بعيدا عن المقدمات المُطولة والموجزة فإن أول أولويات هذه الاستراتيجية بتعبير مهذب هو توحيد دول الجزيرة العربية في كيان واحد على نحو ما أتم الجد (توحيد) كيانات نجد والحجاز وحائل وعسير والقصيم وعنيزة وبريدة في كيان واحد هو المملكة العربية السعودية، وربما أن كثيرين من قُرٌاء هذه المدونة لا يعرفون أن هذه الكيانات التي أشرتُ إليها كانت مُستقلة تماما عن بعضها البعض إلى أن حاربها الملك عبد العزيز سعود أو فاوضها واحدة بعد أخرى وضمٌها لسلطانه ومُلكه بالتدريج، ثم أعلن مولد المملكة السعودية 1932 بعد ثلاثين عاما من الحروب التي تلت انتصار الرياض الذي حقٌقه في 1902.
الفكرة الاستراتيجية المُسيطرة على خُطط ابن سلمان هي الانتهاء سريعا من ضم كل هذه الكيانات تحت راية مُلكه هو ليكون بمثابة الملك القوي متفوقا على جده الملك عبد العزيز ومُتجاوزا بهذا كل أعمامه الذين لم تزد مساحة أرض المملكة في عهد إلا زيادات طفيفة لا تكاد تذكر. من أجل هذا تُموٌلُ جماعة ابن سلمان مجموعات عمل استراتيجية على أعلى مُستوى لرسم خطوات هذه الفكرة بكل ما هو مُمْكن من الوسائل المشروعة، وغير المشروعة قبل المشروعة. وقد تنامت إلى علمي بعض دلائل الجهود المبذولة في هذا السبيل جعلتني أعلن عن آراء بدت غريبة عند طرحها لكنها سرعان ما تحققت:
– لمٌا جاء الحديث عن انفتاح اجتماعي في السعودية جزمتُ بأن هذا الانفتاح سيكون مُتجاوزا لكل ما هو موجود في أي دولة أخرى بما في ذلك الدول المُصنٌفة عالميا على أنها دول شبه إباحية، ولم تُخيٌب الأيام ظني.
– وحين بدأ الحديث عن افتتاح السينما على نحو سريع جزمتُ بأن أول فيلم سيُعرض سيكون هو فلم النمر الأسود وكان السبب ببساطة شديدة ان هذا الفيلم يحكي قصة حفيد شُجاع جسور لا يخاف أيٌ شيء ويُعيد التذكير بمجد الجد.. ولم يكن صعبا على صُنٌاع استراتيجية ابن سلمان أن يصلوا إلى هذا الفيلم الذي هو حديث الإنتاج وحديث التداول لكنٌه يُعبٌر عن الغرض تماما وإن كان الفيلم قد عرض دون أن ينتبه العرب لهذا الربط الذي كان مطلوبا.
– وقد تعجٌب كثيرون من الأذكياء المتابعين من أن يصْدُق حدسي إلى هذه الدرجة، ولم أكن في حاجة إلى التبرير أو التفسير فقد سار الأمر في سياق كثرة حدوث ما أتوقُعه، وقد شغل هذا التفسير المُريح المُتابعين عن أن يبحثوا عن مضمون الفيلم وعلاقته بغير المعلن في الاستراتيجية الدؤوبة.
– وقبل ذلك اندلعت صدمة الإعلان عن اعتقال العلماء وتبييت النية لإعدامهم، وهو ما كان نظر إليه المتابعون على أنه جموح في الخيال حين تنبأت به قبل شهور من حدوثه.
– وعلى الخط نفسه حين جاءت صدمة الإعلان عن الحفلات الغنائية بالقرب من المقدسات توقعت أن السيدة ماجدة الرومي ستكون أولى المدعوات لا لفنٌها ولكن لعلاقاتها الكنسية المطلوب مُغازلتها بمثل هذه الدعوة.
على أن هذا المشروع الاستراتيجي الضخم لا يقف عند حدود الاستيلاء على كل أراضي الجزيرة العربية لكنٌه سيبدأ بها، لأنه ينتوي أن يُحقٌقُ ما يتجاوز فتوحات الإسكندر الأكبر الذي اختاره المُخطٌطون لابن سلمان ليكون مثله الأعلى بدلا من أن يختاروا له زعيم المغول الذي حقٌق أكبر مساحة من الانتشار أو زعيم العثمانيين سليمان القانوني أو نابليون ‘ وقد كان الإسكندر حلا نموذجيا لأنه انتصر على من لا يأتي لهم ذكر بعد ذلك، وهذا هو جوهر الانتصار الذي يتمنٌاه ابن سلمان في معاركه أي أن يُحرق الأرض تماما على نحو ما يفعل في أرض اليمن السعيد التي ندعو الله لها بالنجاة.
كان لا بد للمشروع من تأمين يتمثٌلُ في تجنٌب الأعداء الخارجيين باللجوء إلى استقطابهم، وفي هذا السبيل فإن جماعة ابن سلمان بذلت في استرضاء إسرائيل ما لم تحلُم به إسرائيل على الإطلاق كما أنها بذلت في تقديم الوعود الجادة لإيران جهودا جبٌارة جعلت إيران مطمئنة إلى قبول ابن سلمان بسيطرتها على خمسة عواصم عربية بدون أي نزاع حقيقي.
ماذا عن أمريكا وهي كما يقولون الجوكر الكبير في الموضوع، وهل سيتعارض هذا مع ما أقرٌه الكونجرس منذ 1984 من الخطة التي اقترحها برنارد لويس لتقسيم السعودية نفسها؟ الإجابة من أبسط ما يُمكن رغم تعقيدها، فالتقسيم المطلوب إحداثه في السعودية والجزيرة العربية سيكون أسهل بعد توحيد هذه الكيانات وذلك على نحو ما يتمٌ في صناعة الحلوى حين يأتي التقسيم النهائي والدقيق بعد صناعة الكيان الحلواني الكبير.. وعلى الرغم من بشاعة دلالة هذا المثل التوضيحي فإن هذه هي مقومات العقلية الأمريكية في التقسيم فهي لا تبدأ بشعار التقسيم وإنما تُنجز التقسيم من خلال توحيد زائف يتبعه تقسيم صاعق، وهو ما يُحاول ابن سلمان أن يُنجزه.
يأتي هنا سؤال يهُمٌ العرب وإعلاميهم في المقام الأول وهو السؤال عن حقيقة موقف أبو ظبي التي تبدو في حالة زواج كاثوليكي مع سُلطة ابن سلمان على الرغم من احتفاظها بمشاعر التحفظ العدائي ضد السعودية! الإجابة بسيطة أيضا وهي أن سلطة أبو ظبي تعلم كل تفصيلات المُخطط لكنها آثرت منذ البداية أن تستثمر المعرفة في توثيق علاقاتها بمن في داخل النظام السعودي وهو ما يكفل لها من الفوائد ما لا يُمكن تحقيقه لو أنها أعلنت المعارضة لابن سلمان أو الحياد من موقف ابن سلمان.
وهكذا فإن أبو ظبي التي لا تكفٌ عن توثيق العلاقة مع ابن سلمان تفعل هذا من منطق الرغبة في القُدرة على قراءة ابن سلمان وليس من منطق الموافقة على خُططه وعلاقاته أي أنها تفعل هذا من قبيل التمكن من اتقاء الآثار الجانبية في الوقت المُناسب، وتُؤْمن أبو ظبي كل الإيمان ومن دون أدنى شك بأنها هي بالذات أول ما يُفكٌرُ ابن سلمان في ابتلاعه وإنهاء دوره. ومن الحق أن نقول أن تكتيك أبوظبي في هذه الجزئية مفيد للمنطقة من حيث إنه يمثل قناة تسريب مضمونة.
بقي أن نُشير إلى أن المشروع يقتضي إضفاء أكبر قدر ممكن من المهابة على تصرٌفات ابن سلمان وفي هذا الصدد فإن العمل الجاد على تحقيق هذا الهدف وصل إلى ما وصل إليه في اغتيال جمال خاشقجي إرهابا لكل صاحب قلم، كما وصل إلى ما وصل إليه في التٌجني على عُلماء الدين الذين لا يتوقٌعُ منهم أن يُوافقوا على الانتهاكات الدينية أو الخُلُقية. وتحت شعار تأمين الجبهة الداخلية فإن ترسانة الإجراءات السعودية التي نفذها وسيُنفذها ابن سلمان تتجاوز أية جهود مثيلة أو شبيهة على مدى التاريخ المكتوب كله، لكن الهدف الاستراتيجي الكبير من وجهة نظر صاحبه يستحقُ ما هو أكثر من التأمين والتخطيط والترهيب والإنفاذ المُتسارع. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا