منذ 1932 كان الالتزام السعودي بمذهب فقهي ودور ديني وتوجه إسلامي أبرز الأسباب الجوهرية التي ساعدت التقدم الاقتصادي والاجتماعي في المملكة، وكان الأمريكان والغربيون يلاحظون تدني معدلات الجريمة الاجتماعية إلى درجة الندرة، وانحسار مستويات الجنايات المالية والفساد البيروقراطي إلى حد كبير، فكانوا بالطبع والمنطق يبحثون عن السبب ثم يلخصونه لأنفسهم على طريقتهم في بلورة الفوارق الفاصلة أو العوامل الحاسمة فيذكرون كلمة واحدة هي: “الحدود” مشيرين بها إلى التزام حكومة المملكة بقوانين تفرض عقوبات صارمة على من يتجاوز الحدود التي يتمناها أي مخطط إجتماعي لتوكيد الشعور بالنجاح ومن تم تحقيق التنمية الاقتصادية والإجتماعية والارتقاء بالمعدلات البشرية بالمواكبة للطفرة البترولية.
لم يكن كبار الساسة في العقود الماضية يتصورون أن بإمكانهم أن يؤثروا تأثيرا مباشرا على اعتقاد السعوديين فيما ينفعهم من الشريعة أو القانون، ومع هذا فإنهم لم يكونوا سعداء بهذا الاستقرار الاجتماعي المتاح للسعودية على الرغم من أنه يصب في مصلحتهم. لكن الأجهزة المخابراتية الأمريكية بأهدافها الأربعة المعروفة (تأليب الأقليات والعبث في ديانة الأغلبية وتشجيع الانقلابات العسكرية وإثارة النزاعات الحدودية) لم تتوان في يوم من الأيام في البحث عن الثغرات التي يمكن لها أن تنفذ منها إلى هذا النسيج لتمزيق جزء منه، ثم ترقيعه بطريقة منفرة، ومن ثم العمل على ثغرة جديدة ورقعة جديدة.
اعتمد الأمريكان في فترة من الفترات على طائفة الموارنة باعتبارهم قد استوعبوا خبرات يهود الدولة العثمانية كنموذج للصراع من الداخل بيد أن الموارنة إحقاقا للحق لم يجدوا أن هذا الدور يتواءم مع ما باتوا ينشدونه من وفاق في لبنان التي ذاقت هي نفسها كثيرا من الفتن بسبب رعونة بعض قادتهم منذ السبعينات، وقد رأى الموارنة أن تجربتهم السعودية لا تتناسب في معطياتها ولا عوائدها مع تجاربهم الفرنسية على سبيل المثال وبخاصة أن اللبنانيين بطبيعتهم لا يستطيعون التوافق مع جمود الحياة الاجتماعية الظاهر في السعودية الحديثة.
وفي مرحلة تالية فإن تجربة البؤر المحددة في البحرين عبر الجسر البحري اقتصرت في مُجملها على عطلات نهاية الأسبوع من دون أن تشهد إتصالا قادرا على إحداث تغيير إجتماعي يهُز من ثوابت المُعتقد الديني الذي حافظ السعوديون على شكلياته.
وهكذا بدأ الأمريكان مرحلة ثالثة بالعمل من خلال ما يُسمى بأفواج المهرجانات المصرية الذين كرسوا فكرة الاحتفاليات المظهرية ممتدين بها إلى خيام مهرجان الجنادرية الذي كان الملك عبد الله نفسه يرعاه ويرأسه منذ ما قبل وصوله إلى الملك.
اكتشف الأمريكان أن السعوديين يوكلون أمر حياتهم الترفيهية في القاهرة والإسكندرية وأشباهها من العواصم العربية الحية إلى طبقة من العسكريين السابقين القادرين على رعايتهم في تعاملاتهم مع الأجهزة البيروقراطية التي لا تكف عن إستنزافهم بحب وبغير حب وعن التحرش بهم بسهولة أو بخشونة.. وهكذا فإنه في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 بدأ اتصال ذي قاعدة عريضة مع من أصبحوا بعد سنوات قليلة يُمثلون كريمة مجتمع الانقلابين المصريين، وبدأت الحوارات عن إمكانية قيام الجيش شبيه بالدور الذي تقوم به هيئة الأمر بالمعروف بطريقة معاكسة للهدف لكنها أكثر إرضاء للسلطة، واكتشف السعوديون علاقة السلطة بشيوخ الفضائيات والمحللين وأنصاف المفكرين وهي العلاقة المدعومة بمجوعة المنافع التبادلية المؤكدة لفكرة حصرية السلطة في المقام الأول فهم الذين يملكون وهم الذين يدخلون ويخرجون ويُصرحون.. هكذا جاء الانقلاب العسكري المصري في سياقه الطبيعي كاحتلال سعودي إماراتي من طراز بدائي وبدوي، فلم يكن أصحاب النفوذ في الرياض على إستعداد لأن يبدأوا أي علاقة جيدة على أساس جديد يختلف عما عرفوه واستقروا عليه في السنوات العشرين الأخيرة من عصر مبارك بعد رفع العقوبات العربية عن مصر ودخول هذه العلاقات منذ حرب الخليج رحلة شهر العسل الطويل.
أصبحت “التخمرات المكتومة” في الجنادرية بمثابة مؤشر لما ينبغي على السلطة السعودية أن تشرع فيه من تبديل ثوبها الوقور إلى ثوب آخر يُرضي القوى الكبرى ويستجلب مزيدا من حمايتها، هكذا جاءت رؤية 2030 لتطرح نفسها بهذا الفهم الذي كان بحاجة إلى صياغات لم تكن صعبة ولا بعيدة عن المتناول، وهكذا بدأ الحديث عن قيادة المرأة وكأنه إنجاز فقهي لولي العهد الذي كان هو نفسه قد أبدى نفوره من الفكرة ذاتها قبل شهور لكنه في ظل الظهور بمظهر العصرنة رأى في الفكرة بابا من الأبواب السهلة.. وحين فكرفي المضي خطوة إلى الأمام فإنه أعلن افتتاح السينما مع أن الذكاء السياسي كان يقتضي تسمية الأمر بإسمه الحقيق وهو عودة السينما حيث كانت هناك دور للسينما فيما قبل 1979 لكن صناعة النجومية لا تقبل أن تقول بإعادة الإفتتاح وإنما هي تنحو إلى القول بالأولية إرضاءا للغرور وتحقيقا لمظاهر الزعامة وجدارتها.
كان الأمر يتطلب تنظيم دورات توجيهية لعلماء الدين تؤهلهم لفهم الهدف السياسي من محاربة الإسلام “السياسي” وتسمع منهم للضوابط التي يمكنها لها أن يقترحوها ليكون قلبهم مطمئنا، ولم تكن هذه الدورات التأهيلية تحتاج لأكثر من شهر على أقصى تقدير.. لكن الحلفاء في أبو ظبي وعواصم أخرى كانوا يرون أنه لا بد من الإسراع في تدمير الماضي مع هذا التحديث، وهكذا كان لا بد لرؤية 2030 من تحقير العلماء بسجنهم وتعريضهم للإتهام والإعدام فجأة، والتقرب بدمائهم إلى من يعلنون عداءهم للإسلام جهارا نهارا من قبيل الرئيس الأمريكي الذي لم يتوان عن وضع السعودية ضمن الدول التي يضايقها بتصرفاته بدءا من منع الهجرة ومنع التأشيرات وانتقاد المناهج والتحقير من شأن القيم.. إلخ.
بدت الصورة النهضوية مشوهة إلى أبعد الحدود فالرؤية المُفترضة أنها ثاقبة تبدو وكأنها متناقضة حتى مع نفسها ومع ذاتها فهي تقبل بالتحقير وتقبل بالإبتزاز وتقبل بالتطاول بل ترحب بهذا كله تحت دعوى ما تسميه الصداقة بينما الطرف الآخر الذي هو في تقديرها صديق لا يقر بهذا وإنما يتحدث عن مصلحة إضطرارية.. بدت رؤية 2030 في تعاملاتها الأولى كأنها تضحي بما في يدها من عوامل القوة دون أن تحصل على أي مقابل معقول من قبيل إنهاء أو إلغاء قانون جاستا أو السماح بزيادة سعر البترول إلى سعر عادل أو حتى تلقي دعم إستخباراتي حربي حقيقي في اليمن يُمكن القوات السعودية من إحراز أي نصر تكتيكي يحفظ ماء الوجه لصاحب رؤية 2030 ويُصوره قائدا عسكريا قادرا على النجاح.
لم تنل الرؤية أي مقابل لما قدمته من الأموال ومن التنازلات الماسة بالهوية، بل إنها جعلت بقاء النظام نفسه مطروحا بصفاقة وصلف على بساط البحث الاستخباراتي في ظل رغبة الحلفاء (في أبوظبي وغيرها) في اقتسام ما يستطيعون اقتسامه من أرض المملكة نفسها، وذلك على الرغم من نجاح المرحلة الأولى من عهد الملك سلمان فيما بدا كأنه الحصول النهائي على جزيرتين مصريتين بينما يبدو في الأفق أن الأمر لم يكن إلا طُعما خبيثا من الصياد الحليف قبل أن يضطلع هذا الحليف بدوره القادم حتما في تفتيت كيان كبير.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة التدوينة من موقع مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا