الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / “إسماعيل الأزهري” الزعيم السوداني الذي ذبحه عبد الناصر ثلاث مرات

“إسماعيل الأزهري” الزعيم السوداني الذي ذبحه عبد الناصر ثلاث مرات

كان السيد إسماعيل الأزهري صوفيا بالوراثة فقد بدأ حياته في الخلوة، بسبب انتمائه لعائلة من عائلات الصوفية الكبرى في السودان ونسبه في هذه العائلات معروف ومذكور ومقدور

كان موقف النظام الناصري من الزعيم السوداني إسماعيل الأزهري أول رئيس للسودان بمثابة أبرز نموذج لفشل نظام الرئيس جمال عبد الناصر في المُضي قُدما في سياساته العربية الوحدوية التي ظل يُنادي بها حتى مع تنامي هذا الفشل. كان إسماعيل الأزهري منذ 1943 زعيما للسودانيين المُطالبين بالاتحاد مع مصر في مقابل المهديين المطالبين بالانفصال ، وقد أقام سياساته ودعاياته وخطابه السياسي على هذه الفكرة وظل يدعو إليها قبل أن يتم الاستفتاء الذي جعله البريطانيون مقدمة لما سُمي باستقلال السودان الذي تم إعلانه في مطلع يناير 1956، وقد تحقق خذلان إسماعيل الأزهري على يد الرئيس عبد الناصر قبل أن يتحقق باستفتاء السودانيين، وكان الخذلان الناصري للسودان والأزهري إشارة مُبكرة للتوجهات القومية لكي تنتبه إلى حجم الافتراق المتصاعد بين ما يُنادي به عبد الناصر  وبين خطوات نظامه السياسية والاستراتيجية التي تعمل في الاتجاه المضاد تماما لما يُنادي به سواء أكان ذلك عن قصد مُبيت أم عن سوء إدارة تجعل الفشل نتيجة طبيعية لقصور الأداء واضطرابه إلى حد مذهل على الرغم من بقاء الدعايات الإعلامية في الاتجاه التي بدأت به.
ومن العجيب أن هذا الموقف الناصري المحبط للسودانيين المؤيدين للوحدة مع مصر ظل يتنامى في كل تجربة تمر بها التجربة السودانية والديموقراطية السودانية، وقد ازداد تعقيد الموقف الناصري نتيجة لحسابات غير مُعلنة كانت تدفع عبد الناصر ونظامه إلى محاربة أي تجربة ديموقراطية في أي مكان قريب من مصر، وإجهاض أية تجربة ديموقراطية لصالح أي حكم  عسكري بل إن الهدف قد تطور في اتجاه آخر هو القضاء على كل تجربة ذات ملامح إنسانية في مقابل تشجيع أي حكم بديل  يُجافي قواعد الرحمة والإنسانية ، وقد تكرس هذا المفهوم إلى أبعد حد مذهل ، وهكذا تكرر خذلان مصر في عهد عبد الناصر للتجربة الديموقراطية في السودان .

الأزهري من التصوف للزعامة

كان السيد إسماعيل الأزهري صوفيا بالوراثة فقد بدأ حياته في الخلوة، بسبب انتمائه لعائلة من عائلات الصوفية الكبرى في السودان ونسبه في هذه العائلات معروف ومذكور ومقدر. وقد تلقى تعليمه الأولي على يد جده لأبيه السيد إسماعيل الأزهري الكبير الذي كان شخصية معروفة ذات نفوذ وتقوى واحترام ونشاط.
عاش السيد إسماعيل الأزهري حياة طبيعية بسيطة خلت من القسوة والسطوة والعنجهية والاستبداد وأنجب ابنا وخمسا من البنات، وترك سيرة حسنة وذكرا طبيا عند كل من عرفوه، وباستثناء حبه لمصر فإنه لم يتورط في أي محور عربي، ولم يكن تابعا لأي  من العرب أو الغرب ، كان أنموذجا للاستقلال والاحترام والأداء النظيف النقي.
كان السيد إسماعيل الأزهري أنموذجا للزعماء الوطنيين الذين يكتسبون الزعامة من القواعد الشعيبة بفضل ديناميتهم وجاذبية أفكارهم وإجادة عرض هذه الأفكار وقد بدأ حياته المهنية بعد أن انقطع عن الدراسة في كلية جوردون التي التحق بها وهو في السابعة عشرة من عمره (1917) وعمل بالتدريس في مدرسة عطبرة الوسطى وأم درمان، ثم نال بعثة للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت وعاد منها 1920 فكُلف بالتدريس في كلية جوردون وفيها أسس جماعة للمناظرة، وعندما تأسس مؤتمر الخريجين انتخب أمينا عاما لهذا المؤتمر (1927).
كانت الفكرة من مؤتمر الخريجين أن يكون شبيها بحزب المؤتمر الهندي الذي تؤول إليه أمور السياسة المحلية بعد تحررها من الإنجليز، و ذلك في تقليد (مُهَندَس غربيا ) لتجربة الوفد المصري ، وقد شهد هذا المؤتمر مناقشات ومجادلات نمت من الوعي السياسي السوداني ومن عناصر التربية السياسية والفهم الديموقراطي وأضافت هذه النتائج إلى ما عُرف عن السودانيين من حب للثقافة والاطلاع وحب للجدل والنقاش، وتحديث آرائهم بما يتماشى مع التطورات العصرية وهي خصال لا تزال بارزة في المجتمع السياسي السوداني ونُخبته، كما أنها صفات تُعطي لهذه النُخبة تفوقا بارزا على النُخبة المناظرة في مصر على الرغم من علو صوت النخبة المصرية وكثرة ادعاءاتها وعلو منبرها 

حزب الأشقاء

ومع تطور الحركة السياسية السودانية وتمايز مواقفها تجاه قضية العلاقة مع مصر فقد تأسس حزب الأشقاء في 1943 معبرا عن عقيدته في الوحدة مع مصر، وفي ذلك العام جمع السيد إسماعيل الرئاستين حيث أصبح رئيسا لمؤتمر الخريجين ورئيسا لحزب الأشقاء، وقام بأولى زياراته إلى مصر، وبعدها بثلاث سنوات اختير رئيسا لوفد الأحزاب المؤتلفة فيما سمي وفد السودان لحضور مفاوضات في مصر بشأن السودان.
وقد تواكب مع هذا التطور المؤسسي للحركة السودانية أن تشكل ما سُمي بالمجلس الاستشاري لحكومة السودان 1944، كما أقام الإنجليز ما سمي بالجمعية التشريعية في 1948 فقاد السيد إسماعيل المظاهرات الوطنية لمقاطعة هذه الجمعية.
لما قامت ثورة 1952 وجدها الأزهري وأقرانه فرصة ذهبية لإنجاح مساعيهم في الوحدة مع مصر إذ كانوا أصدقاء وزملاء سن للرئيس محمد نجيب (الذي ولد عام 1901 بينما ولد السيد إسماعيل الأزهري عام 1900 وكذلك ولد الفريق عبود 1900) وفي ظل الحماس الوحدوي أعلن عن قيام الحزب الوطني الاتحادي في الوقت الذي كان فيه نجيب رئيسا للوزارة، وانتخب الأزهري رئيسا لهذا الحزب الوطني الاتحادي.
بناء على اتفاقية تقرير مصير السودان التي وقعت بين مصر وبريطانيا في فبراير 1953 أجريت الانتخابات البرلمانية في نهاية العام ففاز الحزب الذي يرأسه السيد إسماعيل الأزهري بالأغلبية بما كان يدل على أن الوحدة مع مصر تتدعم وتتكرس بكل الوسائل. بل إن الأزهري نفسه فاز في دائرة أم درمان الجنوبية على منافسه السيد عبد الله الفاضل المهدي وكان هذا في حد ذاته دليلا ساحقا على شعبية الأزهري وعلى اقتناع السودانيين بالوحدة مع مصر.. 
وهكذا كون إسماعيل الأزهري أول حكومة وحدة وطنية من حزبه الوطني الاتحادي في 1954 على غرار ما فعله سعد زغلول في وزارة الشعب الأولى في 1924، وبهذه الصفة حضر الأزهري مؤتمر باندونغ 1955 جنبا إلى جنب الرئيس جمال عبد الناصر.

الهتاف بسقوط عبد الناصر

على صعيد موازٍ كانت تداعيات أزمة الديموقراطية في مصر في 1954 قد أثرت تأثيرا مباشرا على السودان إلى حد خروج المظاهرات الهاتفة بسقوط عبد الناصر والضباط الأحرار وبضرورة عودة محمد نجيب وهكذا أعيد محمد نجيب فيما عُرف بأزمة مارس 1954 ريثما تمكن عبد الناصر من إعادة تنظيم صفوفه والغدر به وبالإخوان المسلمين في نوفمبر 1954، وكانت هذه هي نقطة الافتراق السوداني حيث كان الشعار المرفوع علانية: هل تقبلون بعبد الناصر وصلاح سالم وتُضحون بالسودان وحرية السودان؟ وهكذا تراجعت أوراق السيد إسماعيل الأزهري ومكانته وجبهته بسبب سياسات عبد الناصر وزملائه.
وفي المقابل فإن الرسميين المصريين من الضباط الأحرار كانوا يرتبون أمورهم في اتجاه الخلاص من السودان وهو ما كان الأمريكان يشجعونهم عليه ويدفعونهم إليه بكل طريقة،  وكان هذا هو الذبح الناصري الأول للزعيم إسماعيل الأزهري .ولم يعد أمام الأزهري إلا أن يوافق الجماهير على رغبتها في الخلاص من حكم العسكر في مصر وأن يرفع مع محمد أحمد المحجوب زعيم المعارضة السودانية في ذلك الوقت علم الاستقلال السوداني المكون من ثلاث ألوان مختلفة تماما عن ألوان العلم المصري الثلاثة التي انتشرت بعد ذلك في الجمهوريات العسكرية العربية (سوريا العراق واليمن وليبيا إضافة إلى مصر) وقد اختار السودانيين لعلمهم الاستقلالي ألوان الأخضر والأصفر والأزرق، وكان من نتيجة الاستقلال أن سقطت حكومة الأزهري الموصوف بالاتحادي وقامت حكومة عبد الله خليل.

انقلاب عبود

وبالطبع فلم تكن القيادة الناصرية لترتاح إلى نشأة تجربة ديموقراطية مجاورة له، وهكذا فإنه بعد عامين وشهور من الاستقلال السودان جاء انقلاب الفريق عبود ضد حكومة عبد الله خليل، وضد كل فرقاء الحياة المدنية، وكان هذا هو الذبح الناصري الثاني للسيد إسماعيل الأزهري. 
ومع أن الفريق عبود لم يكن بقسوة عبد الناصر ولا سيطرته، فإن الأمور كانت تسير في دخول العسكريين إلى السلطة وصعوبة خروجهم منها، ومع هذا فإنهم أخرجوا بتضافر المدنيين وثورتهم في 1964 بعد ما اعتقل إسماعيل الأزهري نفسه مع عدد كبير من القيادات السياسية وأرسلوا للسجن. وهكذا عادت الديموقراطية وبدأت التجربة (أو المرحلة) الديموقراطية السودانية الثانية، ففي 1965 فاز السيد إسماعيل الأزهري في الانتخابات التي أجريت في دائرة أم درمان الغربية وانتخبه البرلمان كأول رئيس دائم لما سمي بمجلس السيادة وهو المنصب المعادل لرياسة الجمهورية، بينما تعاقب محمد أحمد محجوب والصادق المهدي على رئاسة الوزراء.
شهدت هذه الفترة انعقاد أشهر مؤتمرات القمة العربية وهو مؤتمر الخرطوم 1968 حيث نجح محمد أحمد محجوب ومعه الزعيم إسماعيل الأزهري في إتمام الصلح بين عبد الناصر والملك فيصل وإقرار السياسة العربية بعد هزيمة 1967 متمثلة فيما عُرف من الصمود والتعاون والتصافي . وبذل الأزهري مع محمد أحمد المحجوب جهودا مذهلة في تأييد عبد الناصر ونظامه ودعم موقفه السياسي.. بيد أن نكران الجميل سرعان ما تحقق فجاء انقلاب النميري في مايو 1969 لينهي التجربة الديموقراطية السودانية الثانية، وليمثل الذبح الناصري الثالث للأزهري.
 وضع انقلاب العقيد جعفر النميري (الذي سرعان ما رقّى نفسه لواء على عادة القادة الانقلابيين) الزعيم إسماعيل الأزهري رئيس الجمهورية نفسه (رغم تقدمه في السن) في سجن كوبر دون أن تتدخل مصر لاستضافته لاجئا أو لتخفف عنه هذا التعسف غير المبرر من العسكريين.
وسرعان ما توفى الزعيم إسماعيل الأزهري في أغسطس 1969 دون أن يجامله النظام الناصري بكلمة واحدة في التأبين فضلا عما فشل فيه عن عمد من إنقاذه من السجن والمهانة على يد مجموعة الرئيس جعفر النميري التي كانت في بدايتها يسارية الطابع.

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com