انتشرت في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي نغمة قوية ومتصاعدة تسخر من طريقة تنفيذ عملية اغتيال الشهيد جمال خاشقجي، ووصلت هذه النغمات إلى حد وصفها بأنها أغبى عملية مخابراتية في التاريخ، وإضفاء صفة عدم الكفاءة على كل من نفذوا هذه العملية وخططوا لها واعتمدوها أو وافقوا عليها، بيد أن واقع الأمر يقول إن عملية التخطيط لهذه العملية كانت على درجة غير مسبوقة من الذكاء والدقة وتآزر الأجهزة المشتركة فيها، وهي في الحقيقة أجهزة مخضرمة تنتمي إلى ست دول ذات باع طويل ورصيد متراكم في العمليات الاستخباراتية ولولا أن العملية صادفت من حيث لم يدر منفذوها خطوة لم تكن في الحسبان لمضت مراحل متعددة في سبيلها المرسوم وبهذه المناسبة فإن هذه الخطوة لم تعطل العملية وإنما كشفتها.
صممت العملية لتكون بمثابة الفصل الافتتاحي أو الشرارة الأولى في المخطط الأكبر للانقلاب “السابع” ضد أردوغان، وقبل أن نفصل القول في قسمات هذا الانقلاب فإن من حق القارئ أن ندله على حقيقة يراها ولا يدري كنهها وهي أن الأدوات والآليات الإعلامية التي أعدت على أعلى مستوى للمشاركة في هذا الانقلاب لم تنته حتى هذه اللحظة من تفريغ الشحنات الإعلامية المكثفة التي كانت قد شحنت بها لاستكمال ودعم المخطط الأكبر، وإذا جاز لي أن ألجا إلى مثل دال فإني أقرب الصورة للقارئ بذكر أن الطائرات الضخمة إذا صادفها عطل فني بعد صعودها بفترة قصيرة واضطرت للهبوط فإنها لا تستطيع الهبوط إلا إذا فرغت خزانات الوقود الضخمة سواء برمي هذه الخزانات أو باستهلاكه (حرقه) في الجو إذا كان ممكنا لها أن تدور في الجو بعض الوقت والسبب في هذه التدابير يرجع إلى حقيقة أن هبوط الطائرات وهي محملة بكل هذا الوقود (180 طن في الطائرات الكبيرة) كفيل باحتراق الطائرة تماما على الفور بمجرد ملامستها للأرض.
والواقع أن هذا هو ما حدث في المخطط الذي كان يبدأ باغتيال الشهيد جمال وهو ما كانت وسائل إعلام عربية ستبدأ بإذاعته بصيغة الاختفاء أو فقدان أي أثر للصحفي المشهور الذي لم يعد منذ أيام، إلى الفندق المقيم فيه، وكانت الخطة ستتجاهل تماما ذهابه الى القنصلية السعودية وذلك بالتركيز على أن بعض أهله فقدوا الاتصال به بعدما انشغلوا عليه لعدم رده على الهاتف لأكثر من يومين متتاليين ومن ثم اتصلوا بالفندق الذي فتح غرفته للاطمئنان عليه فلم يجده.. ومن ثم يبدأ التلميح ثم التصريح بأكاذيب ذلك المسلسل الذي رأيتموه يذاع عليكم وأنتم متعجبون من محتواه القائل بان دولة قطر هي التي خطفته لأنه كان ينوي العودة للسعودية للتوبة عما كتبه من نقد خفيف لبعض سياسات ولى العهد الشاب.
وبالموازاة لهذا تبدأ على الفور الحملة المسمومة المشحونة التي تردد أنه لا أمن ولا أمان في تركيا، وأن السياح (وبخاصة العرب) يتخطفون فيها جهارا نهارا ليقتلوهم وليبيعوا أعضاءهم وسرعان ما يتصاعد المسلسل المرسوم إلى إعلان المملكة عبر الفضائيات أنها تطلب من مواطنيها المقيمين والسائحين (حوالي مليون سعودي في المتوسط) مغادرة تركيا على الفور، وتتكرم حكومة المملكة بأن تعلن أنها بناء على توجيهات سموه قد وفرت الطائرات لإعادة مواطنيها إلى مدنهم السعودية دون أن يتحملوا أية تكلفة إضافية لتذاكر سفر جديدة وذلك باعتماد صلاحية تذاكرهم المحجوزة سلفا أيا ما كانت تواريخها.
وفي أثناء هذا الترحيل الإجباري لهذه الأعداد الضخمة فسوف تنشأ فرصة متوقعة لاحتكاكات بين السعوديين المذعورين وبين الموظفين الأتراك المثقلين بالأعباء اللوجستية المفاجئة ويصبح من السهل تأجيج أي احتكاك من هذه الاحتكاكات إلى الدرجة التي يصاب فيها سعودي بإغماء أو أزمة من أزمات مرض السكري وتتطور إلى وفاة، ويتم التعامل بالتصعيد مع هذه الحالة لدرجة إصدار قرار احتجاجي بتعليق فقطع العلاقات السعودية التركية وسرعان ما تنضم الدول الثلاث التابعة كما حدث في حصار قطر كما تنضم قيادات الدول الثلاث المغلوبة على أمرها على نحو ما حدث في حصار قطر.
وهكذا تبدأ في خلال ساعات ملامح انهيار اقتصادي حاد بالحديث المكثف والمختلق عن انهيار (وتوقف) قطاعات السياحة التركية تماما قبيل افتتاح أردوغان لأكبر مطار في العالم مطار السلطان عبد الحميد خان بثلاثة أسابيع فقط وبهذا يضرب الزهو التركي والإسلامي في مقتل يتضاعف أثره بتفاهمات مع جهات متعاونة في واشنطن بالإسراع بتطوير العقوبات الأمريكية على تركيا إلى مرحلة ثانية وثالثة مع المبالغة في تعسف بنودها بسرعة البرق ومع حديث مؤسسات مالية متعاونة مع الصهيونية عن توقع المزيد من الانهيار غير المسبوق في الليرة مع سكب الأضواء بحمي إعلامية على ما يوصف بانه تفجير كردي انتحاري في منطقة سورية قريبة من القوات التركية والمبالغة في تصوير ضحاياه من الأتراك حتى لو لم يكن له أي ضحايا على الإطلاق.
في ذلك التوقيت تردد الفضائيات الغربية غير المحسوبة على السعودية تسريبات من قبيل ما كان قد بدأ يُدس لها من أن خاشقجي نفسه كان سيقابل شخصية سعودية كبيرة استئنافا لجهود بدأها هو وآخرون في لندن من أجل محاولة انقاد الوطن والعائلة. من الغريب بعد هذا أن خطيبة خاشقجي التي كنت سببا رائعا في انهيار الانقلاب وهو في ساعاته الأولى لم تكن معروفة في أوساط الإسلاميين (ولا أعدائهم من المكلفين برصد تحركاتهم) بل كان تواصلها مع العرب في وسائل التواصل الاجتماعي ضعيفا جدا لكن الله جل جلاله جعل هذا الخيط الضعيف جدا سببا لفشل أخبث انقلاب تعرضت له تركيا. ولست أبالغ إذا قلت إن مشروع هذا الانقلاب السابع كان أخبث من مشروعات الانقلابات الستة التي سبقته والتي تتابعت على تركيا منذ خريف 2013.
ليس عيبا أن نعترف أن الإعداد للخطف وللقتل والانقلاب والحملات الإعلامية المفبركة كان إعدادا عاليا فائق الدقة ومحتاطا لكل شيء حتي إن تحمس المنفذين لإتمام مهمة القتل بسرعة البرق دفعهم إلى أن يستخدموا في قتل الشهيد (لما فشلت خطوة خطفه) أربع وسائل كان من المقرر سلفا اللجوء إلى أي منها وليس لها كلها في الخطط البديلة (ما يعرف في مثل هذه الحالات بأنه: الخطة باء) وكانت هذه الوسائل هي التخدير والتسميم والخنق والضرب على الرأس بآلة حادة وذلك كله في مرحلة ما قبل ما كانوا قد استعدوا له أيضا من خطف للجثة بدلا من خطف صاحبها وما كان مخططا من تمويه بدأت بعض ملامحه تتجمع في الروايات من قبيل أن يلبس أحدهم ملابسه ويخرج بها على نحو ما حدث للتغطية على اختفاء موسى الصدر حيث ارتدى مدير المخابرات الليبي الشهير ملابس الصدر ودخل إيطاليا بها بجواز موسى الصدر الذي سجلت عليه الجوازات الإيطالية ختم الدخول بينما كان الصدر في قبره الذي لم يعرف حتى الآن.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا