كان الأستاذ مصطفى صادق الرافعي إماما من أئمة البيان بلا جدال، وقد عاش في عصر حفل بأئمة البيان لكنه من بينهم كان بمثابة الذروة في البيان من حيث الألفاظ والتراكيب والمجاز والتشبيهات والصياغة والموسيقى الداخلية. نعم كان الأستاذ الرافعي إماما في الموسيقى الداخلية التي يحسها كل قارئ ولا يقدر عليها إلا نوادر النوادر من الكتاب.
كان الأستاذ مصطفى صادق الرافعي شبيها تماما بالموسيقار العبقري بيتهوفن الذي ألف مقطوعاته المعجزة وهو أصم، كذلك كتب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي آثاره المعجزة وهو أصم، وكانت مقطوعات الأستاذ مصطفى صادق الرافعي شبيهة بمقطوعات بيتهوفن من حيث أثرها الموسيقي في نفوس من يقرأها ومن يسمعها على حد سواء، نعم فقد تجاوزت آثار كفاءة نثر الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ما تمتاز به أبيات الشعر من تأثير إيقاعي إلى ما يمتاز به النثر الحر المطعم بالبديع من أثر يحسه القارئ بنفس الدرجة التي يحسه بها السامع.
ومع هذا فإن عبارات الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في بنيانه البياني الرائع لم تكن في حاجة إلى القارئ أو المتلقي ذي الكفاءة الخاصة في قراءة النصوص كما أنها لم تكن في حاجة إلى القارئ أو المتلقي ذي القدرة الخاصة في فهم النصوص وإنما كانت في ذاتها معبرة مشرقة شارحة مضيئة لكل من عرف العربية حتى من غير أبنائها. بدأ الأستاذ مصطفى صادق الرافعي حياته الأدبية شاعرا معتزا بقدراته فلما لقي الاعتراف بهذه القدرات قاده الفكر إلى معاركه ثم إلى مدارجه، وظل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي يتصعد في مدارج الفكر حتى بلغ الذروة في كل ما تناول من موضوعات درسها وحللها واستبصرها واستنبطها واستبطنها واستقرأها واسترجعها واستصفاها واستقطرها وكون فيها رأيه الفذ الذي صاغه في عباراته المدهشة.
لم يكن الزعيم سعد زغلول باشا وهو الذواقة الأول في العصر الحديث يبالغ حين وصف كتابة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بأنها كالتنزيل أو كقبس من آي الذكر الحكيم، فالحق أنك لا تستطيع أن تجد أحدا تأثرت كتاباته بالنص القرآني على هذا النحو الذي أحرزه الأستاذ مصطفى صادق الرافعي باقتدار وتمكن. تقارن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بالأستاذ عباس محمود العقاد فتجد أن سعد زغلول سبقك إلى حل المشكلة فاختار للأستاذ العقاد لقب الكاتب الجبار أي الذي يصول ويجول ويقلب ويتقلب وينتصر ويتحقق على الرغم من صعوبة أسلوبه وتأثر هذا الأسلوب بما يعالجه صاحبه من الموضوعات المتعددة بينما تجد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي محتفظا بالتفوق في إشراقه وتوهجه وتدفقه وحماسه وعزمه وتصميمه، وتجده قاطعا في حكمه بعد المناقشة، لا يعطي للجدل قيمة إلا من حيث هو وسيلة حدد هو لا غيره مداها ومأتاها، وذلك على النقيض من الأستاذ العقاد والآخرين الذين ينظرون إلى الجدل على أنه جزء لا يتجزأ من أطروحاتهم واستنتاجاتهم.. كأني أقصد أن أقول إن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي كان أميل من العقاد إلى اليقين الذي تحبه النفس البشرية سواء في ذلك نفس الحائر ونفس المؤمن المهتدي.
تقارن موسيقى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بموسيقى الدكتور طه حسين فتحس بالفارق بين مقطوعات بيتهوفن متمثلة تماما في كتابة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي وتحس في المقابل بموسيقى الفواصل والظلال والخلفيات التي تمثلها موسيقى كتابة الدكتور طه حسين. تقارن موسيقى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بموسيقى الأستاذ أحمد حسن الزيات فتجد الزخارف في موسيقى الزيات تزاحم النص في مشارفه وتتخلى عنه في أجزاء متعددة من لبابه، وكأنك ترى أثر التعليم الأزهري مع التعليم المدني وهما يزاحمان ثقافة القراءة والاطلاع والمناظرة بينما تجد موسيقى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي صافية المنبع والمورد على حد سواء، وهي مع هذا غنية ثرية بحركات السلم الموسيقي وتقلباته كما هي ثرية بالتعبير عن النزعات الدقيقة لا الملامح العامة في الموقف فحسب.
ونذهب إلى مقارنة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بالأستاذ أحمد أمين فتجد الأستاذ أحمد أمين قد طوع قلمه لما استشفته نفسه من المعاني، وتجد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي قد طوع نفسه لما يريد قلمه أن يعبر عنه من المعنى، فإذا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي يأخذ من قلبه ليعطي نفسه لتعطيك، وإذا بالأستاذ أحمد أمين يأخذ من نفسه ليعطي نفسه ليعطيك. ونذهب إلى مقارنة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بالأستاذ إبراهيم المازني في جملة كاشفة فنجد الأستاذ الرافعي إذا تعابث تخابث ونجد الأستاذ المازني إذا تخابث تعابث فالرونق عند الرافعي كفيل بأن يخطف بصرك من التدفق عند الأستاذ المازني وقعود معاني الأستاذ الرافعي بالمعني يكاد يسبق تقافز المعنى ذاته في نص الأستاذ المازني.
تقارن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بالدكتور محمد حسين هيكل باشا فتجد الأستاذ الرافعي يتوثب قبل أن يتثبت بينما نجد الدكتور هيكل يتثبت قبل أن يتوثب لكننا نجد تثبت الرافعي يؤكد توثبه بما لا يقل عما نجده من فضل تثبت هيكل حين يسعفه في توثبه. تقارن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بالأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي فتجد جوهر ومظهر الفارق بين المقطوعات الموسيقية الصغيرة وبين السيمفونيات، بل قل إنك تجد الفارق بين السونيتات والسيمفونيات حتى إنك تلمس في كتابات المنفلوطي وآثاره طابع نسيج الحرير المستوى الناعم على حين تجد في عمل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي طابع النسيج المتعقد عن قصد ليؤدي أدواره فتجد فيه نسيج الكريب بديلا عن حرير المنفلوطي، ونسيج الصوف التويد بديلا عن الصوف الإنجليزي كما تجد الأنسجة المجدولة تقوم بما تعجز عنه الأنسجة المزوجة. ومع أن الرافعي نسيج وحده فإنه هو النسيج الذي لا يجهد أحد نفسه في بلوغه.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا