الدكتور مصطفى الشكعة (1917 ـ 2011) واحد من أبرز أساتذة الأدب العربي ذوي الاتصال الوثيق بالثقافة الإسلامية وبالنهضة الإسلامية المعاصرة وبعلوم الإسلام المرتبطة بالأدب واللغة. ولهذا، فقد كان هو أبرز أساتذة الأدب العربي في جيله اتصالا بالأزهر والأوقاف: كان عضوا في مجمع البحوث الإسلامية والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، كما كان عضوا في لجنة الحوار الإسلامي المسيحي بالأزهر، وكان من خيرة أعوان الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على الحق المولود معه في العام نفسه.
ولد الدكتور مصطفى الشكعة في أغسطس 1917، في محلة مرحوم المجاورة لمدينة طنطا عاصمة إقليم الغربية، وانتقل الى القاهرة للإقامة مع أخيه الأكبر بعد وفاه والده، وكان شقيقه من الشباب المسلمين ثم من الإخوان المسلمين، وهكذا أصبح الدكتور مصطفى الشكعة كذلك.
نال الدكتور مصطفى الشكعة درجة الليسانس من كلية الادب عام 1944، في الوقت الذي تخرج معه فيها زميله الدكتور يوسف خليف، وعمل مدرسا بالتعليم الثانوي (1944 ـ 1949) وفي 1948 شارك في الدعم الذي قدمه الإخوان المسلمون لثورة ابن الوزير في اليمن وتولى إدارة إذاعة الثورة، وأعيد مع من أعيدوا بعد فشل تلك الثورة.
أنجز الدكتور مصطفى الشكعة رسالتيه للدكتوراه والماجستير وهو يعمل في خارج الجامعة، فلما حصل على الدكتوراه 1956 عين مدرسا في كلية آداب جامعة عين شمس، وسرعان ما أظهرت مواهبه قدرة فائقة على العمل الثقافي والإتصالي فرُشح في مرحلة مبكرة من عمله الجامعي مستشارا ثقافيا لدولة الوحدة في الولايات المتحدة الأمريكية (1960 ـ 1965). ولا يزال المبتعثون في هذه الفترة يذكرون له عنايته الدائبة وحدبه بهم، وعلى سبيل المثال فإن الدكتور سمير سرحان يروي أنه أصطحبه في أول أيامه، واشترى له بلوفر جميلا على نفقته، مما جعل الدكتور سمير سرحان يشعر بالأبوة الدافقة التي لم تكن متاحة في ذلك العصر. وبعد عودته من واشنطن أعير للعمل في جامعة بيروت العربية، وفي تلك الفترة أتيح له أن ينشر أعماله العلمية الجميلة المنظمة الهادفة إلى التعريف والتعليم والنقد والإحاطة ،وقد ساعدته صناعة النشر في بيروت على إخراج كتبه في أفضل صورة متاحة في جيله لأساتذة التاريخ الأدبي والحضاري.
اختير الدكتور الشكعة عميدا لكلية آداب عين شمس، فكانت فترة عمادته من فتراتها الذهبية. وفيما بعد فإنه شغل منصب عميد الكلية في جامعة الإمارات أيضا. أشهر كتب الدكتور الشكعة هو كتابه “إسلام بلا مذاهب” وهو موسوعة حقيقة في المذاهب الإسلامية والفرق الإسلامية، لكنه كتبه بروح داعية إلى التوافق والتوحد والتقريب مقدما منهجا مفتقدا عند العلماء (وبخاصة أساتذة الفلسفة وعلم الكلام) الذي يحرصون على المبالغة في إظهار الفروق والتفريعات والاختلافات.
أما كتابه “معالم الحضارة الإسلامية” فلا يقل أهمية عن كتاب “إسلام بلا مذاهب” وهو كتاب قيم في تاريخ وفلسفة العلوم وتجلياتها الحضارية، وللدكتور الشكعة كتابان قيمان عن اثنين من أئمة الفقه هما الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل. وله ثلاثة كتب مهمة في تاريخ الأدب منها كتابان عظيمان عن علمين من أعلام الأدب العربي هما المتنبي وبديع الزمان الهمداني، وقد جعل اسم كتابه عن المتنبي “أبو الطيب المتنبي في مصر والعراق” أما كتابه عن بديع الزمان فقد جعل عنوانه “الهمذاني رائد القصة العربية والمقالة الصحفية” وهو رأي صريح متزن شجاع دافع عنه الدكتور الشكعة بالأسلوب العلمي الهادئ الذي عُرف به. ويتصل بهذين الكتابين كتابه عن فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين.
وللدكتور مصطفى الشكعة كتاب عن التربية والتعليم في العالم العربي (باللغة الإنجليزية) وكتاب آخر بالإنجليزية بعنوان “مقالات في الدراسات الإسلامية”، ولما بلغ الدكتور مصطفى الشكعة مرحلة النضج ألف كتابه الأعظم عن بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان المظنون أن ينال هذا الكتاب جائزة من الجوائز العربية العديدة التي انتشرت وتوازت في ذلك العصر، بيد أن الرجل كان أكبر من الجوائز.
كانت مكانة الدكتور مصطفى الشكعة في الفضاء الثقافي العام متوازنة مع مكانته الأكاديمية وربما كانت سابقة عليها بحكم انفتاحه المتصل على المجتمع والثقافة، وقد نال الدكتور مصطفى الشكعة جائزة الدولة التقديرية سنة 1989، وأذكر له مما يدل على نبله أنني قابلته قبل الجائزة، فقدمت له التهنئة بها قبل حصوله عليها لما كنت أتوقعه من أن ينالها ففاجأني بقوله إنه يتمنى أن يفوز الدكتور مصطفى محمود بالجائزة حتى لو جاء فوز الدكتور مصطفى محمود على حساب فوزه هو نفسه، ومن الطريف أن الدكتور مصطفى الشكعة فاز بالجائزة 1989، وأن الدكتور مصطفى محمود فاز بالجائزة عام 1995.
وتصادف أن فاز الدكتور الشكعة بالجائزة في العام الذي فاز معه بها الأستاذ إحسان عبد القدوس والأستاذ فاروق خورشيد ومن بين زملائه الأساتذة في كلية الآداب فقد فاز الدكتور شكري عياد (دفعة 1940) بالجائزة في العام الذي سبقه مباشرة (1988) على حين لحق به في نيل جائزة الدولة التقديرية من أساتذة الأدب العربي: الدكتور محمد زكي العشماوي (1991) والدكتور الطاهر مكي (1992) والدكتور السعدي فرهود (1992) والدكتور محمود علي مكي (1993) وزميل دفعته الدكتور يوسف خليف (1993). نال الدكتور الشكعة كثيرا من التكريم الرسمي ونال وسام الجمهورية من الطبقة الرابعة (1959) ومن الطبقة الثانية (1977).
كان الدكتور مصطفى الشكعة يفيض صلاحا ورقة وأدبا وخلقا رفيعا وتساميا عن كل شيء، واذكر آخر لقاء لي بهذا الأستاذ العظيم يوم ذهبنا للعزاء في الدكتور محمد نجل الدكتور عبده الراجحي في الإسكندرية، التقيت به ليلة العزاء وفي ثاني أيام العزاء، ورجوته أن أصطحبه إلى حيث يريد فقال بعطف بالغ: إنه يريد أن يذهب لزوجته، فرحبت، وظننت أنها في بيت أقاربهم أو أصدقائهم وسألته عن الطريق فقال في بساطة شديدة: في العامود، ولما وجدني لم أفهم قال: في مقابر العامود، وكان يقول العنوان وكأنه ذاهب للقاء حي لا لزيارة ميت. رحمه الله رحمة واسعة.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
لقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا