من المفارقات العجيبة أن العام الأخير من حياة الرئيس عبد الناصر أو بدقة أكثر: الثلاثة عشر شهرا قد بلورت ما لم يكن الرئيس عبد الناصر يريده أن يكون لصيقا بصورته. وقد حدث هذا مع الحديث الخفيض المتكرر عن غرابة موقف الرئيس عبد الناصر من الملك السنوسي واستهجان هذا الموقف فبدلا من أن يمتن الرئيس عبد الناصر للملك إدريس السنوسي بالقدر الكافي وبدلا من أن يحافظ على وجود وكيان هذه الحالة “الملكية” الودودة لمصر ولشعب مصر ولقيادته فإنه بدا في الإعلام الذي صنعه مناقضا ومتناقضا بحكم البحث عن أي نجاح حماسي وأظهره إعلامه وكأنه أسعد الناس جميعا بالانقلاب العسكري الليبي الذي وقع في بداية سبتمبر 1969 بينما كان الملك إدريس السنوسي بعيدا عن وطنه.
وفيما قبل كل هذا أي فيما قبل موقفه من انقلاب القذافي كان إعلام الرئيس عبد الناصر قد أظهره منتصرا بوقوع انقلاب الرئيس النميري في السودان في 25 مايو 1969، وبينما أضاف هذا الانقلاب إلى مخاوف الملكيات العربية من الرئيس عبد الناصر بدرجة ما، فإنه أضاف إلى مخاوف القوى الديموقراطية في الشارع السياسي العربي بدرجات قاتلة، فالانقلاب الذي قاده النميري كان على حكومة شعبية منتخبة، وعلى نظام ديموقراطي تمثل في الرئيس إسماعيل الأزهري ورئيس الوزراء محمد أحمد محجوب وهو النظام الذي وقف بكل قوته السياسية مع الرئيس عبد الناصر من أجل ترميم صورة زعامته بعد الهزيمة الساحقة وذلك من خلال مؤتمر الخرطوم وما أحيط به مؤتمر الخرطوم من استقبال حماسي وجماهيري للرئيس عبد الناصر وهو حماس لم يكن يمكن أن يجده الرئيس عبد الناصر في القاهرة نفسها ولا في دمشق في بداية الوحدة.
ومع هذا فقد سارع إعلام الرئيس عبد الناصر إلى إبداء فرحته بالانقلاب الجديد ليزيد في شكوك الملكيات العربية في صدق ولائه أو تعاونه، وليزيد في شكوك الديموقراطية في الشارع السياسي بمن فيهم بعض الشيوعيين في قدرته على أن يتحرر من عسكرة السلطة ومن شمولية الحكم.
بالطبع فإن أحدا من الذين يفهمون النفسيات السياسية لا يمكن له أن يتصور أن ينهج الرئيس عبد الناصر أي نهج عقلي أو متعقل في تلك اللحظة فقد عادت صورته راعيا للثورية ولحكم العسكر ولإزالة الأنظمة الملكية العربية باعتبارها تعبيرا عن الرجعية! وهكذا استجلب الرئيس عبد الناصر لنفسه (من حيث لم يقدر) واستجلب لمصر من بعده حكما مقلقا مزعجا وجارا متقلبا.. وسرعان ما بدأت متاعب الرئيس عبد الناصر المكتومة من القذافي ومن زملاء القذافي المتمتعين بالنزق حتى إنه يمكن القول بأن تصرفاتهم كانت من الأسباب التي أودت بحياته.
وإذا نظرنا إلى الأمور بالعقل البارد الذي نملكه الآن فلم يكن في إمكان الرئيس عبد الناصر في ذلك الوقت استعادة حكم الملك إدريس السنوسي الذي كان قد انتقل للعيش في القاهرة بسلام، وأصبح الرئيس عبد الناصر يشكو من القذافي بينه وبين نفسه ثم أورث هذه الشكوى للسادات وورثها له (بطريقة أوتوماتية حتمتها طبيعة الأشياء) حتى ضاق السادات بالكتمان ولم يعد قادرا على كظم غيظه. لكن هذا لا ينفي حقيقة أن الدعم الليبي لمصر في تلك الفترة وصل مداه، وكان أقرب إلى الوصف البلاغي الذي يقول إنه “دعم بلا حدود”، ومع تقديرنا للقذافي فمن المؤكد أن الملك إدريس السنوسي كان سيقدم مثل هذا الدعم وأكثر منه لأنه كان قد رهن البترول الليبي من أجل تسليح مصر.
لكن اندفاع الإعلام المصري في الترحيب بالثورة الليبية أو ثورة الفاتح العظيم وهو الاسم الذي أطلق على انقلاب القذافي كان كفيلا بأن يعيد تنبيه الملك فيصل وحكام الخليج والأردن والمغرب إلى أن الرئيس عبد الناصر لا يبادلهم الود إلا على دَخْل، وأنه يتربص الفرصة لمساعدة أي انقلاب محتمل في أي وقت، ليقدم له الدعم، ومع أن توقع الميليشيات الإعلامية المصرية في بداية عهد السادات كان يوحي ويومئ بأن انقلابا قد يأتي من المشرق فإن أسلاك البرق اهتزت مرتين بأخبار انقلابين مدبرين على أعلى مستوى في المملكة المغربية، وبدا للجميع (عن صواب أو عن خطأ) أن بقايا النظام الناصري متورطة في هذين الانقلابين، وهو المعنى الذي تم تبادله على نطاق واسع بصوت خفيض لكن الملك الحسن الثاني نفسه بعد سنوات صرح به في كتاب، واضطرت عبارات الملك الصريحة وزيرا مصريا سابقا إلى أن يرد على الاتهام الصريح بردود مطولة ظهر منها أن مصر لم تكن بعيدة تماما عن فكرة الانقلابين المتتاليين على الملك الحسن الثاني.
وبعيدا عن الأعين الواسعة للإعلام العربي فقد حدث الانقلاب الماركسي في اليمن الجنوبية لمصلحة الماركسيين حلفاء الرئيس عبد الناصر أو صنائعه على حساب الزعيم الشعبي الحقيقي قحطان الشعبي الذي كان هو من أعلن الاستقلال وتولى الحكم في 1968، لكن الماركسيين المرتبطين بمصر الناصرية مكنوا من الانقلاب في مارس 1970 في محاولة غريبة واضحة للوفاق مع الاتحاد السوفييتي على حساب العرب والناصرية نفسها.
وفي المقابل فقد سمح الغرب بنشأة الإمارات العربية المتحدة في الكنف الناصري ظاهريا بعد أن وقف الرئيس عبد الناصر والسادات (من بعده) مع انقلاب الشيخ زايد ضد أخيه الشيخ شخبوط، ثم مع رغبة الشيخ زايد في رئاسة دولة تضم الإمارات التي كانت تعرف بإمارات (مشيخات) ساحل الصلح أو إمارات ساحل عمان. ومع هذا فقد كان هؤلاء الذين عرفوا على أنهم جماعة الشيخ زايد ينظرون بحذر شديد وكراهية عميقة إلى تحالفهم مع الرئيس عبد الناصر ونظامه وهو تحالف أفادهم بأكثر كثيرا جدا مما أفاده لكنهم ظلوا يتلقنون ويلقنون أبنائهم كراهية الرئيس عبد الناصر في السر كراهة التحريم مع ستر هذه المشاعر بتقديم الهدايا لأولاده، فيما بدا وكأن الرئيس عبد الناصر كسب فكرة الانقلاب وخسر مغزى الحب.
وكانت آخر خطوات حركيات السلطة في العالم العربي قبل أيلول الأسود بشهرين قد تمثلت في وصول السلطان قابوس بن سعيد إلى الحكم في مسقط ليحل محل والده، وقد اختير لهذا الوصول يوم دال وكفيل بإقناع الرئيس عبد الناصر وجماهير الرئيس عبد الناصر بأن التغيير في مسقط يتم لصالح الشعارات العربية الكبرى، وهكذا تم تغيير السلطة في مسقط عن قصد وذكاء في ذكرى 23 يوليو في سنة 1970 قبل رحيل عبد الناصر بشهرين.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا