مع أننا نعرف أن الديك لا يبيض فإن الأسطورة العربية تقول إنه يبيض بيضة واحدة، وتزعم بعض المجتمعات العربية أنها تبيع بيضا تسوقه وتقدمه على أنه بيضة الديك، وقديما سجل بشار بن برد هذا المعني في الشعر الذي هو ديوان العرب حيث قال: قد زرتنا في العمر مرة واحدة. ثني ولا تجعليها بيضة الديك. كنا قد ذكرنا في مدونة سابقة إن شادي عبد السلام (1930 ـ 1986) عُرف علي نطاق واسع بفيلمه الأشهر «المومياء» الذي كتبت عنه الصحف العالمية ما لم تكتبه عن فيلم مصري آخر، كما قلنا إن الاهتمام الزائد بالفيلم أدي هذا إلي طغيان شهرة الفيلم علي عناصر كثيرة في إنجاز شادي نفسه، وعلي تاريخه، فأصبح شادي هو مخرج المومياء، ولم يعد السياق مقتصرا علي الحقيقة وهي أن المومياء كان فيلما من إخراج شادي.
قدم شادي عبد السلام فيلمه الروائي الأول والأخير «المومياء» أو «الليلة التي تحصي فيها السنين»، في عام 1969 في أعقاب مظاهرات الطلبة في 1968 وهزيمة 1967 وما شكلتاه من دعوة عميقة لإعادة النظر في كل شيء فشكل أو صنع (في رأي كثير من النقاد) تيارا جديدا في السينما العربية، حيث تميز بأصالة رؤيته البصرية في خلق الصلة بين مصر الفرعونية ومصر المعاصرة، وقد وجد نقاد آخرون في هذا الفيلم أسلوبا جديدا في طريقة الإلقاء، وحركة الممثلين، والأداء المسرحي الذي أدي به أغلب الممثلين أدوارهم، وذلك التروي الشديد الذي يسرد به الفيلم، ولمسة الغموض والتعقيد في السيناريو التي تحتاج إلي وعي حاد لم يكن للمتفرج المصري عهد به.
ومن المعروف أن هذا الفيلم لم ينجح تجاريا في مصر، وقيلت أسباب كثيرة في تبرير هذا، منها أن شادي فاجأ المتفرج بحوار فصيح لموضوع تدور أحداثه في نهاية القرن التاسع عشر، كذلك كان الفيلم شيئا جديدا في طريقة الإلقاء، وفي الحركة، وبطء السرد، ولمسة الغموض والتعقيد في السيناريو التي تحتاج إلى وعي حاد قيل إن المشاهد المصري لم يتعوده في أثناء مشاهدته للأفلام. وقد حصل فيلم «المومياء» على جائزة جورج سادول (1970)، وجاء في ديباجة الجائزة: «من أجل أصالة رؤيته البصرية بين مصر الفرعونية ومصر المعاصرة»، كما نال جائزة النقاد في مهرجان قرطاج (1970) كأحسن أفلام المهرجان الروائية، وقد عرض هذا الفيلم ولفت الأنظار إليه في مهرجانات: فينيسيا، ولوكارنو، ومهرجان لندن الدولي الذي يعرض أبرز أفلام المهرجانات (1970).
اعتمدت فكرة الفيلم علي حادثة حقيقية في سرقة الآثار الفرعونية وقعت في إحدى مناطق الآثار، وتدور قصة الفيلم حول صراع البطل بين واجبين، واجبه أن يبوح بسر وجود المومياوات في مقابر طيبة (1881) لرئيس البعثة العلمية التي تقوم باكتشاف الآثار، وواجبه نحو قبيلته التي تضطر للعيش علي نهب مقابر الفراعنة لكي تواصل مسيرتها في الحياة، وكذلك لكي يحافظ علي ذكري أجداده الذين لوثوا هذه المقابر، وتتوالي الأحداث في إيقاع هادئ، وحوار بطيء إلي حد ما يستدعي انتباها دائما إلي أن يعترف البطل بسره إلي رئيس بعثة الآثار فيتم بذلك اكتشاف مقبرة «مومياوات طيبة» (1881) في الدير البحري، لكن قبيلته التي تعيش علي سرقة المقابر الفرعونية والاحتفاظ بمكانها سرا تفقد مورد رزقها الوحيد فتلفظه ويبقي وحيدا خائنا وسط قبيلته.
وكان المتشيعون لشادي يقولون إن الحدث في هذا الفيلم لا يعدو أن يكون وسيلة للتفكير في حضاراتنا المصرية العريقة بعد أن تراكمت القرون على وجهها. ويلفت الناقد السينمائي الأستاذ عبد الغني داود النظر إلى أن شادي عبد السلام قال يوما: «إنما أبحث عن جوهر الواقع السيكولوجي، وأهتم بالحركات والتطورات الكبيرة التي حدثت في حياة الإنسان أكثر من تفاصيل حياته اليومية، ونظرتي نظرة شاملة لبطلي كشخصية مصرية وليس كنمط». ويعلق عبد الغني داود علي هذا بقوله: “إنه (أي شادي)… لا يعني في أفلامه بالتعبير عن الحركة إلا قليلا ليحقق التركيز على ما تحتله الأعماق من قوة تمثل التوازن، وما نجده من الإيقاع المتمهل لحركة الممثل والكاميرا بما يتيح للمتفرج فرصة التأمل في العناصر البصرية في أفلامه، والتفكير في قيمتها الدرامية”.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا