الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة نت / إسرائيل في أسوأ أوضاعها الإستراتيجية.. فهل العرب مدركون؟

إسرائيل في أسوأ أوضاعها الإستراتيجية.. فهل العرب مدركون؟

لن أدخل في مقدمات طويلة يعرفها القراء بأفضل مني، بل سأدخل مباشرة إلى الطرح الذي أقدمه عبر محاور واضحة. وأبدأ فأسأل أي إسرائيلي أو مصري أو مراقب للأحوال: هل تشعر إسرائيل الآن بالأمان من ناحية الجبهة المصرية بالقدر الذي كانت تشعر به في نهاية عصر الرئيس حسني مبارك، حين وصل التنسيق الأمني إلى مدى متقدم وواضح وصريح، وكانت الأمور تسير بتؤدة وروتين هادئ لا يعكر صفوها شعار ولا شجار؟

الإجابة لا؛ رغم كل ما تسمعه إسرائيل من حديث الانقلاب المصري عن السلام الدافئ، ورغم كل مظاهر طاعته وطواعيته لها، بل رغم كل ما تقدمه لهذا النظام من العون على المستوى الدولي والإقليمي والأفريقي، وفي ملفات الاقتصاد والأمن وحقوق الإنسان، وما تدعم به علاقته ومكانته في الولايات المتحدة والغرب الأوروبي كله.

ورغم هذا كله؛ فإن هذا النظام الانقلابي المصري عاجز عن أن يقدم لإسرائيل طمأنينة حقيقية أو أن يوحي لها بالأمن المستقر. وفي مقابل هذا؛ عادت العداوة الشعبية المصرية إلى التأجج بدرجة لا تقل عن ذات الدرجة التي كانت موجودة ما بين 1967 و1973، حيث كان الشعب المصري يحس بأن وجوده ووجود إسرائيل لا يجتمعان ولا يمكن أن يجتمعا.

ومن الملاحظ أن أحد أسباب هذا التأجج قد تمثل في التصريحات الإسرائيلية المراهقة، وتغريدات الكوادر الإسرائيليةالمستحدثة في مواقع التواصل الاجتماعي، التي أسهمت في إحياء كل مخاوف المصريين واستعداء كل غرائزهم ومخاوفهم واستذكار كل آلامهم وشكوكهم.

لم يكن الحال على هذا النحو في عام 2009 أو 2010، لكنه أصبح الآن أمرا واقعا يتواكب مع مظاهر التبعية المفرطة التي يُظهرها النظام الانقلابي، دون مقابل ودون مردود حقيقي في المستوى الجماهيري. ومثلا فإن موضوع بيع الجزيرتين (تيران وصنافير) أعاد ذكرى الشهداء وذكرى الحروب وذكرى الصراع وذكرى الاغتصاب، وذكرى المجازر وبحر البقر ودفن الجنود المصريين أحياء.

وعلى سبيل المثال أيضا؛ فإن فخر إسرائيل بأشرف مروان أعاد التذكير بضرورة الثأر. وعلى سبيل المثال ثالثا؛ فإن نغمة التفوق التي لا تفتأ الصحافة الإسرائيلية ترددها كانت تستدعي الاستعداء الكلي من حيث أرادت مجرد استدعاء التاريخ فحسب.

أما مواقف إسرائيل من غزة ومن المسجد الأقصى فكانت كفيلة بأن تجعل المؤمنين بالسلام يخفون إيمانهم، لأنه أصبح بمثابة دافع للسخرية منهم ومن سذاجتهم حين يظنون أن إسرائيل تشارك فيه بينما هي تقتل العزل والأطفال، وتعتدي على المقدسات الإسلامية الصميمة بدون أي مبرر.

أنطلق من مصر إلى الجبهة التقليدية الثانية في سوريا؛ فأجد إسرائيل قد ورطت نفسها عن قصد أو من غير إدراك كامل في التصوير الأخطر لطبيعتها، وهي أنها قوة غاشمة مغتصبة تطلب من العالم أو المجتمع الدولي أن يتورط معها في الاغتصاب بدون أدنى فائدة لهذا المجتمع.

ولك أن تقرأ مشاعر أي دبلوماسي أو سياسي غربي اشترك في المفاوضات أو المؤتمرات المنعقدة بشأن سوريا، حيث يجد إسرائيل تقحم نفسها على قضايا الأمن في بلد مضطرب بثورة شعبية وحرب أهلية يشنها النظام الأسدي على أبناء شعبه، فإذا بإسرائيل -التي تؤمّن نفسها (كما تقول) بوجودها في الجولان منذ خمسين عاما- تطلب من العالم أن “يؤمّن” لها هذا “التأمين” الشاذ، بينما أهل البلد الأصليون يفتقدون الأمان من حكومتهم التي شنت عليهم الحرب.

وتفرض إسرائيل على روسيا وإيران وتركيا وأميركا وأوروبا واقعا إضافيا لا مبرر له، من أجل أن تستقوي بهذه الدول على نظام يستند في وجوده إلى إيران أو إلى روسيا، ومن دونهما فلا وجود له. ثم إن الصورة العامة أبانت للجماهير المتابعة ما كنت أقوله -ولا يتصور العرب صوابه- من أن نظام بشار الأسد يعمل لتأمين إسرائيل قبل أي هدف آخر.

وهنا أصبح الفهم الدولي لقضية سوريا مرتبطا لأول مَرة بحقيقة مُرّة، وهي أن الأزمة السورية -ومن قبلها الأزمة اللبنانية- ليست إلا نتيجة مباشرة لوجود إسرائيل، حتى وإن بدت في ظاهرها غير ذلك. وهكذا تدحرجت إلى ساحة التفكير الإستراتيجي حقيقة من الحقائق التي ظلت مخفية تماما طيلة سبعين عاما (أي منذ 1948)، كما ظلت مستورة جزئيا طيلة خمسين عاما (أي منذ 1967).

ولم تنكشف حقيقة إسرائيل وحدها، بل انكشفت معها حقيقة كيانات لبنانية وسورية وفلسطينية صورت نفسها في معسكر الثورة، فإذا هي من معسكر العدو الإسرائيلي نفسه.. ومع سماع قعقعة السلاح فقد توارت جعجعة الإيديولوجيا لتختفي الشعارات البراقة وتظهر الحقيقة مُرّة..

ومن الجدير بالذكر والتأمل أن سياسات قيادات العصر الذي شهد موجة الشعارات البراقة كانت تخدم إسرائيل، بأكثر من هذا التزلف الذي تقدمه قيادات سياسية في وقتنا الراهن.

أنطلق من الجبهتين المصرية والسورية إلى حالة السعودية كنموذج لحالة ما كان يسمى بدول الطوق الثاني، فإذا بنا أمام حالة من حالات التزلف العربي الهادف إلى تحسين علاقاته الأميركية ليس إلا.

فلم يكن المراقبون السياسيون ينظرون إلى السعودية -في ماضيها القريب- على أنها معنية عناية حقيقية ولا جادة بالصراع العربي الإسرائيلي، إلا بالقدر الذي يحفظ لها ماء الوجه ولا يحيلها إلى قوة معادية للحقوق العربية أو قوة مفرطة في الحقوق الإسلامية. وإذا بها منذ عامين تبدأ في الجهر بأنها تبحث عن مصالحها مع إسرائيل، مع أن هذه المصالح لا تتعدى استغلال إظهار الود في تليين وتوثيق علاقات السعودية باللوبيات اليهودية في المجتمع الأميركي، وهي علاقة إستراتيجية قديمة لم تكن في حاجة أبدا إلى مثل هذا الدعم أو التليين.

لكن التاريخ الإنساني علمنا أنه يعرف نوعا من أنواع الإغراء بسعادة وهمية يجري وراءها ساسة مراهقون لا يؤمنون إلا بالمُتع الحسية، ثم إنهم -في ظل افتقادهم للثقافة وروح الحياة الإنسانية- سرعان ما يدورون حول أنفسهم، من أجل تحقيق أهداف لا تمثل لهم نجاحا لكنهم ينشغلون بها حتى تكاد تقتلهم في بعض الأحيان.

على هذا النحو كان ذلك الطراز من الإقبال السعودي الراهن على إسرائيل إقبالا مكشوفا ومفضوحا، ولو أن القيادة الإسرائيلية كانت أكثر رسوخا في عالم السياسة ما كانت اندفعت إلى إبداء السعادة بهذا الإقبال المفضوح، لكنها ظنت أن هذا الإقبال يُحسب لها مع أنها لم تبذل في تحقيقه جهدا ذا بال.

ثم إنها لم تجد مانعا في الاحتفال بالتفوق في الحظ، وأصبح وضعها في هذه الحالة شبيها بوضع ذلك الرجل الذي كتب سيرته الذاتية فأدرج في وظائفه أنه فاز بيانصيب الجائزة الكبرى التي تمنحها مؤسسة رعاية المكفوفين، مع أن الفوز باليانصيب ليس مؤهلا وليس وظيفة وليس سابق خبرة.

لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي -بطبعه المحب للاحتفاليات والحرص على نسبة أي نجاح لنفسه- صوّر خطوات الإقبال السعودي على إسرائيل على أنها خطوات واثقة في طريق الاستجابة الطبيعية لسياساته الذكية، مع أن الأمر في حقيقته المجردة من البروباغندا أبعد ما يكون عن هذا التصور.

وقل مثل هذا عن الاحتضان الإماراتي لإسرائيل والاحتضان الإسرائيلي للإمارات، وهو احتضان مظهري يجلب في كل خطوة من خطواته مزيدا من الاحتقان في فهم العرب العاديين لمستقبل عملية السلام، حتى يصل إلى جعل هذا المستقبل أبعد ما يكون عن القبول أو الفهم.

ثم إننا نجد -بعد هذا كله- كثيرا من الظواهر المتناقضة في واقعها وتصوراتها، مما لن نتطرق إليه بحكم المساحة المحدودة. وعلى سبيل الاختصار؛ فإننا نجد القيادة الإسرائيلية تتحدث عن سعادتها بصداقة وثقة الحكومات العربية، بينما قدم الكيان الإسرائيلي نفسه للعالم -طيلة سبعين عاما- بوصفه مجتمعا تقدميا، فإذا به -حسب تعبيرات ولهجة نتنياهو- أصبح مجتمعا رجعيا ومضادا للتقدم.

ومع أن الفكر اليساري كان يتوقع أو يقول بأن مجتمع إسرائيل التقدمي يميل إلى الترحيب بالثورة التي ستضمن له تجديدا للمفاهيم، والمساعدة في بناء مستقبل بعيد عن التعصبات والانحيازات المسبقة… إلخ؛ فإن الحقيقة الراهنة التي لم تكن متوقعة أثبتت نفسها على يد نتنياهو بكل وضوح.

وهذه الحقيقة هي أن إسرائيل -تحت قيادته- تمثل ركنا مهما في الثورة المضادة الضاربة عرض الحائط بكل القيم الديمقراطية والتحديثية والتقدمية ودولة القانون وحقوق الإنسان.

وكأن نتنياهو يبشر -دون أن يدري- بأن إسرائيل ستتحول خلال سنوات قليلة إلى نموذج شبيه بالإمارات العربية المتحدة، أو حتى بالسعودية في وضعها الراهن حيث الثورة المضادة هي الأساس، وحيث ثورة الإنسان من أجل التقدم ومن أجل الإنسان هي العمل المجرّم الذي تحاربه الدولة.

وكأن نتنياهو ينقض في هدوء ودأب شديدين كل مقومات التماسك الاجتماعي والفكري في إسرائيل، ساحبا المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع يتميز بالوفرة الجاهزة والتقدم التكنولوجي المظهري، مع نموذج حصرية السلطة وقسوتها المتمثل في الإمارات. وهو أسوأ خيار واجه إسرائيل في تاريخها القصير الذي يبدو أنه يسير إلى نهايته بفضل الغلوّ في العلوّ، على نحو ما قلت وكررت مرات عدة.

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com