كان الرئيس ليوبولد سنجور (1906-2001) فيما بين الرؤساء الأفارقة في العصر الحديث أكثر السياسيين الذين سكبت عليهم الصحافة الأوروبية الأضواء بدرجة مُبهرة فلفتت إليهم الأنظار في وقت من الأوقات دون أن يستمر هذا الأثر لأكثر من سنوات معدودة وذلك على الرغم من كل العوامل التي كانت كفيلة بتقديم نجم حقيقي يستمر أثره في الحياة، لكن الغياب الواضح لعنصر الأصالة كان كفيلا بأن يُقوض كل الجهود الذكية في صناعة نجم وطني بمقاييس غربية. ومع أن العالم الإفريقي منح موافقته على سنجور وأكرم وفادته في مؤتمرات القمة باعتباره رئيس دولة ذكية ومهمة فإن سنجور نفسه لم يكن قادرا على البقاء في إفريقيا بعد أن فشلت أُطروحاته وخُططه.
كان سنجور المولود (1906) مثقفا وشاعرا لا شك في هذا لكن مبلغ ثقافته وشاعريته كان يقف عند حدود الارتواء من المنبع الغربي واجترار أفكاره مع وضعها في قالب غربي أيضا لكن اللافتة فقط إفريقية.. هكذا نستطيع أن ننظر إلى أعمال سنجور الشعرية ومنها “قربان أسود” (1948) “إثيوبيات” (1956) “ليليات” (1961) “رثاء الصابيات” (1969).
كان ليوبولد سنجور من أصول اختلطت فيها سلالات المسلمين الذين أُجبروا على التنصر بسلالات محلية أخرى، وكان واحدا من الفتيان الذين احتضنهم الاستعمار الفرنسي في مدارسه، من خلال المنح الدراسية التي تؤمن الإقامة والدراسة في المدارس الداخلية التي توفر كل شيء حتى ينعزل الطالب عن الحياة العادية في خارج المدرسة، ومع أن المدرسة كانت ممولة من مؤسسات دينية فإن هذا لم يمنعها، كالعادة، من أن تتركه يبدو علمانيا فقد كانت صلته بالأدب الفرنسي واللغة الفرنسية قد توثقت حتى أصبحت بمثابة هويته الجديدة التي مكنته في نهاية الأمر من الوصول إلى عضوية الأكاديمية الفرنسية بعد أن وصل إلى رئاسة السنغال (1960) واضطرته الظروف إلى التخلي عنها (1980).
وصل سنجور إلى رئاسة السنغال عند استقلالها (1960) بالاتفاق مع المسلمين على أن يكون رئيسا ويختص بالشئون الخارجية وأن يكون ماما دو ديا رئيسا للوزراء ومسئولا عن التنمية والداخل، لكن الإعلام الفرنسي سلط الضوء كله على سنجور فقط بحيث لا يظهر ماما دو وبحيث يمكن إزاحته في أقرب فرصة باتهامه في أي مؤامرة، ولم يتأخر الترتيب ففي ديسمبر 1962 اعتقل ماما دو ديا بتهمة التحريض على الانقلاب وبقي في السجن 12 عاما وانفرد سنجور بالحكم، وأظهر نفسه في صورة الديموقراطي وهي صورة لم يكن حظه منها كبيرا، لكن الحكم لم يستقر له فقد تعرض لمحاولة للاغتيال في مارس 1967، وحُكم على مُنفذها بالإعدام، وهكذا بدأ سنجور نفسه يُدرك استحالة استقرار الأمور له بغير شكل ديموقراطي مقترن بإصرار واضطرار غير خفيين، هما إصراره على بقاء نظام الحزب الواحد واضطراره إلى سحق الاحتجاجات الطُلابية.
كان سنجور لا يزال ينظر إلى السنغال على أنها جزء من فرنسا بل إنه كان من الداعين إلى وجود كومنولث فرنسي على غرار الكومنولث البريطاني بل إنه كان رمزا من الرموز المُبكرة للفرنكوفونية، ومن الحق أن نُشير إلى أن مثل هذه الدعوة لم تكن شرا محضا فقد احتفظت للسنغاليين بوضع مميز مع فرنسا على حين أن دعاة القومية العربية من العسكريين النوابغ قد أفقدوا شعوبهم كل ارتباط شكلي يُحقق أية فائدة دنيوية، بعدما أفقدوهم الإحساس بكل انتماء، ومن ثم جعلوهم في صورة أعداء الإنسانية، وهو ما لم يفعله سنجور على أية حال ولا بأية درجة لأنه كان في البداية والنهاية مثقفا لا يستند إلى الإيمان بالقوة فحسب.
يُحسب للرئيس سنجور أيضا أنه لم يُكابر، فقد أعاد تقييم الموقف وقبل أن يتنازل بإرادته عن سلطته في رئاسة الجمهوريةـ وقبل أن يخلفه نائبه عبده ضيوف في انتقال سلمي جنب السنغال كثيرا من العنف القاتل والضياع الذي لا مبرر له. وإذا كان سنجور قد فشل في أن يُقدم نماذج أحد النماذج المضيئة للحكم الديموقراطي أو للأصالة الإفريقية الحقيقية أو للتنمية الذكية فإنه بلا شك لم يتورط في الاندفاع إلى قتل شعبه أو إلى إشعال حرب أهلية.. وربما كان السبب الجوهري في انتهاجه هذا السلوك الحكيم أنه لم يكن عسكري النوى ولا الهوى.
طيلة حكمه كانت الكلمة للمستشارين السياسيين الفرنسيين، وكان أمر تقييم العملة السنغالية بيد الفرنسيين، كما بقي التعليم باللغة الفرنسية وهكذا يُمكن النظر إلى حكمه على أنه امتداد للاستعمار تحت لافتة وطنية. ومع هذا كله فإن سنجور بشاعريته وأسلوبه والمنصة التي أُتيحت له كان قادرا على أن يقدم كثيرا من المأثورات المهمة في السياسة والثقافة فهو الذي قال على سبيل المثال إن الأبيض لا يستطيع أن يكون أسود إطلاقا لأن السواد هو الحكمة والجمال.
كان سنجور حاضرا بالطبع في فعاليات اليونسكو والفرنكوفونية والتعاون الفرنسي الأفريقي، وهذه القائمة الطويلة من العقار والأسفار التي تستهدف الإبقاء على الصلة الاستعمارية دون أن تعني بالارتفاع بالمستوى الأفريقي إلى الندية القادرة على إفادة فرنسا نفسها، ومع أن نموذج سنجور نفسه لم يعد متاحا في إفريقيا بسبب لهاث الحياة وسرعة تدافع البشر فإن فرنسا الرسمية لا تزال تُمارس سياستها في استنساخ نموذجه حتى ولو بطريقة مظهرية.
عاش سنجور ما بقي من حياته (1980 ـ 2001) في منطقة نورماندي في فرنسا، متمتعا بوضع أدبي متميز حيث أصبح أول عضو غير فرنسي في الأكاديمية الفرنسية (مجمع الخالدين) وقد شغل الكرسي السادس عشر الذي انتخب لشغله 1983 وحتى توفى كما يقضي بهذا قانون المجمع، ومن الطريف أن الأكاديميين الفرنسيين انتخبوا الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان ليكون خلفا له منذ 2003 أما سلفه في هذا المقعد فقد كان سياسيا أيضا وهو المؤرخ ميرابو (1953 ـ 1981).
لما توفي سنجور في 29 ديسمبر 2001 حضر جنازته رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية ووزير الدولة الفرنسي للشئون الخارجية لكن الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس وزارته جوسبان لم يحضرا الجنازة. في مصر أنجز تخليد رسمي لاسم سنجور بإطلاقه على جامعة فرنسية خاصة بالتنمية أقيمت في الإسكندرية بشراكة مع مصر بيد أن الخلافات البيروقراطية المعتادة بين ممثلي الدولتين لم تمكن الجامعة أن تخطو أي خطوة واسعة في سبيل نقل الثقافة أو الفكر وبقي دورها بيروقراطيا روتينيا متواضعا إلى أبعد الحدود.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا