الأستاذ سلامة موسى في أفضل أوصافه معلم متميز على ما يشبه الطريقة الأزهرية التي تهتم بتواصل تدفق نهر العلم بين الأستاذ والتلميذ تواصلا لا يرتبط بالشهادة الدراسية ولا يتوقف عليها، وإنما يرتبط بالعلم نفسه، وما يقدمه العلم من تفتيح للمدارك وتعليم للأساسيات في العلوم الأخرى المرتبطة بالعلم محل الدراسة، أدى الأستاذ سلامة موسى هذا الدور بقدر ما أتيح له، وهو بعيد عن المناصب التعليمية الكبرى حيث كان من الممكن أن يجد قطاعا عريضا من التلاميذ الذين يتصلون به ويسعون إليه، لكنه مع محدودية تلاميذه أدى هذا الدور الأزهري التقليدي باقتدار دون أن يعرف أنه يؤدى دور الأستاذ الأزهري في المقام الأول والأخير.
أما الأستاذ سلامة موسى في دوره الذى تصوره لنفسه فليس إلا نسخة مصرية غير ناضجة تماما من المثقفين الشوام السابقين في كل شيء: جورجى زيدان، يعقوب صروف، فارس نمر، وإن كان بالطبع لم يستطع أن يرقى بإنتاجه أو حضوره أو مؤسسته إلى ما وصلوا إليه من آفاق، والسبب في هذا ليس عيبا فيه بقدر ما هو سمة من سمات أو طوابع أهالينا المصريين (ونحن منهم) حين يقتحمون مجال الأعمال فيديرونها بعقلية ناظر الزراعة فحسب، وأنت تستطيع (إذا قارنته بهم) أن تلاحظ محدودية قدرات الأستاذ سلامة موسى على التوظيف والتشغيل والإدارة والتعاقد والتمويل والتقسيط والتحصيل والارتباط والبناء المؤسسي ولو أنه قدر له أن يتعلم هذه المهارات بصفة مباشرة لتمكن من أن تكون له على أقل تقدير دار كدار الهلال أو المقطم أو المعارف لكن الأستاذ سلامة موسى كان محكوما بالأزهرية وهو مسيحي، وكان محكوما بالمصرية وهو رجل أعمال محدود القدرة والنشاط ورقم الإنتاج.
وما هذا فإننا لا نستطيع أن نقول إن الأستاذ سلامة موسى كان راضيا بما هو فيه، أو عما هو فيه، بل كان إنتاجه وخطابه وأسلوبه ونقده معبرا عن أنه كان أقرب إلى الإحباط والتمرد والتململ والشوق إلى الإشراق والتنعم، وشأنه شأن كل من يعانى من هذه الحالة مع الإحساس بالتفوق العقلي فإنه كان يلقى بالعبء على المجتمع، مع أنه كان في وسعه أن يوظف المجتمع لخدمة أهدافه وأمجاده لكنه لم يفعل، وهكذا تطور الأمر معه إلى نوع من التعصب المفهوم في دوافعه، وغير المفهوم في آفاقه، لكن هذا هو شأن التعصب الذي يظهر أثره حيث كان ينبغي أن يختفى، ويختفى من حيث كان يمكن أن يظهر.
من العجيب أن عمر تلاميذه أو الذين تتلمذوا له في مرحلة ما من حيواتهم كان أطول من عمر أفكاره هو، فسرعان ما تجاوز الزمن أفكاره على حين كان هو وتلاميذه لايزالون على قيد الحياة النشطة، وكان الرواد يشهدون له بالريادة وبفتح العيون على الأفكار، لكن إنتاجه هو نفسه كان أقل من هذا الأثر كما أن أثره سرعان ما أصبح أقل من طموحه لكن هذا لا ينفي فضله. للأستاذ سلامة موسى أفكار ومقاربات براقة لا شك في هذا، لكنها لم تكن سابقة لزمنه حين توفي ولا لزماننا الحالي بالطبع، والسبب في هذا جلي وواضح وهو أن مشروعه الفكري ظل أسيرا لظروف نشأته ومسيرته.
أتيح للأستاذ سلامة موسى أن يتصل عن طريق السفر المبكر بالفكر الغربي والمجتمع الغربي لكنه كان نموذجا لهؤلاء الذين أزعج الاتصال المبكر تفكيرهم فجعلهم في حيرة من أمرهم بين البناء على ما هو موجود هناك والبناء على ما هو مأمول هنا، ولو أن الأستاذ سلامة موسى كان قد بدأ بتلقي أصول المعالجة الفكرية والصحفية تلقيا مباشرا على يد صحفيي الشام الذين أشرنا إليهم لتكونت له ملكات ومهارات قادرة على النقد وعلى الحكم على الأمور بأسلوب يتمتع بالأصالة والمنطق والأصول والفلسفة لا بالحب والبغضاء والإقبال والنفور فحسب.
لكنه بدا في كل أحكامه ممجداً للانفعال التلقائي الذى يجده في نفسه من قبل قراءة النص أو سماع اللحن مع أن التعليم والتدريب المبكرين في أية مدرسة وطنية أو متمصرة كانا كفيلين له بالدربة (أي التدرب الفائق) والمهارة واستعراض الأسانيد وصياغة الرؤية المتفردة والمتفوقة، لكن الأستاذ سلامة موسى تعجل، وكرر التعجل، ثم فضل التعجل فلم ينل من كل هذه الصفات المتاحة إلا أقل القليل، ومع هذا فإن الزمان المنصف استبقى له نجاحه (الذي وصفناه) في دور المعلم الأزهري الذى يأخذ بيد الراغبين إلى حدود مدينة العلم ومشارفها أخذاً جاداً وعنيفا في جديته لا يخلو من الحب ولا يخلو من الإمتاع.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة التدوينة من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا