الرئيسية / المكتبة الصحفية / تجربة قديمة مع القمر السعودي

تجربة قديمة مع القمر السعودي

منذ ثلاثين عاما آثرت في رحلة “منفردة” لأداء العمرة أن ألجأ إلى البحر طريقًا إلى العمرة، ولا أخفي (أو بالأحرى لا يخفى) أن هدفي من هذه الرحلة البحرية كان هو المرور بالتجربة، ولهذا فقد احتفظت لنفسي طوال الرحلة بقدر من السعادة المشوبة بالرضا، أو الرضا المشوب بالسعادة عن كل ما فيها من صعاب، ومع هذا فإني لا أنكر أن هذه الرحلة كانت حافلة بالمصاعب التي لا أول لها ولا آخر.

وربما كان السبب الأول (أو القاسم المشترك) وراء كل هذه المصاعب أن بعض العاملين في هذا المرفق من مرافق النقل البحري لا يضعون على الإطلاق في حسبانهم أن تحديد الوقت بدقة مبدأ من مبادئ حقوق الإنسان، ويكفي دليلًا على التغاضي منهم عن احترام الوقت أن نقول إن الوقت عندهم يمضي بطيئًا بلا أي تقدير لسرعته أو عجلته. ولنبدأ من اللحظة التي تتوجه فيها لحجز التذكرة ونتأمل كيف يمضي الوقت بلا ثمن.

* قالت لي موظفة حجز التذاكر في مكتب الشركة: إن عليّ أن أكون في الميناء قبل السادسة صباحًا لأن الباخرة ستمضي إلى حال سبيلها في الثامنة.

* في اليوم التالي قال لي المدير: لا تخف فإن الباخرة لا تغادر السويس قبل التاسعة.

* وعندما أكدت الحجز قال لي مكتب الوكيل الرئيسي لشركة القمر السعودي إن في وسعي أن أغادر القاهرة في السادسة والنصف فأكون في الميناء في حدود الثامنة والنصف، لأن الباخرة لن تتحرك قبل العاشرة.

* في الطريق إلى السويس أخبرني من شرفت بصحبتهم من المواطنين السوايسة الذين شاركوني ركوب السيارة من القاهرة، أن الباخرة تغادر مدينتهم في الثانية ظهرًا.

بعد كل هذه الأقوال غادرت الباخرة السويس في الرابعة مساء، وكنت أظن أن في هذا تباطؤا مصريا، إلى أن مررت بنفس التجربة في جدة في طريق العودة، فإذا الباخرة تغادر جدة لا في الثامنة ولا في التاسعة ولا في العاشرة ولا في الرابعة وقت العصر، وإنما في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وهكذا فإنني بقيت في حدود جدة في انتظار تحرك الباخرة من الميناء 17 ساعة.

لا تقطع عليّ حبل أفكاري بقولك إن هذا أصبح يحدث أيضًا في المطارات والطائرات في مواسم العمرة والأعياد.. إلخ، فليس هذا مبررًا لذاك. وأسأل نفسي: لماذا يضيع كل هذا الوقت في رحلات الباخرة بين قطرين كبيرين؟! الإجابة التي ربما تفرضها عليك التجربة فرضًا معرفيًا هي أن خدمة هدا العدد الضخم من الركاب هو السبب الواضح.

ولكن التأمل العميق يهديك إلى أن عدد الركاب في رحلة الذهاب كان ٨٦٨ راكبا، وفي رحلة العودة 890 راكبا، وهو عدد لا يتعدى ضعف ركاب طائرة بوينج ٧٤٧، حيث يمكن لموظفي شركات الطيران المتدربين جيدًا أن ينتهوا تمامًا من كل إجراءات شحن الأمتعة وفحص الجوازات وتحديد المقاعد، وإعطاء كروت الإقلاع في أقل من ساعة واحدة، كما تنتهي مع هذا أيضًا إجراءات فحص الركاب من أجهزة الأمن والتأمين.. إلخ.

ومن الممكن في مثل هذه البواخر أن تتم الإجراءات في الوقت نفسه إذا ضاعفنا عدد الموظفين الأكفاء، خصوصًا مع اتساع القاعات في الموانئ عن مثيلاتها في المطارات. ولست أريد أن أنطلق من تجربتي إلى أحكام كلية أو عمومية، فالتحرز أو الاحتياط أو التحفظ في مثل هذه الأحوال والذكريات واجب، فربما كانت البواخر على الخطوط الأخرى شيئًا مختلفًا، ربما تكون هناك بواخر أخرى وضعت في حسبانها حقوق الإنسان في أن يسافر في يسر ما أمكن، وفي أن يستريح بعد عناء، وأن يعامل في سفره بمراعاة أن السفر ليس إلا كما قال رسول الله ﷺ: “قطعة من العذاب”.

ولست أريد أن أقارن الوضع بتجاربي السابقة في إنجلترا وفرنسا والدنمرك والنرويج.. إلخ. لكني أحب أن أقوم بواجب مهم وهو أن أحدث القارئ عن بعض ذكرياتي عن الرحلة على سطح الباخرة في رحلة العمرة. بالطبع كان السؤال الذي سيطر عليّ طوال هذه الرحلة بل من قبل بدايتها هو: هل يستطيع الإنسان المسافر الذي تعود على ركوب الطائرات وعلى ركوب السيارات المسرعة والقطارات فائقة السرعة أن يدرك معنى حقيقة نفسية تقول له إن عليه إذا ركب الباخرة أن يتقبل فكرة أنه قد حكم عليه بالسير على سرعة ٢٢ كيلو مترا، فإن أسرع في سيره فهو لن يزيد على سرعة 25 كم فقط.

هنا أعترف أنه ربما ذهب التشاؤم أو القنوط بالإنسان في بعض لحظات هذه الرحلة أن يتصور أنه في سجن كبير متحرك على هذا النحو؟ ولكن على الإنسان أن يتذكر أيضًا أنه في حصن مريح له فيه غرفة خاصة، تضم سريرًا ينام فيه الإنسان منعزلًا عن الدنيا المحيطة به، وشرفة يطل منها على بحر عميق واسع يحيط به من كل جانب.

ومع هذا فإن الملل لا يفتأ يتسرب إلى نفس الإنسان العجول، أو المتعود على وتيرة مسرعة، وتدور الحوارات بين الركاب بعضهم وبعض، وتمر هذه الحوارات بفكرة الرحلة بالباخرة مرورًا ظالمًا يسخف من الفكرة تمامًا، ويذكر عيوبها دون مزاياها، ولا يني عن تكرار هذا الحديث المتحامل على الباخرة وعلى ركوب الباخرة، بل وعلى وجود الباخرة، فإذا بعضهم يدفع البعض الآخر دفعا إلى عداء الباخرة ورحلة البحر كلها، والانتصاح وأخذ الدرس بعدم اللجوء إلى الباخرة مرة ثانية.

والحقيقة أني لست مع هذا الرأي بأي نسبة من التأييد، خاصة إذا كان ممكنًا للإنسان أن يصطحب معه ما يريد أن يقرأ. مع هذا، وربما قبله، فإن المشاهد المسرحية الموحية بالتأمل أو بالضيق والنفور من التجربة تتوالى بسرعة وكثافة:

* بالقرب من دورة المياه جلس رجل مسن (أو بالأحرى تقرفص) وأخذ يلعن الذي صمم الباخرة وبناها وكأنه يقرأ الموال.

* في الطرقات رجال ونساء افترشن الأرض وجعلن منها منضدة للطعام، وأخذوا يتناولونه كأنهم في مأدبة حقيقية.

* وبعد هؤلاء مجموعة أخري لم يتذكروا (إلا مؤخرًا) أنهم تركوا الحقائب التي تحوي الطعام في مخزن الباخرة، فإذا هم نادمون منزعجون لما يحدث عندما يختلط الطعام ببعضه، بل وبالملابس! بينما هم في حاجة إليه الآن.. لكنهم لا يستطيعون بالطبع الوصول إليه.

وهنا تأتي مناسبة الحديث عما نعرفه في حياتنا من صدى بساطة التجربة الأولى التي لم تلجأ إلى السؤال المعرفي أو التصور المنطقي.

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة التدوينة من موقع مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com