ينتمي لبيت علم
كان الرئيس هاشم الأتاسي هو الزعيم السوري الوحيد الذي سار أقطاب دولة الوحدة المصريين في جنازته (1960) وعلى رأسهم الرئيس حمال عبد الناصر نفسه، وكان هذا مظهرا جيدا من مظاهر العناية بالبروتوكول في دولة الوحدة فهذا رئيس الجمهورية يُشيع جثمان رئيس جمهورية سابق وهو ما لم يحدث في مصر إلا من رئيس جمهورية سابق شيع جنازتي خليفتيه في الرئاسة نعني بهذا الرئيس محمد نجيب الذي شارك في تشييع جنازتي عبد الناصر والسادات. لكن الطريف في أمر تشييع الرئيس عبد الناصر لجنازة الرئيس هاشم الأتاسي أن الرئيس هاشم الأتاسي كان على أسوا العلاقات الممكنة مع فكرة الوحدة تحت قيادة عبد الناصر، ومع أن رؤساء آخرين انخدعوا، ومع أن رؤساء آخرين اعترضوا بصمت فإن الرئيس هاشم الأتاسي كان صريحا منذ البداية، بل وصل الأمر إلى أن ابنه (سواء كان هذا بموافقته أو علمه أو بعدم موافقته أو عدم علمه) كان حسب إتهام دولة الوحدة ضالعا في انقلاب على الوحدة ، ولهذا السبب سجن وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم من باب التكريم أو الاحترام لمكانة والده ، وهو ما يعني ببساطة شديدة أن دولة الوحدة لم تكتف بقتل الرئيس هاشم الأتاسي معنويا بل شارفت على قتله ماديا أيضا على الرغم من تقدم العمر بالرجل.
كان الرئيس هاشم الأتاسي أطول الساسة السوريين المعاصرين له عمرا شأنه في هذا شأن معاصره ومناظره زعيم الأمة المصرية النحاس باشا (1879 ـ 1965) وقد ولد النحاس بعده بأربع سنوات ومات بعده بخمس سنوات. أما السياسي المصري الذي ولد مع الرئيس هاشم الأتاسي في العام نفسه فهو إسماعيل صدقي باشا الذي توفي 1950 قبل الأتاسي بعشر سنوات.
جمع الرئيس هاشم الأتاسي بين الخبرات التركية والعربية والأوربية وكان قادرا على أن يحقق أفضل المواقع الوظيفية في هذه الحضارات الثلاث، ومع هذا فإنه كان ميالا إلى فكرة وحدة سوريا والعراق ومن قبلها وحدة الأقطار الشامية (أو السورية) الأربعة.
ينتمي الرئيس هاشم الأتاسي إلى بيت علم من البيوت الكبيرة في حمص، وكان والده الشيخ خالد الأتاسي مفتي حمص، ومن الطريف أن والد سعد الله الجابري كان مفتي حلب، وقد تلقى هاشم تعليما مدنيا متميزا انتهى به إلى الدراسة في الكلية الملكية في إسطنبول وتخرج فيها وهو في العشرين من عمره 1895، وأصبح موظفا عثمانيا طيلة الفترة الباقية من عمر الدولة العثمانية وفي هذه السنوات العشرين عمل بالوظيفة في ولاية بيروت، وقد أكسبته هذه السنوات قدرة على العمل الجاد الملتزم الذي جعله يحظى باحترام كل الفرقاء على نحو لم يحظ به زعيم سوري آخر.
وحين أعلنت الحرب العالمية الأولى كُلٌف بأن يكون هو محافظ حمص وحماة وبعلبك ويافا والأناضول، ومع أن هذه الوظيفة كانت صورية فإنها تدل على مكانته في ذلك العهد.
المطالبة بالاستقلال
بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى وبدأت الشعوب تطالب بالاستقلال كان الرئيس هاشم الأتاسي في مقدمة الزعماء السوريين المطالبين بالاستقلال، وأصبح بعد مداولات واجتماعات رئيسا للمؤتمر السوري العام (يونيو 1918) الذي يعتبر بمثابة أول برلمان سوري وأصبح وكيلاه في هذا المؤتمر هما إبراهيم هنانو (1869 ـ1935) الذي يكبره بست سنوات وسعد الله الجابري (1893 ـ 1947) الذي يصغره ب 18 عاما ، ولم يكن هذا المؤتمر السوري العام (البرلمان) مخصصا للسوريين وحدهم لكنه كان قد تشكل حسب المعني الاصطلاحي التاريخي الذي يضم أقطار الشام الأربعة : سوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
لما بدأ عهد الملك فيصل ابن الشريف حسين ملكا على سوريا (في 8 مارس 1918) بايعه المؤتمر السوري العام وكان الرئيس هاشم الأتاسي أقرب الساسة إليه، وترأس لجنة وضع الدستور في 8 مارس 1920 وأقر هذا الدستور في يونيو 1920 وذلك كله قبل أن تتشكل لجنة وضع الدستور المصري المعروف بأنه دستور 1923.
هكذا بدأت مملكة سوريا (1918-1920) بملك هو الملك فيصل الأول ابن الشريف حسين وبرئيس وزراء هو الركابي وبرئيس برلمان هو هاشم الأتاسي فلما استقال الركابي عن رئاسة الوزراء أصبح هاشم الأتاسي رئيسا للوزراء في مايو 1920، وكانت هذه هي الوزارة التي أنذرتها فرنسا بالإنذار الشهير المعروف باسم إنذار جورو وقد أقيلت الوزارة في 13 يونيو 1920، وأعلنت حالة الطوارئ بعد يومين أي في 15 يونيو ثم أعلن حل الجيش السوري في 20 يونيو.. ولم يكتف جورو بهذا بل زعم أنه لم يصله ما يدل على قبول الحكومة للإنذار وتمادى في زحفه من بيروت إلى دمشق فوقعت موقعة ميسلون الشهيرة في 24 يوليو ودخل الفرنسيون إلى دمشق في 25 يوليو 1920 وتشكلت حكومة جديدة موالية لفرنسا، ونفي الملك بعد ثلاثة أيام، وانتهى عهد الملكية في سوريا بعد 26 شهرا فقط من حكم الملك فيصل وشهرين فقط من رئاسة الأتاسي للوزارة.
فرضت فرنسا نفسها على سوريا فيما عُرف بالانتداب الفرنسي فكان الأتاسي على رأس أبناء وطنه في المطالبة بالاستقلال، وقد بلور جهده في هذه المطالبة بتأسيس ما عُرف على أنه حزب الكتلة الوطنية الذي ظل بمثابة الحزب الفاعل في السياسة السورية منذ تأسيسه ثم بعد أن تغير اسمه ليكون الحزب الوطني وحتى الانقلاب البعثي الانفصالي في مارس 1963. وقد استطاع الأتاسي تكوين “الكتلة الوطنية” في مواجهة مع حزب نشأ محبذا للتعامل مع فرنسا وهو “حزب الشعب” بقيادة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر.
الثورة الكبرى
بدأت الثورة السورية الكبرى على الانتداب الفرنسي في تاريخ لاحق لثورة 1919مصر فأفادت من تجاربها المتعددة في التعامل مع الغربيين، وقد كان الأتاسي متحفظا على تسليح الثورة لأنه كان يؤمن بأن الحق مع السوريين وأن الحق الذي يملكونه كفيل لهم بالحصول على الاستقلال دون أن يكلفوا أنفسهم شطط العنف. وقد انتخب الأتاسي رئيسا للكتلة، فلما قبلت فرنسا بإجراء انتخابات لتأسيس جمعية تأسيس لوضع دستور البلاد 1928 رأس الأتاسي هذه الجمعية، وتولى وضع الدستور الثاني وكان بهذا السياسي الوحيد الذي وضع دستورين 1920 و1928.
في 1930 اعتقله الفرنسيون بسبب تنامي احتجاجات الشعب على الفرنسيين، ونفوه إلى جزيرة أرواد وهي جزيرة بالقرب من طرطوس، نفي إليها أيضا سعد الله الجابري.
في 1932 أُجريت انتخابات نيابية لا يعتبرها السوريون نزيهة تماما لكن الأتاسي فاز فيها على الرغم من تمكن السلطة الفرنسية من إسقاط إبراهيم هنانو في حلب، ومهدت هذه الانتخابات لوصول قيادات جديدة: محمد على العابد 1867- 1939 رئيسا للجمهورية، وخالد العظم رئيسا للوزراء، وصبحي بركات 1883- 1939 رئيسا للمجلس النيابي الذي كان الأتاسي مرشحا لرئاسته لكنه لم يفز بها.
في 1935 وفي حفل تأبين إبراهيم هنانو في الجامعة السورية أعلن الزعيم السوري فارس الخوري (1877 ـ 1962) “الميثاق الوطني” فتعامل الفرنسيون بتعنت مع الكتلة الوطنية وأغلق مكاتبها في دمشق وحلب، وانتشر الجيش الفرنسي في المدن الرئيسية لكن الوعي العربي كان قد بلغ حدا من اليقظة اندلعت معه المظاهرات المؤيدة لسوريا في مصر وفلسطين والأردن والعراق ولبنان فضلا عن أن بريطانيا لم تكن متواطئة مع فرنسا في هذا التجاوز في حق الشعب السوري، كما أن رغبة الحلفاء في تأمين الجبهات قبل الحرب المتوقعة التي كانت نذرها قد بانت في الأفق (الحرب العالمية الثانية) جعلت الفرنسيين يتفاوضون مع الرئيس هاشم الأتاسي الذي غادر سوريا إلى باريس في مارس 1936 واستمرت هذه المفاوضات ستة أشهر انتهت بنشر مسودة الاتفاق على المعاهدة في 22 أكتوبر 1936، وقد عاد الرئيس هاشم الأتاسي والوفد السوري عبر القطار إلى حلب ونظمت له الكتلة الوطنية استقبالا حافلا شارك فيه المفوض السامي الفرنسي دي مارتيل، وانتشرت مظاهر البهجة الشعبية بهذه المعاهدة.
وبناء على هذه المعاهدة أجريت ثاني انتخابات تشهدها سوريا ففاز حزب الكتلة الذي يرأسه الرئيس هاشم الأتاسي بأغلبية ساحقة ثأرت بها الكتلة من التزوير الذي شهدته الانتخابات السابقة التي أسقط فيها الزعيم إبراهيم هنانو نفسه في حلب.
وعاد التدخل الفرنسي الثقيل
وفي ديسمبر 1936 اكتمل التراب الوطني السوري بعودة دولة جبل العلويين وجبل الدروز إلى الأرض السورية، وأظهر أهل اللاذقية رغبتهم الذكية في أن يذوبوا في الأغلبية السورية والوطن السوري والنظام السوري وبدأ البرلمان الجديد أعماله في ديسمبر 1936 مؤكدا على استقرار الحكم الوطني على النحو الذي كان قد استقر به في مصر بزعامة النحاس رغم وجود الملك فاروق تحت الوصاية، وانتخب الرئيس هاشم الأتاسي رئيسا للجمهورية بعد استقالة الرئيس محمد على العابد وكان هذا أمرا طبيعيا بفضل ما أحرزته الكتلة من أغلبية ساحقة ، و بهذا أصبح ثاني رئيس للجمهورية ودام عهده من ديسمبر 1936 وحتى يوليو 1939وتشكلت أولى حكومات العهد الجديد برئاسة جميل مردم 1893- 1960 .
لكن المعارضة القديمة المتمثلة في حزب الشعب بقيادة عبد الرحمن الشهبندر عادت لمناوءة حكم الأتاسي الذي اضطر إلى الاستقالة ملقيا باللائمة على فرنسا التي سلمت لواء إسكندرون إلى الجيوش التركية بعد ما كانت ساعدته على إعلان دولة مستقلة.
و مع استقالة هاشم الأتاسي 1939 عاد التدخل الفرنسي الثقيل، فألغى الدستور وأُسندت الأمور للعسكر وتحولت الوزارات من وزارات سياسية إلى وزارات إدارية ، لكن الحظ السوري تمثل في رفض الفرنسيين لحكومة فيشي وإعلان حكومة فرنسا الحرة برئاسة شارل ديجول وهي الحكومة التي كانت مدعومة من البريطانيين، وقام ديجول بزيارة الرئيس هاشم الأتاسي في حمص ودعاه للعودة للسياسة ووعده باعتراف فرنسا بسوريا المستقلة كاملة الاستقلال، ومن الطريف أن الأتاسي عبر لديجول صراحة عن أن سوريا لا يمكن لها الوثوق بفرنسا بعد كل تجاربها معها.
وهنا برزت زعامة سعد الله الجابري الذي واصل خط الرئيس هاشم الأتاسي واستطاع توظيف الصراع الدولي لخدمة قضية بلاده، وعادت الحياة الدستورية إلى سوريا في 1943، وآثر الرئيس هاشم الأتاسي ألا يترشح للرئاسة وأن يزكي شكري القوتلي الزعيم الدمشقي البارز، وهكذا تجاوز الأتاسي دور الرئاسة إلى دور صناعة الرؤساء مع بقائه زعيما للكتلة الوطنية.
ومن الطريف أنه بعد أربع سنوات وفي 1947 حدثت أزمات حكومية حادة فاقترح القوتلي على الأتاسي أن يقبل منصب رئيس الوزراء حلا للموقف لكن الأتاسي اشترط الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية، ولم يتم الاتفاق.
جاء عام 1949 الذي بدأت فيه الانقلابات العسكرية الثلاثة المتعاقبة التي كانت أول الانقلابات العسكرية المستمرة في السياسة المعاصرة، نُلاحظ أن كلمتي العسكرية والمستمرة تقصد استثناء انقلابات بكر صدقي ورشيد عالي الكيلاني في العراق وانقلاب الوزير في اليمن 1948.
قاد حسني الزعيم الانقلاب الأول في مارس 1949 وترأس حكومة عسكرية لكنه أُطيح به بعد 4 أشهر على يد الانقلاب الثاني في أغسطس 1949 والذي كان بقيادة سامي الحناوي وقد اظهر هذا الانقلاب وجها ديموقراطيا حيث دعا الأتاسي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تجري الانتخابات، على أن تشارك جميع الأطراف في هذه الانتخابات، وهكذا اشترك حزب البعث العربي الاشتراكي في الحكومة وأصبح زعيمه ميشيل عفلق وزيرا للزراعة.
إلى هذه الحكومة يرجع الفضل في إقرار حق المرأة في التصويت، وهو ما حدث بالفعل في انتخابات نوفمبر 1949 أي قبل مصر بسبع سنوات، وبناء على هذه الانتخابات تكونت جمعية تأسيسية انتخب الرئيس هاشم الأتاسي لرئاستها ومن ثم رشح لرئاسة البلاد وتولى رئاسة الجمهورية مرة أخرى (ديسمبر 1949- ديسمبر 1951، ليشغل ترتيب الرئيس الثامن كما شغل الترتيب الثاني، وكان توليه في هذه المرة بإجماع الأعضاء، كما أنه تحالف مع حزب الشعب معارضه التقليدي وعين رئيسه الجديد ناظم القدسي رئيسا للوزراء.
توجهات عروبية
شهدت الرئاسة الثانية للأتاسي توجهات عروبية مهمة تجلت في بدء التباحث حول الاتحاد مع العراق وسافر الأتاسي بنفسه إلى بغداد والتقى بالملك فيصل الثاني.. وكانت هذه التوجهات سببا مباشرا ومعلنا للانقلاب الثالث الذي قاده أديب الشيشكلي وهو أشد الانقلابات السورية، ومن الواضح أن هذا الانقلاب كان بمثابة خط أحمر أمام أي وحدة عربية مُخلصة كالوحدة الطبيعية بين سوريا والعراق بحدودهما المشتركة وبيئتهما المتوافقتين في ذلك العصر، ولم يكن هناك ما يُبرر قيام أديب الشيشكلي بهذا الانقلاب إلا ما نفهمه الآن من الأصابع الأمريكية التي تمكنت (ببراعة شديدة ودون إعلان واضح) من تحريك العسكريين العرب لإجهاض كل نجاح عروبي
وقد وصل الأمر في معاداة الشيشكلي للوحدة مع العراق إلى أن قال إن هذه الوحدة تُمثل استيلاء بغداد على دمشق، وقد شهد هذا الانقلاب اعتقالات كثيرة شملت سامي الحناوي نفسه كما شملت أقطاب حزب الشعب، واحتفظ الشيشكلي بمنصبه في قيادة الجيش، وطلب تعيين فوزي سلو وزيرا للدفاع بيد أن معروف الدواليبي رفض، وهكذا قام الشيشكلي بانقلاب ثانٍ 1951، واعتقل الجميع رئيس الوزراء والوزراء ورجال الدولة وأعضاء حزب الشعب.. وحل البرلمان أيضا.
استقال الأتاسي من رئاسة الجمهورية في ديسمبر 1951 لكنه لم يُقدم الاستقالة للشيشكلي لأنه لم يكن يعترف بحكمه، وبدأ في قيادة معارضة مستترة ضد الشيشكلي وأدى هذا إلى حدوث انتفاضة وطنية في حلب ويُحسب للشيشكلي أنه اكتفى بوضع الأتاسي تحت الإقامة الجبرية لكنه لم يسجنه احتراما لتاريخه.
في مارس 1954 عاد الأتاسي إلى ممارسة مهام منصبه كرئيس للجمهورية ليشغل ترتيب الرئيس الحادي عشر وهو ما واكب أيضا عودة الرئيس محمد نجيب إلى رئاسة الوزارة في مارس 1954 بعد أن كان تركها في فبراير 1954، وكذلك عاد الوزراء والنواب والسفراء وبذل الأتاسي كل جهده في القضاء على آثار الاستبداد الذي مارسه الشيشكلي.
حاول الأتاسي أن ينجو بسوريا من التيارات المتلاطمة التي كانت قد بدأت تجتاحها، لكن هذه التيارات كانت مندفعة بما فيه الكفاية إلى ما حدث لسوريا من القلاقل التي جلبها كثرة مثقفيها ومنظريها والمتمذهبين فيها.
وفي تلك الفترة عاد للظهور ميل الأتاسي إلى التحالف مع بغداد بديلا عن التحالف مع عبد الناصر فقد كان يرى مثل هذا الطريق أكثر أمانا لسوريا، ومن الإنصاف أن نقول إنه كان مُحقٌا في هذه الرؤية لكن نزق السياسيين السوريين والعسكريين السوريين كان قد بلغ درجات قصوى.
في هذه الفترة كان عبد الناصر يُمارس التدرج في الديكتاتورية بما تجلبه من التصفيق والإعجاب ومن الطريف أن نذكر أن الأتاسي اختار صاحب شخصية عظيمة وهو رئيس الوزراء المسيحي المفكر فارس الخوري ودفعه وشجعه على لقاء عبد الناصر في القاهرة للتوسط كيلا يُعدم الإخوان المسلمين دون جدوى، وللتوسط كي يُخفف من تدخله في الشئون العربية دون جدوى.
ووصل الأمر بالأتاسي أن قال لرئيس الوزراء صبري العسلي تعبيره المشهور إنك ستُحول سوريا إلى قمر صناعي في مدار مصر.
ذكاؤه في التعامل مع العسكريين
بقي الرئيس هاشم الأتاسي رئيسا حتى انتهت ما اعتبرت مدة ولايته الثانية في سبتمبر 1955 فعاد إلى مدينته حمص واعتزل الحياة السياسية في السنوات الباقية من عمره لكن السياسة لم تعتزله ففي العام التالي أدين ابنه عدنان الأتاسي بالتحالف مع العراق وهو ما يعني أنه ضد عبد الناصر وحُكم على عدنان بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، وخُفف الحكم إلى المؤبد احتراما لتاريخ والده بينما كانت المحاكمة نفسها انتقاما عسكريا من موقفه المعارض للعسكريين في تجاوزاتهم السياسية والتنفيذية طيلة فترتيه الرياستين الثانية والثالثة اللتين تحمل فيهما الكثير من أجل الحفاظ على سوريا موحدة بعيدا عن مهاترات الانفصاليين ونزق المراهقين من الساسة.
ومن الإنصاف أن نشير إلى ذكاء الرئيس هاشم الأتاسي في التعامل مع العسكريين الذين حكموا على ابنه بالإعدام ذلك أنه رفض أن يزور ابنه في السجن!
قامت الوحدة في مصر في 1958، فكان رأيه في عبد الناصر هو نفس رأيه فيه قبل قيام الوحدة، وكان أكثر من نبه العرب للحذر من أخطاء العسكريين قبل أن يراها الناس بفظاعتها وقسوتها. ومع أنه آثر الهدوء الذي يتناسب مع سنه لكن روحه ظلت تتطلع إلى الأفضل لبلاده أكرمه الله بحسن الخاتمة فلما توفى 6 ديسمبر 1960 كانت جنازته أكبر الجنازات في تاريخ سوريا حتى ذلك الحين وقد سار فيها جمال عبد الناصر وكبار رجال الدولة
وبعد وفاته وصل من عائلته اثنان لرئاسة الجمهورية
ــ لؤي الأتاسي (1926 ـ 2003) الذي رأس الجمهورية ما بين 23 مارس 1963 و27 يوليو 1963 أي لمدة الشهور الأربعة الأولى من عمر الانقلاب البعثي المعروف باسم حركة 8 مارس 1963
ــ نور الدين الأتاسي (1929 ـ 1996) الطبيب الذي رأس سوريا ما بين 25 فبراير 1966 و17 نوفمبر 1970 أي لمدة أربع سنوات وتسعة أشهر وهي تعتبر مدة طويلة في ذلك العهد حتى استولى حافظ الأسد على السلطة على مرحلتين.
من الطريف في قصة حياة الرئيس هاشم الأتاسي أن حفيده هو الذي نشر سيرة حياته “ذلك الرجل الذي تولى رئاسة سوريا ثلاث مرات” (36 ـ 1936) (49 ـ 1951) (54 ـ 1955) ووضع فيها دستورين 1920 و1930 وتولى رئاسة وزراء الجمهورية السورية أربعة أشهر (1949) وتولى رئاسة وزارة المملكة السورية ثمانين يوما (1920)
كان حين توفى من أقدم رؤساء الوزراء على قيد الحياة فقد كان يومها قد مضى عليه كرئيس وزراء سابق أربعين عاما.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا