كل أقطاب الفكر.. ومع هذا فإنه لم يكن راديكاليا أبدا رغم هاتين الفكرتين اللتين تبدوان غير قابلتين للصدور إلا عن راديكاليين.
الفكرة الأولي غير مشهورة على الإطلاق، وقد تعرفت عليها بسبب الدراسة التي أعددتها عن مجلة الثقافة (وهي الدراسة المنشورة في كتابي «مجلة الثقافة تعريف وفهرسة وتوثيق»)، وقد صادفت في أثناء إعدادي لهذه الدراسة الضخمة دراسة قيمة وغير مشهورة لعبد العزيز فهمي باشا عن تعدد الزوجات انتهى فيها إلى أن الإسلام لم يحلل تعدد الزوجات، وقد أقام أدلته المنطقية والعقلية على هذه الفكرة من الآية القرآنية التي يقول فيها الحق جل جلاله: «فإن لم تعدلوا فواحدة»، ولا أظن هذه الدراسة تغير شيئا من اعتقاد الفقهاء والعلماء على الرغم من أن منطق عبد العزيز فهمي باشا في عرض فكرته متماسك وجيد، وعلى الرغم من أن المقدمات التي أوردها قد تفضي إلى النتيجة التي توصل إليها ، وعلى الرغم مما يبدو من الدقة المتناهية في بناء الأدلة القانونية الدالة على صواب ما انتهى إليه عبد العزيز فهمي باشا.
اللغة العربية بالحروف اللاتينية
أما الفكرة الثانية التي دعا إليها عبد العزيز فهمي باشا فهي تتعلق بكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وعلى الرغم من أننا جميعا مررنا بالتفكير في مثل هذه الفكرة حين كنا نخطو بعض الخطوات الأولى في تعلم اللغات الأجنبية، ثم عدلنا عنها ونحمد ربنا على لغتنا المقتصدة في الحروف المكتوبة، على الرغم من هذا فإني ألتمس العذر لعبد العزيز فهمي باشا في انخداعه بهذه الفكرة وإلحاحه عليها، وأتصور هذا العذر ناشئاً عن قيامه بدور المعلم ومعاناته، وأعتقد أنه لم يصدر في هذه الدراسة عن روح صاحب العقلية الناضجة الذي أراد أن يسهل على تلاميذه الأميين من كبار السن تحريك شفاههم بالضمة والفتحة والكسرة والمدة والشدة، ويبدو أن عبد العزيز فهمي باشا وهو الذي لم يدرس الطب ولا العلوم، ظنَ أو اعتقد أن تعلم القراءة والكتابة يخضع للمنطق وحده، وفاته بالطبع أن المتعلم يدرك ما تعلمه بطريقة كلية وفسيولوجية و ذاكراتية (نسبة إلى الذاكرة) وشرطية و تمثيلية وتماثلية وتمثلية (نسبة إلى التمثل) … وليس بطريقة منطقية فحسب، كما أنه لم يكن واعياً بالقدر الكافي لحقيقة أن اكتساب اللغة واكتساب التعلم لا يتأتى بالطريقة التي تصورها هو، ومع هذا فإن أحدا لم يحاول أن يقنع عبد العزيز فهمي باشا بمثل هذا الذي بسطته في سطرين، فقد كان هذا صعبا في زمانه ، على الرغم مما قد يبدو من بساطة الفكرة التي يفهمها معظم القراء اليوم بفضل تطور المعرفة الإنسانية نفسها.
والحق أن اللغة العربية لا تستعصي على أن تكتب بالحروف اللاتينية، لكنها تصبح مسخا مشوها على نحو ما حدث للغة التركية على يد أتاتورك، ولماذا أذهب إلى مثل بعيد لا يعرف تفصيلاته من أهل قومي إلا القليلون؟ ولماذا لا أقول إنها تصبح على نحو ما يحدث لأي لغة أوروبية حين نكتبها بالحروف العربية خاصة في الكتب التي تحمل عنوان تعلم الإنجليزية في أسبوع، وتعلم الفرنسية في خمسة أيام، وتعلم الألمانية في عشرة أيام.. وهكذا.
الإسلام وأصول الحكم
ونأتي إلى بعض ممارسات عبد العزيز فهمي باشا السياسية التي أثارت الغبار والزوابع والعواصف، بل الأعاصير في بعض الأحيان، نبدأ بموقف يُثاب عليه عبد العزيز فهمي باشا رغم أنفه، ورغم أنه لم يفعل شيئا، وإنما امتنع فيه عن أداء ما كان ينبغي عليه أن يعمله فكان في امتناعه البداية الجيدة لسلسلة من الإجراءات والخطوات التي انتهت في النهاية بوحدة الأمة كلها، والقضاء على الانقلاب الدستوري الأول وحدوث الائتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين لأول مرة.
ذلك أن الشيخ علي عبد الرازق كان قد أصدر كتابه «الإسلام وأصول الحكم» على ما يعرف القراء وتطور الأمر حتى صدر القرار بإخراجه من زمرة العلماء، وكان مقتضى هذا أن يفقد الشيخ علي عبد الرازق وظيفته، ولابد لفقدان الوظيفة من قرار كاشف، يصدر عن الوزير المسؤول، وقد كانت هذه هي الخطوة الأولي التنفيذية التي يفقد بها هذا العالم وظيفة من اختصاص وزير الحقانية الذي ينبغي عليه ألا يُستبقى في وظيفة القاضي مَنْ فقد صفته كعالم، و هاهو الشيخ علي عبد الرازق قد أخرج بالفعل من زمرة العلماء ، وبقي أن يخرج من زمرة القضاة العاملين الشاغلين لوظيفة .
كان عبد العزيز فهمي باشا هو وزير الحقانية في ذلك الوقت، وهو في ذات الوقت من حزب الأحرار الدستوريين المؤتلف في وزارة زيور باشا الثانية بثلاثة وزراء منهم رئيس الحزب الذي هو عبد العزيز فهمي باشا نفسه، وكانت عائلة عبد الرازق (وليس الشيخ علي فقط) من أقطاب الحزب، بل من أركانه، وكان رئيس الوزراء زيور باشا غائبا وقد حل محله في رئاسة الوزارة بالنيابة يحيى إبراهيم باشا، وهو رئيس وزراء سابق، ورجل قضاء كبير كان متقدما في سلك القضاة على زيور وعبد العزيز فهمي باشا وقد طلب رئيس الوزراء القائم بالعمل من عبد العزيز فهمي باشا أن ينفذ القانون فتمهل أو تباطأ أو قل إنه أرجأ الامر متعللاً بأنه يبحث قانونية الموضوع، ومن العجيب أن يصدر مثل هذا التصرف عن وزير للعدل حاز بعد ذلك على لقب قاضي القضاة حين أصبح أول رئيس لمحكمة النقض، ومن الأعجب من هذا ولكن الناس لا يعرفونه أن رئيس الوزراء بالإنابة يحيى إبراهيم كان قد وصل إلى مكانة قاضي القضاة من قبل، فقد كان رئيسا لمحكمة استئناف القاهرة لفترة طويلة، وهو المنصب الأول في القضاء قبل إنشاء محكمة النقض واحتلال رئيسها لمكانة قاضي القضاة.
وإذاً فلم يكن الرئيس الذي يأمر عبد العزيز فهمي باشا بإمضاء القانون بأقل علما من عبد العزيز فهمي باشا بالقانون، ولا بأقل منه مكانة في وجدان القانونيين، ومع هذا فإن عبد العزيز فهمي باشا امتنع عن تنفيذ طلب هذا الرجل العظيم الذي كان يتولى منصب رئيس الوزراء بالإنابة، وهكذا لم يجد يحيى باشا إبراهيم بدا من أن يطلب من الملك فؤاد أن يقيل الوزير فصدر المرسوم الملكي بهذا..
وكان هذا المرسوم فاتحة خير على الحركة الوطنية، فقد مضت تداعياته على النحو التالي: رأى بعض زعماء الأحرار الدستوريين أنه لابد من خروج وزرائهم من الائتلاف الحاكم.. أو لابد من إقالة يحيى إبراهيم رئيس حزب الاتحاد على النحو الذي أقيل به زعيمهم، واجتمع مجلس إدارة الحزب وأصدر أوامره إلى الوزيرين الدستوريين بالاستقالة تضامنا مع رئيسهم، وكان الوزيران هما محمد علي علوبة وتوفيق دوس، واستجاب الوزيران، سواء تم هذا عن رضا منهما أم عن اضطرار، بل واستقال معهم إسماعيل صدقي باشا، وهو الرجل القوي في الوزارة، وقد بعث باستقالته من أوربا حيث كان يصطاف، وأصبح هذا الموقف الجديد مدعاة لأن يتقارب زعماء الأحرار الدستوريين الذين تركوا التحالف مع حزب الوفد، وهو التقارب الكبير الذي حدث وشاركهما الحزب الوطني فيه، وكان من نتيجته إجراء انتخابات جديدة وتكوين برلمان جديد رأسه سعد زغلول حتى توفي، فترأس الوزارة الائتلافية عدلي يكن فثروت باشا فالنحاس باشا .
أما الموقف الثاني فإنه ربما لا يقل أهمية عن الأول، وقد حدث في عهد وزارة إسماعيل صدقي الأولى التي هي أقسي وزارات عهد الملكية وأشقها على الحركة الوطنية، فقد عُرضت على محكمة النقض دعوى لنقض حكم الإعدام الذي صدر بحق الرجل الذي قتل مأمور البداري انتقاماً من التعذيب الذي ناله على يديه، فما كان من عبد العزيز فهمي باشا إلا أن سجل في حكم محكمة النقض عبارته الشهيرة في وصف ممارسات الإدارة (أي الوزارة) التي دفعت القاتل إلى القتل، وهي أن هذه التصرفات كانت إجراما في إجرام. وأشار حكم المحكمة إلى أنه ليس بوسعها (أي بوسع المحكمة) ولا من سلطتها أن تنقض الحكم بالإعدام، لأنه صحيح من الناحية القانونية لكنها طلبت إلى المسئولين أن يحققوا في الموضوع كله.
أزمة التعيين في مجلس الشيوخ
كان من نتيجة هذا أن عبد الفتاح يحيى وزير الحقانية وعلي ماهر وزير المعارف آثرا أن يتركا مركب وزارة إسماعيل صدقي الموشكة على الغرق، وهكذا اضطرت الوزارة إلى الاستقالة، وشكل إسماعيل صدقي وزارته الثانية من دونهما، وهي الوزارة التي لم تلبث إلا عدة أشهر ، أعقبتها وزارة عبد الفتاح يحيى نفسه، لكن المهم أن العهد الصدقي بدأ بالفعل في الأفول بسبب هذا الحكم وبلاغته وإصابته الهدف بأبلغ عبارة واعتماد القوى الوطنية عليه في هجومها على صدقي باشا.
نأتي إلى مواقف أخرى لابد من الإشارة إليها سريعا فبسبب عبد العزيز فهمي باشا حدثت أزمة التعيين في مجلس الشيوخ بين الملك من ناحية، ووزراء الوفد من ناحية أخري، الذين اتخذوا قرارهم بتفضيل فخري بك عبد النور على عبد العزيز فهمي باشا لكرسي عضوية مجلس الشيوخ، وهي الأزمة التي كانت في النهاية أحد المسامير التي صورت على أنها دقت في نعش وزارة الوفد في بداية عهد الملك فاروق.
وقد حفظت ذاكرة التاريخ والقانون كثيرا من المواقف التي يشبه تأثير عبد العزيز فهمي باشا فيها تأثير سعد باشا زغلول من حيث القدرة الفائقة على صياغة الصراع والتعبير عنه ببلاغة متناهية وإيجاز فائق لا حدود لقدرته على النفاذ والتأثير في الجماهير، لكن من العجيب أن هذا الرجل خرج عن الوفد ولم يشأ أن يعود إليه أبدا، فيما عادت العلاقة بين سعد باشا وعدلي باشا ، وبين سعد باشا وثروت باشا ، وبين سعد باشا و محمد محمود فإنها لم تعد أبدا بين سعد و عبد العزيز فهمي باشا ، وقد صور الدكتور هيكل موقف عبد العزيز فهمي باشا من سعد زغلول فقال :
«أما عبد العزيز فهمي باشا فأبى أن يزور سعد أو أن يزوره سعد، ذاكراً أنه يعتقد عن إيمان بأن سعداً هو الذي جر على البلد ما تعاني منه، وأن خلافه مع سعد لم يكن يتعلق بشخصه هو، بل بما يؤمن بأن مصلحة البلاد تقتضيه. قيل له: فليزر سعد دار الحزب ودار السياسة، ففي ذلك من المعني ما يقوي المعارضة، ويضعف الحكومة ويعيد الحياة النيابية، وكلنا نطمع في إعادتها. وكان جواب عد العزيز: أن دار الحزب داري، ودار السياسة داري، لا فرق بينهما وبين منزلي الذي أقيم به، فليس مقبولاً أن أرفض زيارة سعد لمنزلي، وأن أقبل زيارته دار الحزب. وتشبث عبد العزيز بموقفه هذا تشبثاً ولم يكن من بد من النزول على رأيه فيه».
أما سعد نفسه ففي مذكراته أنه صور علاقته المبكرة بعبد العزيز فهمي باشا تصويرا دقيقا يوحي لنا بأن سعد كان قد أدرك منذ ما قبل ثورة 1919 حقيقة بعض مشاعر عبد العزيز فهمي باشا تجاهه، ولست أدري كيف كان هذا الرجل الذي هو سعد قادرا على التدقيق والتحقيق وربط هذه الحقائق التي يراها في وجوه أصدقائه وملامحها بما تنطوي عليه نفوسهم تجاهه.
ومع هذا فإني أحب أن أنبه إلي علاقة أخري غير علاقة سعد وعبد العزيز فهمي باشا باشا، وهو موقف أحمد لطفي السيد ( المولود 1872) وعبد العزيز فهمي باشا (المولود 1870) ، فمن الصدف الطريفة في تاريخنا أن هذين «الشابين» تزاملا في مطلع حياتهما، فلما ألحقا بالتعليم الثانوي في المدرس الخديوية صُف التلاميذ حسب طولهم فكان من نصيب أحمد لطفي السيد أن يتقدم بسنة دراسية على عبد العزيز فهمي باشا رغم أنهما كانا زميلين، هكذا «وضع» أحمد لطفي السيد في السنة الثانية فيما «وضع» عبد العزيز فهمي باشا في السنة الأولى، وظل عبد العزيز فهمي باشا يجتهد حتى ألحق بالسنة الثانية مع زميله. ولم يزل يجاهد مرة أخري حتى تقدم للامتحان النهائي قبل موعده بسنة، وهكذا فإنه في كلية الحقوق أصبح سابقا على زميله أحمد لطفي السيد بسنة وتخرج قبله بسنة.
ومن الطريف بعد هذا التفوق كله أنه لم يحظ بلقب أستاذ الجيل الذي حظي به أحمد لطفي السيد باشا ، وربما كان السبب الحقيقي في وصول أحمد لطفي السيد إلي هذه المكانة أنه كان متأنيا ولم يكلف نفسه ما كلف عبد العزيز فهمي باشا نفسه به، وما نكلف به أنفسنا حين نجد أنفسنا مدفوعين إلى مسابقة الزمن والجري أمام أعمارنا من دون أن ندع الزمن يعمل أثره فينا بأناة ومهل، وكثيرا ما أفيض في الحديث إلى الآباء وأولياء الأمور بهذه القصة حين أراهم مندفعين إلى البحث عن كل واسطة ممكنة لإلحاق أبنائهم بالتعليم قبل أن تكتمل السن القانونية حتى ينخرجوا مبكرين عن أعمارهم وسابقين لأقرانهم. وقد زاد في تعقيد الأمر في هذا الشأن أن مناصب الآباء من قبيل رئاسة الأقسام في الجامعة أو رئاسة المحاكم في السلك القضائي تعلي من شأن هذه القاعدة الغريبة، وكانت النتيجة أن ضاع أفراد كثيرون من الجيل التالي لجيلي بسبب الدراسة المتسرعة في الشهادات أو الثانويات المعادلة وما إليها من خطوات لا تستهدف إلا التخرج المبكر.
ومع هذا فمن الممتع أن نشير على القارئ بأن يطالع وصف لطفي السيد باشا لصداقته بعبد العزيز فهمي باشا في مذكراته التي صدرت عن دار الهلال.
قيمته كمحام
بقي جانب لا أظن أنه ينبغي لي ألا أن أتناوله، وهو قيمة عبد العزيز فهمي باشا كمحام، وقد حقق هذا الرجل شهرة فائقة وأصبح بمثابة نقيب المحامين في سن مبكرة، ولكن ليس معني هذا أنه كان منتصرا على الدوام على نحو ما حقق الهلباوي من شهرة في هذا المجال، ولا أنه كان من خطباء المحاكم، لكنني أرى فيه جوانب من الإبداع القانوني القابل بالطبع للتفوق، لهذا فسأكتفي من الأدبيات المتاحة بثلاثة أمثلة:
الأول: ما يرويه سعد زغلول عن مجادلته ومحاججته له في موضوع قضية من القضايا (والقصة في مذكرات سعد زغلول باشا)، أما الثاني فهو ما يرويه صليب سامي باشا في مذكراته عن وقوفهما معا (والقصة في مذكرات صليب سامي باشا)، أما الثالث فهو أن عبد العزيز فهمي باشا كان المحامي المواجه للنحاس باشا وويصا واصف باشا في قضية سيف الدين وقد رواها الأستاذان جمال بدوي وصلاح عيسى بأسلوبهما الجميل في كتابيهما. ومع أنني أؤمن وأدرك أن للمحامي أن يترافع في أي قضية يرى من واجبه أو من حقه أن يترافع فيها، فقد كنت أظن عبد العزيز فهمي باشا لا يقبل بطبيعته الحنبلية أن يترافع في مثل هذه القضية.
وعلى كل الأحوال فإن عبد العزيز فهمي لم يكن من حزب الأغلبية، ولا هو حظي برضا ذلك الحزب أبدا ‘بل إن أدبيات الوفد واليسار على حد سواء تصوره من أعداء الشعب الذين يستحقون الشماتة في سوء المعاملة التي كانوا يلقونها من الملك والقصر، وهذا على سبيل المثال هو تعقيب الدكتور عبد العظيم رمضان الشامت فيما يسميه إخراج عبد العزيز فهمي باشا من الحكم في عهد وزارة محمد محمود باشا، وهو يقصد بهذا الإخراج أنه كان وزيرا في وزارة محمد محمود الثانية لكنه لم يحتفظ بهذا المنصب في الوزارة التالية لها:
«وقد أقصي منها عبد العزيز فهمي باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين السابق ـ لثاني مرة بعد إقصائه الأول في أزمة كتاب «الإسلام وأصول الحكم»! ـ الأمر الذي كان له وقع الصاعقة في نفسه، على النحو الذي يرويه لنا الدكتور محمد حسين هيكل باشا علي النحو التالي: «أظهر لي غضبه من هذا التصرف، الذي تم بدون مشاورته فيه قائلا: «إن الرجال ليسوا قطعا في رقعة الشطرنج يلعب بها اللاعب!».
«على أن القصر لم يغفر لعبد العزيز فهمي باشا موقفه من الشيخ علي عبد الرازق، عندما حاول حمايته من الفصل من منصب القضاء الشرعي، فقد أقاله الملك فؤاد، وكلف علي ماهر باشا، الذي كان وقتذاك وزيرا للمعارف، بالقيام بأعباء وزارة الحقانية. وها هو يتكرر، فيطرد عبد العزيز فهمي باشا من الحكم مرة ثانية ولم يمض فيه أكثر من أربعة أشهر! لكنه يدفع ثمن تخليه عن الدستور وانقلابه على الحياة الدستورية».
بقي من عبد العزيز فهمي باشا في المكتبة العربية أنه ترجم عن الفرنسية «مدونة جوستنيان في الفقه الروماني». وأنه وضع رسالة في كتابة العربية بالحروف اللاتينية وأنه سجل بعض ذكرياته في كتاب صدر عن دار الهلال تحت عنوان “هذه حياتي”.
وبقي على أن أنقل للقارئ هنا نصا جميلا كان الدكتور مصطفي كيرة رئيس محكمة النقض الأسبق قد نشره في «الأخبار» ضمن سلسلة مذكراته التي كتبها تحت عنوان «رحلتي مع القضاء» وفي الحلقة 22 التي نشرت بتاريخ أول أكتوبر 2002 تحدث عن عبد العزيز فهمي باشا فقال:
«تميزت أحكامه بلغة عربية مبنية رفعت من المستوي العلمي للمحكمة (يقصد: محكمة النقض)، وعلم القضاة كتابة الأحكام فأنشأ صياغة خاصة انفردت بها محكمة النقض وتناولتها أجيال تعاقبت جيلا بعد جيل ونسجت على منوالها الجهات القضائية التي نشأت بعد ذلك، وحذت حذو ذلك المحاكم العربية، وأضرب مثلا علي ذلك عبارة استقرت في أحكام المحكمة، إذ عبر عن سبب الطعن بقوله: «ينعى الطاعن على الحكم المطعون فيه» وقد أثارت هذه الكلمة ينعى اعتراضا من أحد قضاة المحكمة العليا الشرعيين في محكمة عربية وأبدى استغرابه لها من الناحية اللغوية، وكان ردي عليه أن عبد العزيز فهمي باشا هو الذي ابتدعها وقد درس هذا في الأزهر، فعاد القاضي الشرعي بعد ذلك وقد رجع إلى الكشف عن هذه الكلمة في معاجم اللغة العربية وأبدى تأييده لها وسطرها في أحكامه اعترافا بفضل عبد العزيز فهمي باشا في اللغة العربية».
«كما كانت لديه الشجاعة في مواجهة السلطة وهي في قمة جبروتها وأصدر حكمه المشهور في قضية البداري سجل فيها إدانته للنظام القائم في ذلك الوقت ووصفه بأنه إجرام في إجرام».
«كما وضع مبدأ في خصوص القذف في الصحف وقال عنه: إنه عمل جنائي مركب فعل القاذف وفعل الناشر، وأنه يجب اختصاصهما معا، وقد استفدت من هذا الحكم في قضية رفعت على القاذف ولم تختصم فيها الصحيفة».
«كما وصف اعتراف المتهم الذي تأخذ به المحكمة بأن يكون نصا في ارتكاب الجريمة وكلمة نص واضحة الدلالة بأن يكون منصبا على ارتكاب الجريمة وأنه ليس اعترافا أن تجمع المحكمة من أقوال المتهم نتفا متفرقة وتعتبرها اعترافا».
«كما استحدث نظرية القدر المتيقن وهي من النظريات التي ابتدعتها محكمة النقض وظاهرها شراح القانون».
«وجدير بالذكر في هذا المقام أن عبد العزيز فهمي باشا هو الذي ابتكر اسم محكمة النقض وذلك على خلاف ما درجت عليه بعض التشريعات العربية وهو محكمة التمييز، أي تمييز الخطأ من الصواب، وقد رجع في هذا التعبير إلى القرآن الكريم في «سورة النحل» لا تكونوا كالتي نقضت غزلها» (الآية 92)».
دوره في التمسك بكرامة القضاء
«ولا يمكن إغفال دوره في التمسك بكرامة القضاء والحرص على مهابته والواقعة المشهورة التي سبق لي الإشارة إليها في مقال «عبد العزيز فهمي باشا قاضي القضاة في ذكراه» إذ حدث في أثناء ذهابه إلي محكمة النقض أن أحد أعضاء مجلس النواب قدم سؤالا عن راتب رئيس محكمة النقض فأمر سائق السيارة بالذهاب إلى قصر عابدين وقابل كبير الأمناء وقال له: لقد جئت في هذا الوقت المبكر لأقابل جلالة الملك، في هذا الوقت الملك فؤاد، فأبدى كبير الأمناء دهشته وقال له: ولكنك ترتدي الملابس العادية وليس هناك طلب بالمقابلة، فقال عبد العزيز فهمي باشا : بلغ جلالة الملك أن قاضي القضاة يلتمس مقابلته الآن بملابسه العادية لأمر يتعلق بكرسي العدالة، وبعد دقائق عاد كبير الأمناء وأبلغ عبد العزيز فهمي باشا أن الملك مستعد لمقابلته في الحال، واستغرقت المقابلة ساعة كاملة وانصرف عبد العزيز فهمي باشا إلى المحكمة وعقد الجلسة وأثبت في محضر الجلسة ما يأتي:
«لقد تشرفت بمقابلة جلالة الملك، هكذا بملابسي العادية، بعدما قرأت في الصحف أن مرتب رئيس المحكمة كان موضع نقاش في مجلس النواب، وقد أبلغت الملك أنني أحس مما قرأته أن كرسي العدالة يهتز من تحتي ولهذا صممت على الاستقالة من منصبي وقد استأذنته في ذلك، وسأذهب الآن إلى الوزارة لأقدم استقالتي».
«لقد أثبت عبد العزيز فهمي باشا في منهجه وسلوكه أن الرجال مواقف، وهي مواقف دلت على قوته واستمساكه بالمبادئ، وغضبه لأي مساس بكرامة القضاء، وكانت هذه الصفات هي التي أجلسته على عرش القضاء المصري»..
بقيت نقطة مهمة في الحديث عن عبد العزيز فهمي باشا وهي أنه ولد في نفس اليوم الذي ولد فيه شقيقي الدكتور أحمد وهو أيضا اليوم الذي ولد فيه الزعيم الألماني هيلموت شميدت المستشار الأسبق.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا