الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة نت / أزمة الديمقراطية في السياسة العربية المعاصرة

أزمة الديمقراطية في السياسة العربية المعاصرة

أزمة الديمقراطية في السياسة العربية المعاصرة

مع أن تعريف الديمقراطية معروف وملامحها الفكرية والعملية لا خلاف عليها في الأدبيات العالمية؛ فإن الفكر السياسي العربي تعمد إساءة استعمال المصطلح على نحو غير مسبوق في التجارب السياسية الدولية.

ومن باب إحقاق الحق؛ فإننا نلاحظ أن الجماعات الأيديولوجية لم تشارك على الإطلاق في إساءة استعمال مصطلح الديمقراطية، حتى وإن كانت قد تجنبتها تماما.

وينطبق هذا على معظم جماعات ما يُعرف بجماعات الإسلام السياسي، وعلى حركة البعث العربي وحركة القوميين العرب، وكثير من حركات التحرير الفلسطينية وغير الفلسطينية.

وفي المقابل؛ فإن إساءة استعمال مصطلح الديمقراطية وما يرتبط به قد حدثت على يد ما يُعرف بالنُّظم الثورية المتولدة عن وصول العسكر للسلطة، وتقديمهم لأنفسهم على أنهم ديمقراطيون؛ بما في ذلك ما حدث مرات من النص في اسم الدولة على صفة الديمقراطية، ثم محاربة الديمقراطية نفسها حربا شعواء تحت هذه المظلة.

وليس من شك في أنه كانت هناك أكثر من تجربة سياسية عربية اشتبكت بقسوة مع الديمقراطية وأثخنتها جراحاً، مع حرصها على نسبة تصرفاتها للديمقراطية. لكن أبرز هذه التجارب في هذه المعركة المريرة والمحبِطة كانت التجربة الناصرية.

ومن المدهش -بل المذهل- أن أكثر من ساهم في إضفاء هذا التحول القاسي على الناصرية هي الولايات المتحدة الأميركية. ومن المدهش -بل المذهل- مرة أخرى أن هذا هو موطن العِبرة من التجربة التي تتكرر الآن في أكثر من موقع بمحيطنا العربي، من دون انتباه كافٍ من الساسة والمنظرين.

وليس من قبيل المبالغة القول بأن أولى سمات الفكر السياسي في شخصية الرئيس جمال عبد الناصر كانت كفره التام بالديمقراطية وعداءه الصريحة لها، ونحن نفهم أن هذا هو الطابع المسيطر على العسكريين في كل زمان ومكان؛ لكن الرئيس جمال عبد الناصر كان مبالغا في هذا الكفر وهذا العداء لأسباب جوهرية وأخرى مرحلية.

بل إنه من العجيب أن الأسباب التي كان يُحتمل أن تجعله يُكنّ قدرا من الحب والتقدير للديمقراطية لعبت ببراعة ضد الديمقراطية وضد حبها على طول الخط، ذلك أنه بدأ نشاطه السياسي في تنظيمات الأقلية التي ترفع شعار الديمقراطية بينما هي تعاديها وتكفر بها تماما، بل وتعمل على القضاء عليها انطلاقا من أهداف تبدو نبيلة الغاية والمعتقد.

والمثل في ذلك هو جماعة “مصر الفتاة” التي شكلت الوعي السياسي لعبد الناصر، وحين آثر أن يترك “مصر الفتاة” فإنه ترك الأشخاص ولم يترك الفكرة الفاشية، بل إنه -شأن كل شاب من أمثاله- ازداد اعتصاما بالفكرة ليدين بها الأشخاص أو الزعامات التي رآها أقل من أن تحمل روح الفكرة.

وهكذا فإن الرئيس جمال عبد الناصر -شأنه شأن كل المنشقين عن “مصر الفتاة” من الشباب- كان فاشيا أكثر من المتعقلين، الذين بقوا في “مصر الفتاة” ليحافظوا للحركة -ثم للحزب- على مكانة ما في الشارع السياسي.

وإذا بحثت فيما انتقد به عبد الناصر قياداته السابقة في “مصر الفتاة” مبررا به خروجه عليهم؛ فستجده لا يتحدث إلا عن تجاوزات مالية، أما الفكرة الفاشية نفسها فكانت لا تزال حتى مماته تأخذ بلبه وتشغل فؤاده، بل وتزداد تألقا ولمعانا في ذهنه وذائقته على حد سواء.

وهكذا فقد أضاف الرئيس جمال عبد الناصر كره الفاشية للديمقراطية إلى كره العسكرية للديمقراطية، ثم تبلورت قمة كراهيته للديمقراطية في مرحلة ما بعد نجاح حركة الجيش، عبر ما كان يخرج به من مناقشاته ومناقشات زملائه مع الأميركيين (الذين كان يلتقيهم منذ ما قبل الثورة وفي أعقابها مباشرة).

فقد فهم من هؤلاء الأميركيين -بكل وضوح- أنهم لا يثقون في إمكان التعاون مع حزب الوفد لسبب جوهري، هو أن الوفد كان يفوز في الانتخابات بسهولة، ومن ثم فإنه كان يؤمن بالشعب ويحرص على أصوات الناخبين.

ولهذا السبب فإن الأميركيين كانوا يصرحون لعبد الناصر بأنهم لا يرحبون بالانتخابات لأنها ستأتي بالوفد، بل وأكثر من هذا فإنه فهِم -بكل وضوح- أن تأييدهم له مرتبط بقدرته على تأجيل الانتخابات والتسويف بها، حتى لا يعود الوفد إلى الحكم واتخاذ القرار.

نحن نفهم -من برجنا العاجي الآن- جوهر السبب في أن الأميركيين لم يكونوا على استعداد للتعامل مع قوة وطنية تستند إلى صندوق الاقتراع، لكننا سنكون متجنّين على عبد الناصر إذا طالبناه بأن يكون واعيا لهذا العداء الأميركي لإرادة الشعوب، حين كان في المرحلة السنية التي كان لا يزال فيها حين تناقش مع الأميركيين.

ونحن نعرف ونفهم أن الأميركيين كانوا يشغلون الوقت بما يتحدثون به عن الإنجاز التنموي، وعن إلحاح الحاجة إلى الإنجاز من أجل رفع المستوى الاجتماعي والاقتصادي.

ونعرف بالطبع أنهم كانوا يعزفون السيمفونية القائلة بأن الإنجاز لا يمكن أن يتحقق في ظل روح الحزبية التي تنتقد جهود الآخرين، ولا في ظل الديمقراطية التي تتطلب التصويت وموافقة البرلمان، ولا في ظل بقاء هذه الزعامات الليبرالية القديمة وما تمثله من صراعات على المصالح.

هكذا أصبح الرئيس عبد الناصر -بشبابه وبقلة خبرته وبفهمه المتأثر بتوجهه الثوري (اليميني أو الفاشي)- أسيرا للفكرة التي مؤداها أن الإنجاز التنموي يتطلب -بل يحتم- التضحية بالديمقراطية، وكان هذا في الواقع هو قمة نجاح الأميركيين في تشكيل وعيه عبر مناقشات مستفيضة، كان معروفا لهم أنها لا بد أن تنتهي إلى هذه النتيجة.

وخد مثلا موضوعا أو إنجازا كالإصلاح الزراعي بكل ما عُرف به في الأدبيات التاريخية والعالمية من مزايا وعيوب، وتأمل معي صورة الرئيس جمال عبد الناصر حين يستمع في الصباح إلى علي ماهر باشا وهو يشرح له عيوب مثل هذا القانون، فإذا به يكتشف أنها هي نفسها العيوب التي قالها له الأميركان في الليلة السابقة.

إن أي زعيم من المخضرمين (من طبقة علي ماهر باشا) سيبديها له، ثم إنه سيستمع إلى الإخوان المسلمين فيذكرون له حكم الشرع تجاه حقوق الملكية، فإذا هو نفسه ما ذكره له الأميركان في الليلة السابقة، وهم يصورون له موقف ما يطلقون عليه مصطلح الرجعية الدينية؛ على حد تعبيرات الاقتصاديين الحريصين على التظاهر باليسارية.

وهكذا استطاع الأميركان أن يؤكدوا ما كانت عقلية الرئيس جمال عبد الناصر قد مضت إلى بلورته، بالسير في الاتجاه الذي يحارب الديمقراطية بلا هوادة من أجل الإنجاز.

وأنت إذا كنت من هواة المسرح، وتسارعت دقات قلبك إحساسا بالخوف عليه وهو تحت هذا التأثير المعرفي المزيف؛ فإنك ستحس أيضا بالتعاطف التام معه مهما كانت تجاوزاته في سبيل ما ظنه واجبا عليه.. ولن تُلقي بالاً لمن يقول لك إنه أحب التسلط لأنه متسلط بطبعه، ولا لأنه عاجز عن العدل أو الفهم أو الاستيعاب.

وهكذا تشكل وعي الرئيس جمال عبد الناصر بعد أن قامت ونجحت حركة 1952 ليكون دكتاتورا مطلقا، غير قابل للعودة إلى أية درجة من درجات الديمقراطية بأية صورة من الصور.

وفي مقابل أزمة غياب الديمقراطية وما ترتب عليها؛ فقد كان أسوأ ما ابتُلي به عبد الناصر هو تنظيماته السرية التي تبدو في بعض الكتابات التاريخية محل إعجاب المراقبين، دون أن يكون لها الحق في الاستحواذ على هذا الإعجاب.
لقد كانت متاعبها أكثر بكثير من فوائدها، لكن عبد الناصر ظل مقتنعا بضرورة هذه التنظيمات بحكم انتمائه السابق وانتماء أقرانه للعمل السري (في النظام الخاص للإخوان أو في الحرس الحديدي أو في التنظيمات الشيوعية… إلخ)، أو بحكم إعجابه بهذه النماذج من التنظيم الهادف المحكم، أي إنه تنظيم ذو هدف محدد وطبيعة محكمة.

ومن عجائب الحياة -التي لا يندهش لها المشتغلون بالأدب- أن كل المصاعب والانتقادات التي وُجهت إلى الرئيس جمال عبد الناصر وتجربته -في حياته وبعد مماته- جاءت ممن انضووا تحت راية هذه التنظيمات ونظائرها، وفي مقدمتها التنظيم الطليعي ومنظمة الشباب الاشتراكي.

صحيح أن هذه التنظيمات لم تصبح تنظيمات معارضة للرئيس عبد الناصر ونظامه، لكنها أصبحت بمثابة المورد والمعين الذي وفّر الأدبيات والحركيات التي كانت ضرورية لتشريح ونقد ثم تمزيق صورة التجربة الناصرية.

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com