كان سوكارنو من جيل محمد نجيب فقد ولد عام 1901 (وولد محمد نجيب عام 1902) وهكذا كانت علاقة سوكارنو بالرئيس جمال عبد الناصر المولود عام 1918 تتجاوز في أبجدياتها الأولى عناصر الندية إلى عناصر الأبوية، ولم يكن هذا أمرا غير معهود فقد كان نهرو من مواليد 1889 وكان تيتو من مواليد 1892 لكن علاقة سوكارنو بحكومات مصر أو بالبيروقراطية المصرية لم تكن لها جذور طويلة تاريخيا مثل علاقة نهرو فقد كان نهرو يعرف مصر والوفد ويقتدي هو وسلفه وزعيمه غاندي بالزعيمين سعد زغلول ومصطفى النحاس. وكانت المصادفة قد جعلت الفروق بينهما عشر سنوات في مصفوفة متوالية.
فقد ولد سعد في 1859 وغاندي في 1869 والنحاس في 1879 ونهرو في 1889 أما سوكارنو فإنه بحكم انتمائه للإسلام أدرك صعود وازدهار تيار الوفد المصري كفكرة وأدرك الثقافة المصرية والعربية في عصر كانت بلاده تمثل امتدادا محبوبا للمدرسة المصرية في الثقافة والفكر حتى إنه يمكن القول بأن إندونيسيا كانت في ذلك الوقت مصرية الفؤاد والهدى والعقل والتعليم والكتاب، وليس أدل على هذا من أن وزارة المعارف المصرية ومكتبات القاهرة ودور نشرها كانت هي التي تتولى إنتاج الكتب الإندونيسية المعتمد عليها في المدرسة والجامعات والشارع والمكتبات على حد سواء، وكانت المؤسسة الثقافية المصرية النهضوية الأهلية أو الحرة متمثلة في مجلتي الرسالة والثقافة وأخواتها تربط إندونيسيا بأوثق العلاقات بالنخبة الليبرالية الصاعدة في مصر في ذلك الوقت وكانت أيقونة هذا التوحد تتمثل في الشاعر العربي الحضرمي الإندونيسي علي أحمد باكثير الذي هو أول من كتب الشعر العربي الحر والذي هو رائد المسرح الملحمي.
كان في وسع نهج أحمد سوكارنو أن يظل مهيمنا على السياسة الإندونيسية طيلة عهد خلفه سوهارتو الذي جاء بعده بانقلاب هادئ صوره للناس على أنه جاء بموافقته وتسهيل الأمر له، ولكن سوهارتو (1921- 2008) كان عسكريا متلامسا بالكاد مع السياسة والوطنية ولم يكن يؤمن لا بالتأصيل ولا بالتاريخ ولا بالتمجيد وهكذا فإن مع فترته التي طالت في حكم إندونيسيا (منذ 1967 وحتى 1998) كان سوهارتو يتصرف وكأنه حريص على أن ينفي سوكارنو من الوجود المعنوي شأنه شأن كل عسكري لا يؤمن إلا بنفسه ولا يؤمن إلا باللحظة.
وفضلا عن أن سوهارتو نفسه حتى وإن كان تنفيذيا ناجحا فإنه لم يكن رجل حضارة ولا رجل حركة وطنية ولم يكن له أن يفهم ما يمثله منصبه في دولة مثل إندونيسيا بمكانتها المتقدمة في العالم الإسلامي والعالم الآسيوي وقد وجد نفسه مثل كل معاصريه ينزلق من التودد المحسوب للاتحاد السوفيتي إلى السير في ركابه ثم يغير اتجاهه إلى تقبل الوجود الأمريكي ويتحرك من مواقف تقلل من قيمة الاستقلال في حد ذاتها بل كان يتحرك إلى مواقف أخرى لا تمانع في المحاور.
وكان الرئيس سوهارتو شأن الرؤساء العسكريين من قصيري النظر ضحية للإصابة بخرافات من قبيل تنظيم أو تحديد النسل وأهمية هذا التحديد للتنمية استنادا إلى الهراء المتمثل في نظرية القنبلة السكانية.. الخ وقد سمح لأمريكا أن تمارس سياسات تعقيم الشعب الإندونيسي من أجل تقليل أعدادهم، على نحو ما فعلت في كثير من البلدان الإسلامية تحت شعارات براقة من قبيل مكافحة المجاعة أو تخطيط التنمية أو التوافق أو التعاون مع سياسات صندوق النقد الدولي. وعلى هذا النحو أضاع سوهارتو كثيرا من ميراث أحمد سوكارنو الوطني المتدفق أصالة ووطنية وإسلاما وشرقية، ولما طالت فترة سوهارتو كانت كفيلة مع الزمن بما أسميناه إبعاد اسم سوكارنو عن مكانته التي يستحقها عن جدارة كرجل إندونيسيا القومي العظيم.
لكن دهاء التاريخ يصحح كثيرا من الأوضاع، فإذا عهد سوهارتو ينتهى نهاية تدينه ولا تشرفه، وتنتصر التوجهات التي كان الرئيس سوكارنو نفسه أول من ألقى ببذورها ونما جذورها، ويعود الحديث عما كان سوكارنو يتحدث عنه بل إن ابنة سوكارنو ميجاواتي تفوز برئاسة إندونيسيا في انتخابات حرة وتصبح هي الرئيسة الرابعة لإندونيسيا، وتعيش إندونيسيا السنوات العشرين الماضية في تفاعلات إيجابية متوالية تمكنها مرة بعد أخرى أن تتجاوز أخطاء سوهارتو القاتلة وأن تستعيد هويتها الإسلامية شيئا فشيئا، وأن تستعيد أيضا مكانتها الدولية بين كبريات دول العالم باقتصاد منتج، وعلاقات اقتصادية قائمة على الاستثمار والتعاون لتصبح إندونيسيا كما كانت في عهد أحمد سوكارنو حرة طليقة بل طليعة أسيوية رائدة وواعدة.
من الطريف بعد هذا كله بل من المهم أن نذكر بكل وضوح وأسى أن الأدبيات المصرية الناصرية حصرت حديثها عن سوكارنو فيما تردد عن قيام المخابرات المصرية ذات مرة من الوصول إلى مخدعه وهو فى أحد فنادق القاهرة، وتتنوع الكتابات عن هذه القصة ما بين مزاعم بطولية للمخابرات (كذبها مصطنع وصدقها مفتقد) في قدرتها على السيطرة على زعماء العالم عن طريق إغرائهم أو إغوائهم بالجنس إلى السيطرة عليهم من خلال السيدات المتعاونات، وهو أسلوب بال أو عتيق لايزال بعض الناصريين للأسف الشديد يفخر بنجاح المخابرات فيه. وفى كتب مصرية أخرى أقل شوفونية أخرى فإنك تجد هذا الحديث يتظاهر بالتلطف فيذكر أن مصر الرسمية كانت تستجيب لرغبات ضيوفها الأجانب، وفى مراجع أخرى أيضا نجد هذا الحديث عن غرام بعض القادة بالنساء والجنس. لكن الطريف بعد هذا العبث كله أنك إذا فتحت مرجعا من المراجع التي تتناول حياة أحمد سوكارنو فستجد للرجل نفسه 9 زيجات، وكانت ابنته الرئيسة ميجاواتي من إحدى هذه الزيجات.
ربما أنك تقرأ المعلومة للمرة الأولى وربما أنك معجب من حالة التكلس الشعبوي المسيطرة على تاريخنا في العلاقات الدولية والأخوية، وما أحاط بها من فشل على جميع المستويات. على أننا نستطيع أن نتجاوز كل هذا الرهق المصري الناصري فنذكر الجانب المضيء وهو أن الفنان صبري راغب رسم لوحة بورتريه للرئيس أحمد سوكارنو. بقي حديث مهم وهو أن إندونيسيا في بعض المراجع التاريخية لا تعرف بهذا الاسم فقد كانت تسمى بجزر الهند الشرقية، وأن ما يعادلها من اسم جزر الهند الغربية موجودة في أمريكا اللاتينية، وقد اصطلح على أن اسم الهند هو الأقرب لتسمية أي قطر آسيوي بعد العرب والفرس والأفغان وقبل الصين واليابان، ولهذا فلا تعجب إذا قلت لك إن اسم إندونيسيا في المراجع الأوروبية كان: جزر الهند الشرقية.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا