رأيت في رحلة العودة من جدة على باخرة القمر السعودي كثيرًا من الركاب وقد حرصوا على شراء صندوق كامل من التفاح فيه عشرون كيلو يبلغ ثمنها جميعًا خمسة وسبعين ريالا، وبعضهم اشترى صندوقين (هذا هو سعر الصندوق، بينما سعر الكيلو في المحلات خمسة ريالات). ونسبة كبيرة من الركاب أو زملاء السفر حرصت على شراء أجهزة التسجيل، وبعض هؤلاء تنبهت عندهم على حين فجأة متعة الموسيقي والغناء، فحرصوا على شراء أشرطة أم كلثوم وعبد الحليم من الميناء وأداروا بها التسجيل، الذي لا يزال كما هو «بشوكه» في علبته أو لا يزال كما يقولون في كيسه السلوفاني.
يدير كل من هؤلاء جهازه باستعمال الحجارة الجافة حتى لا يضطر إلى البحث عن مقبس للكهرباء في الباخرة، وربما يجده وربما لا يجده. وواحد من ركاب الباخرة أبدع في تطوير الاستخدام فاستقدم شرائط شيخه المفضل ووضع أمام المسجل ميكروفونا صغيرًا أحضره معه وجعل «مرْكز» هذه الإذاعة المحلية الخاصة والمجانية والإجبارية في وسط سطح الباخرة، ودعا الناس إلى الالتفاف (مجانًا) حول الشيخ وحديثه الناقد في السياسة والاجتماع، وهكذا تملك هذا المصري الذكي أقوى محطات الإذاعة الحرة والمجانية على ظهر الباخرة.
وفي الطرقات وفيما بين الغرفات تجد السيدات اللائي آثرن الجلوس على الأرض، سواء أجلسن في مداخل الغرف أم إلى جوار هذه المداخل، وقد أخذن يتداولن القصص المألوفة التي لخصها لنا تراث الأدب العربي القديم في حوارات ممتعة لعل أبرزها حديث أم زرع، والإفاضة في الأحاديث في شأن الزوج الذي بخل على بناته في حياته وحياتهن، والعريس الذي لم يثبت لأنسبائه دليلا على الأريحية اللائقة، والمكافح الذي تمكن من أن يحقق المعجزات في سنوات قليلة، والجار الذي ترك أهله أو نسيهم حين أمضى خمس سنوات في الخارج لم يسأل عنهم مرة واحدة، ولم يرسل إليهم درهما واحدا خلال تلك السنوات.
أما نادي «التيفولي» الذي تقول الباخرة في أوراقها ولافتاتها وشركتها إنها تفخر بوجوده في هذه العبارة، فقد تحول مع الزمن تحولًا تامًا إلى مقهى بلدي ممتع، وقد تحلقت فيه مجموعات صغيرة حول الكوتشينة أو الطاولة أو الشاي أو القهوة (سواء كان الشاي من الكافتيريا، أو كان من صناعة محلية بأيدي أصحابه!!)، فإذا حان موعد عرض الفيديو تحول المقهى إلى شيء شبيه بما يسمى سينما الفيديو التي كنا نراها في ذلك الوقت في مقاهينا البلدية. وربما امتد الحال إلى كافتيريا الدرجة الأولى التي تؤثر بعض السيدات الجلوس فيها، والتي سرعان ما تتحول هي الأخرى إلى ما هو شبيه تمامًا بسينما قاهرية تقدم عروض الفيديو للأفلام المصرية. والجماهير كعادتها منفعلة انفعالًا غير محسوب ولكنه محدود تمامًا بهذه العروض، فالذين شاهدوا الفيلم من قبل يسارعون إلى وصف الحدث السينمائي قبل وقوعه، والذين يشاهدون الفيلم للمرة الأولى تصدر تعبيراتهم المتوقعة أو المعهودة: مجتمعة ومتوحدة.
كانت تجربتي فيما ركبته من بواخر أوروبا أنها تسعى لإفساح المداخل وتيسير حركة الدخول والخروج، بحيث لا تتراكم الجماهير ولا تتدافع.. ولكن هذه البواخر التي خبرت إحداها (أو أفضلها) في هذه الرحلة تصر على أن تجعل الركاب الثمانمائة يقفون وراء بعضهم في صف واحد طويل، ثم لا يتحرك هذا الصف للخروج منها إلا بعد ساعة من اصطفافه، وتجعلهم أيضا يدخلون كلهم الباخرة في وقت واحد، فإذا هم يتكومون بعضهم فوق بعض، وإذا هم ينحشرون بين أمتعتهم، وإذا هم يقعون على الأرض، وقد تكون فيهم الحامل، والعجوز المسن، والرجل المريض، والطفل الصغير.
وفوق هذا كله فإن المكاتب المسئولة عن هذه البواخر تصر ـ كما قدمت لك ـ على أن تجعل الركاب الذين دفعوا أجرة السفر هذه من دخلهم المتواضع وعلى حساب قوتهم المحدود يتعذبون في انتظار كل هذه الإجراءات منذ الصباح الباكر. وهم يبررون هذا التصرف باعتقاد قوي في عقولهم بأن هؤلاء الذين يتعاملون معهم يمثلون درجة أخرى من البشر، وهي درجة لا بد أن تكون أقل من تلك الدرجة التي تركب الطائرات وتلتزم بالمواعيد! أنتقل بك بعد هذا إلى طاقم سفينة «القمر السعودي» التي اخترتها للسفر إلى جدة، وقلبي مع هذا الطاقم، فقد كان يبدو طوال الرحلة أسيفًا على باخرتهم ذات السبعة عشر ربيعًا والتي لم يعد لها على هذا الخط غير رحلة أو رحلتين ثم تتوقف هذه السفينة عن مثل هذه الرحلة؛ لأنها بيعت نهائيا.
وأغلب ظن طاقم سفينة «القمر السعودي»، أو فلنقل أقصي معلوماتهم، أنها بيعت إلى شركة في أمريكا اللاتينية سوف تستخدمها كنادي للقمار؛ حيث تعيد بناء الدور العلوي بحيث تجعله كافتيريا كبيرة جدًّا بحجم السفينة كلها، وتلغي الكبائن وتعيد بناء دورات المياه. بعد هذا التأهيل تعمل هذه الباخرة في تلك البلدان التي يروج فيها نشاط نوادي القمار، بحيث تأخذ بعض الركاب من على شاطئ البلد وتتحرك بهم خارج المياه الإقليمية لدول تحرم القمار أو تحظره بحكم القانون أو تربطه بضرائب باهظة، حيث تبقى العبارة شبه سائحة وشبه متوقفة طوال الليل، حتى يتمكن هؤلاء من لعب القمار بعيدًا عن حدود الدول التي تفرض عليه ضرائب باهظة. ولست أنكر أن هذا المثل الحي للاستخدام يعبر بذكاء ودقة أو بسذاجة وعمومية عن صورة موحية للذين تهويهم المقارنات بين الاستخدامات (الحلال) والاستخدامات (الحرام) للوسائل والوسائط التي تتاح للإنسانية!
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة التدوينة من موقع مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا