لكل كتاب هدف أو أكثر، لكن الهدف الأصلي يستطيع أن يزيح الأهداف الأخرى جانبا أو بعض جانب ليظهر هو في المقدمة، وإن لم يمانع في أن تظهر الأهداف الأخرى وراءه. هكذا فعل الهدف الأصلي من كتاب «الانفجار» الذي ألفه الأستاذ هيكل عن هزيمة 1967 ، فقد ظهر الهدف بوضوح وتكرر تأكيده علي نفسه، وعلي وجوده، وعلي أهميته طوال صفحات هذا الكتاب الضخم، حتي أصبح يكرر نفسه مع كل فصل، ومع كل باب حين يقول الأستاذ هيكل إن إسرائيل أخلّت باتفاقها مع الولايات المتحدة الأمريكية حول الهدف من حرب 1967، فبينما كان الاتفاق يركز علي تأديب جمال عبد الناصر، فإن إسرائيل استغلت الفرصة وابتلعت بالإضافة إلي ذلك الضفة الغربية، والقدس.
هذا إذاً هو الهدف الذي كُلف الأستاذ هيكل بالكتابة الموسعة والموثقة من أجل ترسيخه (من دون جدوى بالطبع). ومن أجل هذا الهدف فتحت أمامه خزائن الوثائق الأمريكية ليأخذ منها ما يدعم هذا الهدف، وليقنع من خلالها أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية أن إسرائيل هي التي خانت الاتفاق و أن أمريكا لم توافق علي هذه الخيانة في أية مرحلة من مراحل هذه الحرب، وقد أورد الكتاب مجموعة من الوثائق الأمريكية الناطقة بهذا المعني صراحة. وهكذا كتب الكتاب ونشر بعيدا عن جوهر أزمة مصر التي لا تزال تدفع ثمنها. ولهذا فإننا لا نكاد نري لهذا الكتاب أي إثر في الدراسات التاريخية التي تناولت حرب 1967.
أما الأهداف الأخرى التي كتب الأستاذ هيكل كتابه وقد وضع عينه عليها فقد تفاوتت قيمتها، لكنها في النهاية تصب في مجموعة من الأكاذيب التي حرص الأستاذ هيكل (وحرصت المؤسسة الأمريكية القائمة على توظيفه لأهدافها) على إبرازها، وهي أهداف يعرفها القارئ الواعي جيدا، ويعرف ما وراءها… وذلك من قبيل هدفين متوسطي القيمة:
* أن الحرب كانت تأديبا للرئيس عبد الناصر قبل أن تكون عداء لمصر أو المصريين، ومع أن المصريين يعرفون هذه الحقيقة فإنهم بما جبلوا عليه من إيمان، وبما اكتسبوه من حضارة ليسوا كمثل الأستاذ هيكل وأمثاله ممن يجدون السبيل إلى التفريق بين هذين الهدفين. بل إن المصريين البسطاء اعتبروا تأديب رئيسهم بهذا الأسلوب عداء للشعب كله لكن الأستاذ هيكل لا يؤمن بمثل هذا الشعور الشعبي حتى بعدما روج له.
* أن الحرب قامت وتمت بتواطؤ سوفيتي كان الدافع إليه هو إيمان السوفييت للتفوق الأمريكي، ومع أن المصريين يعرفون أن لهذه المقولة نصيبا كبيرا من الصحة فإنهم بالحكمة الفطرية يعرفون أن هذا لم يكن ليغير من حقائق الأمور شيئا فيما يتعلق بتآمر الأمريكيين ومحبيهم من طراز الأستاذ هيكل.
وتأتي بعد الهدف الكبير والهدفين متوسطي القيمة مجموعة أهداف صغيرة لكنها بالغة الأهمية عند صاحبها، إذ يختلط فيها الشخصي الخاص بالكاتب، أي بالأستاذ هيكل نفسه، بالموضوعي الذي يرتبط بحقائق التاريخ نفسها، ويتمثل هذا في مجموعة من الأهداف التي بذل الأستاذ هيكل كل طاقاته من أجل إثباتها.
وأول هذه الأهداف هو إثبات مسئولية علي صبري عن تدهور العلاقات المصرية ـ الأمريكية، أو بعبارة أدق العلاقات الناصرية الأمريكية في لحظة خاطئة تمكن فيها وحده من أذن الرئيس (حين ابتعدت هذه الأذن عن الأستاذ هيكل نفسه بضع ساعات) فصب علي صبري فيها ما جعل الرئيس عبد الناصر يندفع إلى سكة الندامة أو إلي الجهة التي كلفته غاليا، وكلفت الوطن العربي كله غاليا، وذلك حين أطلق بانفعال غير محسوب جملته الشهيرة التي وجهها للرئيس الأمريكي طالبا منه أن يشرب من البحر الأحمر إذا لم يكفه البحر الأبيض، وقد اجتهد الأستاذ هيكل بكل ما أوتي من مهارة، ومن وثائق حتي جعل هذه العبارة تبدو بمثابة تجن واضح من الرئيس عبد الناصر مع سبق الإصرار، ثم مع عدم الاعتذار ، بل لقد جعل الأستاذ هيكل هذه العبارة القاتلة تنطق لتعبر عن نفسية الرئيس عبد الناصر وعقليته، ولا تقف عند حدود الانفعال أو الاندفاع.
وقد رسم الأستاذ هيكل الصورة السابقة علي تفوه الرئيس عبد الناصر لهذه العبارة بما يجعلنا نستنتج أن علي صبري هو الذي دفع رئيسه إلي هذه العبارة في وقت لم يكن يجوز له فيها أن يدفعه إليها بينما الأيدي الأمريكية الحنونة ممدودة إلي مصر من خلال أمريكيين محبين لمصر، أو متعاطفين معها من طراز السفير الأمريكي باتل، وقد مدوا أيديهم بالتعاون بمساعدة الأستاذ هيكل طبعا(!!) وهكذا يجد القارئ نفسه وكأنه يقول: ليت الأستاذ هيكل الحصيف لم يغب عن الرئيس عبد الناصر لحظة واحدة إذ أن المصائب الكبرى لا تحدث إلا حين يبتعد الأستاذ هيكل عن أدن الرئيس عبد الناصر فيسكب فيها علي صبري ما يسبب الكوارث!
نأتي إلي ثاني هذه الأهداف الصغيرة وهو مسؤولية ذلك الرجل الجبار(!!) الذي هو علي صبري (أيضا) عن عناء الرئيس عبد الناصر حين دفعه بطريق عكسي إلى الإبقاء علي المشير عبد الحكيم عامر علي رأس القوات المسلحة (لكن المسئولية في هذه المرة كانت غير مباشرة) فبعد ما كان الرئيس عبد الناصر نفسه قد قرر الخلاص من عبد الحكيم وأخذ من عبد الحكيم الموافقة على هذا في اللحظة التي واجهه فيها بانكشاف قصة زواجه من السيدة برلنتي عبد الحميد.
وقد وصل الأمر بالأستاذ هيكل أن نشر مشروع قرار الرئيس عبد الناصر بإبعاد المشير عبد الحكيم عامر للعلاج شهرا في يوغسلافيا (الذي كان بمثابة أول خطوة في إبعاده بعدما اكتشف زواجه السري من السيدة برلنتي عبد الحميد)، ثم أعقبه برواية الأسباب التي حالت دون تنفيذ القرار، وكان على رأسها (في رواية الأستاذ هيكل المحبوكة) ما كشفته المخابرات العسكرية من أن الاتحاد الاشتراكي (الذي كان علي صبري هو موجهه الأول) كان يناقش على مستوي قياداته الشابة مشروعا حمل عنوان “كيف يمكن التصدي لانقلاب عسكري؟”.
ثم وصل الأمر بالأستاذ هيكل أن صور الأمور على لسان علي صبري في التحقيق الرسمي الذي أجري معه بما ينطق بأن علي صبري لم يشأ أن تكون القوات المسلحة هي القوة الوحيدة في الوطن. وهكذا استكمل الأستاذ هيكل أو بالأحرى استأنف خططه المتجددة في القضاء على صورة علي صبري وإدانته بالمسئولية عن كل الكوارث التي أصابت مصر، وهو الخط الذي سيطر على الأستاذ هيكل وقلمه منذ ما سمي بالحركة التصحيحية في مايو 1971وحتى فقد الأمل في عودته للعمل مع السادات بعدما أقاله فجأة في فبراير 1974ومرت السنوات من دون أن يعيده لعرينه.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
لقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا