كان من أبرز السمات العملية التي ساعدت الرئيس جمال عبد الناصر على تحقيق ما حققه من نجاح ظاهر ومن نجاح مشوب بالفشل أنه لم يكن ينظر إلى النظريات الاقتصادية والسياسية لا بالاحترام ولا بالتقدير وإنما كان يعتبرها أدوات حكم أو سيطرة يلجأ إليها فيأخذ منها ما شاء ويترك ما لا يروق له، من دون أن يعتبر النظرية كيانا حيا أو كيانا واحدا، بل إنه كان يأخذ من النظرية ما لا يكلفه على أي صعيد، ويترك ما يراه مكلفا له.
وكان الرئيس جمال عبد الناصر يتمادى في ممارسة فعل الانتقاء حتى يصور ما انتقاه باسم جديد لا تعرفه النظرية قط بل لا تطيقه فكرتها، والمثل الواضح على هذا هو قصة الاشتراكية العربية التي كان يظن أنها نظرية ابتدعها هو بانتقائه لبعض مفردات الاشتراكية والماركسية ولبعض خطوات الاشتراكية أو الماركسية بينما هذه وتلك لا تعرفان صفة القومية بالمعنى الذي كان يعرفه الرئيس جمال عبد الناصر.
لكن الذي يهمنا هنا أن نشير إليه في هذا المقام بإنصاف هو أن التجربة الواسعة والمتصلة استطاعت صقل خبرة الرئيس جمال عبد الناصر فجعلته قادرا على أن يستشرف حتمية حاجته المستقبلية إلى إجراءات استثنائية، ذلك أنه كان يرى المعادلة غير قابلة للحل بدون اللجوء إلى الاستثناء الخارج على إطار ما أقره هو نفسه من قبل من قوانين أو توجهات، وهكذا فإنه على سبيل المثال لم يكن يرحب أبدا بتقديم وعود محددة لما ينبغي على الحكومة أن تقدمه للجماهير. وكان هذا الوضع يمثل مشكلا من نوع مستتر ذلك أن مصر نفسها كانت قد اعتادت على خطاب العرش في ظل حكومات الأغلبية والأقلية على حد سواء، وهو التعبير الذي كان يستخدم اسما لبيان الحكومة في مطلع كل موسم برلماني أو تجديد حكومي لكن الرئيس جمال عبد الناصر بجبروت العسكر استطاع إزالة هذا التقليد من توقعات الجماهير وإن لم يستطع بالطبع أن يزيله من أذهانهم، لكن النتيجة جاءت في غير صالح نظام الرئيس جمال عبد الناصر إذ أصبحت الأداة التنفيذية متمثلة في الحكومة وحواشيها تسير على غير هدى ملزم ومن تم بدأ التقصير، وبدأ التقصير يقود إلى تكرار نفسه، وبدأ تكرار التقصير يقود إلى الفشل، وبدأ الفشل يقود إلى توقف في الإنجاز أو الخدمة أو الإنتاج، وكان هذا التوقف للأسف من النوع غير المحسوس رقابيا حتى وإن كان محسوسا شعبيا .
ومع أن هذا الفشل الحكومي كان يتوافق مع انكماش الخدمات الحكومية (طيلة النصف الثاني من عهد عبد الناصر) بسبب الحرب في اليمن و1967 فإن هذا الفشل كان بمثابة كارثة قصوى في القطاع العام، وفي القوات المسلحة….. وفي المؤسسات الشبيهة من دون أن نشغل أنفسنا بتعدادها، وقد ظلت الكارثة تتراكم وتتراكب وتتكمم مع الزمن حتى قضت بهذه المحاور الثلاثة من التراكم والتراكب والتكميم على تجربة القطاع العام نفسها.
ومع هذا فقد كان الرئيس جمال عبد الناصر على غير ما هو متوقع مغرما كل الغرام العميق بالتجريب من أجل التجريب لذاته، بل إنه كان يعتبره متعة فائقة الإمتاع، وذلك مقابل ما لم يكن يؤمن به وهو الإيمان بالتجريب كوسيلة للوصول إلى الحقيقة كما هو الحال عند المشتغلين بالعلم من الذين يجربون هذه الطريقة أو هذا الطريق أو هذه الآلة أو الأداة من أجل الوصول إلى الحقيقة التي نريدها أو نريد أن نبني عليها، لكن الرئيس جمال عبد الناصر كان يستمتع بتجربة النظم نظاما بعد آخر لمجرد أن يقول لنفسه وللناس: وقد جربنا الأسلوب الفلاني. والدليل على صواب ما أقول إنه لم يستكمل أية تجربة أبدا، ولكنه كان كمن يمشي في الطريق حتى يجد ما يبرر له العودة منه فيسارع بالعودة كأن يظلم الطريق أو يزدحم أو يوحش، وكأنه مطالب بأن يجرب كل الطرق، وأن يحكم على سيره في هذه الطريق.
وأنظر إلي الرئيس جمال عبد الناصر مثلا في أثناء الوحدة السورية التي لم تدم إلا ثلاث سنين ونصف وهو يغير هيكلية الدولة أربع مرات:
– يبدأ بوزارتين (حكومتين) في القاهرة ودمشق
– ثم بوزارة مركزية في القاهرة ووزارتين تنفيذيتين في القاهرة ودمشق
– ثم يغير الوزارتين التنفيذيتين
– ثم يعود إلى حكومة واحدة كبيرة بالعدد بوزراء فرادى أو وزراء مكررين.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد وإنما هو يمتد الى آفاق أوسع:
– فانظر إليه وهو يلتزم بالنظام المألوف في العالم كله ثم يفصل الحكومة إلى مجلس رئاسة ومجلس تنفيذي ثم يعدل عن هذا الأسلوب.
– وانظر إليه وهو يتنازل عن توليه رياسة الوزراء في 1962 ثم يعود إليها في 1967
– وانظر إليه وهو يجرب هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي.
– وانظر إليه وهو يقترب من السعودية ثم من سوريا وحدها ثم من سوريا واليمن ثم من سوريا والعراق ثم من السودان وليبيا ثم من السودان وليبيا وسوريا.
– انظر إليه وهو يهاجم الشيوعية ثم يهادنها.
– وانظر إليه وهو يعتقل الشيوعيين ثم يفرج عنهم ويسلمهم الوجدان كله ليفعلوا فيه ما يشاءون
– وانظر إلى تجربة القطاع العام حيث بدأ بالمؤسسات العامة ثم بمؤسسات عامة متخصصة ثم بمؤسسات عامة تتبع الوزارات على أن تُتبع كل الشركات إلى المؤسسات العامة.
على هذا النحو كان التجريب يسعف الرئيس جمال عبد الناصر بما يشغل الناس عنه بعض الوقت، وبما يشغل الناس عن السياسة نفسها في كثير من الوقت، وبما يعيد برمجة كثير من الأوضاع وتراتبيها دون أن يؤثر هذا كله في وجوده هو نفسه أو في ترتيب نفسه أو بيته فقد بقيت الأمور الخاصة به من الثوابت، وهذا هو السبب في قولنا إنه كان مغرما بالتجريب على غير ما هو متوقع.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا