كان الأسقف مكاريوس (1913-1977) صديقا تقليديا وحميما لمصر في عهدي الرئيسين عبد الناصر والسادات، وقد حكم بلاده وهو رجل دين وبملابس رجل الدين من 1955 وحتى 1977 باستثناء فترة الانقلاب العسكري الذي نجح في استبعاده من الحكم في 1974 لكنه عاد إلى الرئاسة وأنهي الانقلاب. يبدو لي أن السياسة العالمية متمثلة في ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية الخفية والقاهرة استطاعت أن تحد من أثر وقوة ومتانة علاقة عبد الناصر بالأسقف مكاريوس وهي العلاقة التي كانت مفيدة جدا للعرب وفلسطين، وكان الأمريكان ينفردون باستئصال زعماء الدول النامية المتحررين واحدا تلو الآخر دون أن يستطيع عبد الناصر (ورفاقه الآخرون) أن ينقذوهم، وقد حدث هذا مع أكثر من 10 زعماء كان منهم لوممبا ونكروما.. إلخ.
ويبدو أن مكاريوس كاد أن يلحق بهؤلاء مع صمت إجباري تام (وغير معروف) من الرئيس عبد الناصر. أعتمد في هذا الاستنتاج على شواهد وأمارات كثيرة منها شهادة السفير صلاح شعراوي وهو أوثق الدبلوماسيين المصريين في جيله علاقة بقبرص، فقد كان عضوا في سفارتنا في اليونان من يونيو 1959 وحتى أكتوبر 1960، وانشغل بالقضية القبرصية مما رشحه للانتقال إلى قبرص منذ أكتوبر 1960 وحتى 1962 وهي فترته الأولى في قبرص، أما فترته الثانية فكانت كما ذكر هو نفسه في مذكراته من يناير 1969 وحتى إبريل 1973.
كان شعور صلاح شعراوي تجاه الأسقف مكاريوس متسقا مع الشعور المصري العام الذي كان يتمتع بعلاقة حب بهذا الرجل الذي كان يقف دوما مع الحق العربي وقد عبر صلاح شعراوي عن انطباعه عن إخلاص الأسقف مكاريوس لمصر ومحبته لها بقصة تمثل القمة في الاستشهاد المؤثر على مثل هذه العلاقة:
“كان الأسقف مكاريوس عظيمًا في قيادته، مخلصًا لمبادئه، محبًّا لمصر وشعبها، ولم يكن يضع كرسي الرئاسة هدفًا لذاته بل وسيلة لتحقيق قناعاته ومن أهمها ألا تكون قبرص معادية لجيرانها أو تساهم في تشكيل خطورة على سلامتهم، كان مؤمنًا بحق هذه الشعوب في الوحدة والتحرير وبحق الفلسطينيين في أرضهم.. كان الأسقف شخصية تستحق الاحترام والتقدير. أحب مصر وأحبته. وأذكر ما قاله لي أحد الوزراء القبارصة عن شعوره تجاه مصر، إنه في يوم وجد متاعب في اجتماع لمجلس وزرائه فلم يتردد الأسقف بقوله (إن استمررتم على هذا المنوال سوف أتجه إلى البلد الذي أحبه ويحبني سأتجه إلى مصر)”.
وقد روى صلاح شعراوي في مذكراته على استحياء ما نفهم منه دون أن يذكر هذا بصراحة أن علاقة نظام الرئيس عبد الناصر لم تبق بالدفء التي تصوره الروايات الشعبية والإعلامية المتاحة، وعلى سبيل المثال فان السفير صلاح شعراوي قام بما كان متوقعًا منه في شجب الاعتداء على الرئيس القبرصي في 1969 والتعبير عن الفرح بفشله؛ وكان حريصًا على أن يجعل مصر تبدي موقفها الرسمي أيضًا، فأبرق بهذا إلى مصر، لكن أياما ثلاثة مرت دون وصول أية برقية من الرئيس عبد الناصر:
“…. في يوم الحادث أرسلت برقية إلى الوزارة بها (ملخص) عنه وفي البند الرابع منها ذكرت أن برقية من السيد الرئيس سيكون لها وقعها الطيب على المستوى الشخصي والعام. وبالطبع لم تكن الصحافة على علم بزيارتي للأسقف يوم الحادث والتي قمت فيها على مسئوليتي بتقديم تهنئة الرئيس عبد الناصر. وتوالت على الأسقف برقيات التهنئة من جميع زعماء العالم ولكن لم تنشر عن وصول برقية الرئيس عبد الناصر ومرت ثلاثة أيام دون وصولها مما أثار تساؤل الجميع”.
وفي مقابل هذا الصمت المثير للتساؤل فقد قدم صلاح شعراوي جانبًا آخر من النجاح المصري الذي تحقق على يد “بنات البلد” دون أن يسعى هو إليه، ودون أن يصدق الأمريكان أن تلقائية المصريات البسيطات وعفويتهن يمكن لها أن تفعل هذا الفعل الدبلوماسي المؤثر الكفيل بإفساد الصورة التي كانت أمريكا تريد تثبيتها، يقول السفير شعراوي: “ولكن جاءت نجدة من حيث لا أتوقع ألجمت الجميع. إذ نشرت الصحف صورة لفتاة مصرية تتبرع بدمها للطيار الذي استطاع رغم إصابته البالغة من إنزال طائرة الأسقف المروحية بسلام:
“لم يكن في قبرص عند وصولي لها سوى ثلاث سيدات هن زوجات لأعضاء السفارة وحوالي خمسين سيدة مصرية يطلق عليهن مجازًا فنانات يعملن في كباريهات مدن الجزيرة وقد بذلت جهودًا كبيرة لإخراجهن من قبرص حفاظًا على نقاء اسم مصر في هذا البلد. وبالطبع تيقنت أن هذه الفتاة المصرية هي إحدى هؤلاء الفنانات فطلبت من القنصل إحضارها لكنها ترددت خشية أن أطلب منها مغادرة الجزيرة لكن القنصل طمأنها وجاءت هذه السيدة وفتحت باب المكتب وبلهجة بدائية قالت أنا عملت حاجة غلط يا بيه فكان ردي: لا، فإذا بها تكرر السؤال بنفس اللهجة لا والنبي لا أنت قايل لي أنا عملت حاجة غلط فكلمتها بلهجة: هادئة يا ستي خشي وصبحي وقولي تحبي تشربي إيه”.
“ثم وجهت إليها سؤالًا عن دافعها للقيام بالتبرع بدمائها فكان ردها معبرًا عن الأصالة المصرية بغض النظر عن مصدرها ومعبرًا عن التصاق المصري بوطنه أيا كان موقفه ومركزه في المجتمع إذ قالت يا بيه : بلدنا مظلومة ورئيسها مظلوم وبلاد كتيرة تكرهه، لكن مكاريوس من الناس القليلين اللي بيحبوا مصر ورئيسها، وأنا في شغلتي المهببة دي نفسي أخدم بلدي فمش كتير علي أن أدي شوية دم للطيار اللي أنقذ الراجل اللي بيحبنا”.
“كان الموقف مليئًا بالمشاعر ووجدت نفسي أقول لها تقدري تقعدي في قبرص زي ما أنت عايزة”، “كانت قصة التبرع على لسان كل فرد بل كان بعض القبارصة يعبرون لي عن خجلهم بأن فتاة غريبة تفكر فيما لم يفكر فيه أحد منهم”. “وفي حفل استقبال يبادر أحد أعضاء السفارة الأمريكية أحد الزملاء: كم دفعتم لهذه الفتاة لتقوم بهذه البروباجندا: 5 آلاف دولار، التفت إليه قائلًا هذا منطقكم دومًا تقيمون المشاعر الإنسانية بالدولارات”. “ولم يكن هذا الشخص يعلم أن ميزانية السفارة للأدوات الكتابية والأعلام ثلاثة جنيهات فقط في الشهر”. ويبدو لي أن السفير صلاح شعراوي نفسه لم يدرك حجم غيظ الأمريكيين وحنقهم من فشل خطتهم ومن هذا الدور غير المحسوب ولا المتوقع الذي أدته مصرية بسيطة بتلقائية سلسة.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا