الأستاذ أحمد الصاوي محمد هو المشروع الأول لمصطفى أمين، فإذا كان رأيي الصريح أن مصطفى أمين هو الصحافة والصحافة هي مصطفى أمين فإن أحمد الصاوي محمد هو مصطفى أمين المبكر (ولد أحمد الصاوي محمد 1902 وولد مصطفى أمين 1914) وإذا كان مصطفى أمين قد نقل إلى مصر تجربة أمريكا الصحفية مع تطويره لها فإن أحمد الصاوي محمد هو الذي نقل تجربة فرنسا الصحفية مع تطويره لها، والفارق بين أحمد الصاوي محمد ومصطفى أمين هو الفارق بين فرنسا وأمريكا كما أن الفارق بين مصطفى أمين وأحمد الصاوي محمد هو الفارق بين أمريكا وفرنسا.
إذا كان مصطفى أمين قد نجح في بناء المؤسسة الكبيرة المتصدرة للساحة فإن أحمد الصاوي محمد سبقه إلى بناء المؤسسة الصغيرة المقدرة في الساحات كلها. يختلف الرجلان اختلافات كثيرة في الحضور والعلاقات والتأثير والتوجيه والأستاذية والعصبية والحزبية والانحيازيات لكن أحمد الصاوي محمد كان يمتلك نواة كل ما امتلكه مصطفى أمين، ولو لم يظهر مصطفى أمين لبقيت الصحافة المصرية في العصر الجديد في حدود إطارها الثقافي المتشكل برؤية أحمد الصاوي محمد: قصة صحفية جاذبة، وكتابة جادة متنوعة، وإعلاء للذوق الراقي، وشفافية متاحة للقارئ، وحبا حقيقيا للجديد في كل ميدان، وترويجا للمستحدث في كل مجال.
أحمد الصاوي محمد الأديب الرحالة والناقد الذواقة هو الذي اتسع بالصحافة لتشمل كل تجليات الأدب السردي وبخاصة القصص القصيرة، كما أنه هو الذي طوع الصحافة لتقدم التجارب الشخصية المميزة في المهنة وفى العلم ولنذكر أنه هو الذي احتفى بالدكتور حسين فوزي وما كان يكتبه من موضوعات في علوم البحار والاستكشافات والفن مما لم تكن الصحافة العربية تتطرق إليه، وأحمد الصاوي محمد هو المشجع الأول لتوفيق الحكيم وأحد المعلمين البارعين لنجيب محفوظ وجيله، وهو الذي صنع مجد درية شفيق كما أنه هو زوجها وعاشقها. وأحمد الصاوي محمد هو الذي جعل للرحلة وأدبها مكانا مرموقا في الصحافة، وهو الذي جعل من الصحافة ناديا راقيا تتصل فيه رسائل القراء من الرجال والسيدات على حد سواء بالمحرر، ويتصل المحرر بقضاياها. أحمد الصاوي محمد هو رئيس التحرير الهادئ من دون معارك، والمنفذ من دون ضوضاء، والمنجز من دون ضجيج.
كانوا يتناقلون إن أحمد الصاوي محمد إذا ألف ترجم وإذا ترجم ألف، وأظن أنه هو الذي ابتدع هذا التعبير واصفا لنفسه، وأظنه صنع هذا الصنيع ليتسامى علي فكرة تسلط الذات وعلى فكرة عبودية الانفراد، وليجعل المعرفة الإنسانية كما هي في الحقيقة حقا مشاعا للجميع، ولو أنه على سبيل المثال شغل نفسه بالحرص على تسجيل وحصر وفهرسة كل ما نحته أو صاغه من مصطلحات أو تعبيرات قابل بها النصوص الفرنسية لكان واحدا من المُعجميين الكبار، وهو كذلك بالفعل، لولا أنه كان مشغولا بما هو أكثر من هذا وهو نجاح فكرة المؤسسة.
أحمد الصاوي محمد هو صاحب شعار أنت مع الصاوي تكسب دائما، وهو شعار خاطب به القراء الذين يمولون صحافته بالشراء، وكان صالحا أيضا لمخاطبة الكتاب الذين يمولونها بالمواد الصحفية، والواقع أنه كان صادقا ودقيقا ومنصفا للحقيقة في هذا التعبير، كما أنه نجح في تحقيق ما يدل عليه الشعار من معنى واضح وهو ضرورة خضوع مؤسسات الصحافة والثقافة لتقييمات الانتشار والجودة والقبول.
للأستاذ أحمد الصاوي محمد كتابات قيمة ومشهورة عن باريس تسبق كتبي الثلاثة عن باريس بزمن طويل، ولو قدر لي أن أتخلى عن معرفتي بالحقيقة التي أنا جزء منها وقارنت بين الإنتاجين من حيث النصوص والبيان لقلت بلا أدنى تردد إن كتابة الأستاذ أحمد الصاوي محمد عن باريس هي الأولى بأن تكون كتابة أستاذ الطب أو عضو مجمع اللغة العربية أ والمؤرخ ففي كتاباته الباريسية من سمات هذه الوظائف التي أشغلها أضعاف الأضعاف مما في كتابتي المتواضعة والبسيطة عن باريس التي آثرت فيها التآزر بين اللقطة والمفارقة، وبين الانطباع والذكرى.
للأستاذ أحمد الصاوي محمد دور كبير في الثقافة المصرية المعاصرة بقصصه ورحلاته وصحافته وريادته وتشجيعه، وسيعود الدارسون إلى تقصى دوره عندما ينتهون من تناول ما أقحمت الصحافة نفسها فيه من القضايا السياسية التي لم يكن للصحافة فيها إلا المعاناة فحسب، بل بسببها ضاع الحديث الأهم عن دور الصحافة المعاصرة في الفكر العربي المعاصر وفي التاريخ العربي المعاصر.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا