كان من حظي الجميل أنني عرفت الفنان شادي عبد السلام وهو قمة يشار إليها بالبنان فلا يزداد إلا تواضعا، وكان آخر لقاء جمعني به هو نفسه اللقاء الأول الذي جمعني بالفنان مصطفى حسين في حفل تسلم جوائز الدولة الذي أقيم قبل وفاة شادي عبد السلام بأكثر من عام. عرف شادي عبد السلام (1930 ـ 1986) على نطاق واسع بفيلمه الأشهر «المومياء» الذي قيل إنه حصل على عشرين جائزة عالمية، وكتبت عنه الصحف العالمية ما لم تكتبه عن فيلم آخر.
وقد أدي الاهتمام الزائد بالفيلم إلى طغيان شهرة الفيلم على شهرة شادي نفسه، وعلى تاريخه، فأصبح شادي هو مخرج المومياء، ولم يعد السياق متوافقا مع حقيقة أن المومياء كان فيلما من إخراج شادي، وكان هذا مثلا بارزا لأثر مبالغة بعض المثقفين واليساريين المصريين في الاهتمام (الوقتي) بعمل ما، وفي بعض الأوقات صور الفيلم على أنه «بيضة الديك»، ومن الغريب أن وفاة شادي المبكرة لم تمكنه من أن يتجاوز هذا الوصف. وسوف نخصص بإذن الله مدونة قادمة للحديث عن المومياء فيلما وفكرة.
قبل هذا فإن شادي يعتبر واحدا من أبرز مخرجي الفيلم التسجيلي في مصر، كما أنه كان شخصية اجتماعية وسياسية نشطة، كما كان في الوقت ذاته على صلة بمهرجانات الأفلام الدولية. لا يعرف القراء اسمه بالكامل الذي ينتهي بلقب مشهور كان يمكن معه أن يكون اسمه المتداول هو شادي الصباغ ذلك أن اسمه الكامل هو: شادي محمد محمود عبد السلام الصباغ.
ولد شادي عبد السلام في الإسكندرية في 15 مارس عام 1930، وتلقي تعليما مدنيا ودرس بكلية فيكتوريا، التي كانت بمثابة مدرسة للطبقة العالية ذات العلاقة بالثقافة الإنجليزية، ومارس في أثناء دراسته التمثيل المسرحي، وتعرف على تصميم الملابس والأزياء التاريخية، وفي نهاية دراسته الثانوية سافر إلي إنجلترا لمدة عام درس فيه الفلسفة والتاريخ، وعاد عام 1950 ليلتحق بكلية الفنون الجميلة قسم العمارة، وقد تخرج فيها عام 1955. أدي شادي عبد السلام خدمته الوطنية في القوات المسلحة مجندا بسلاح الصيانة، حيث أفاد من الحياة العسكرية بعض قيمها مثل النظام، وقوة التحمل الجسماني، والإحساس بالجماعة.
وفي عام 1957 سافر شادي عبد السلام إلي لندن وفيها درس الدراما، وعاش هناك موزعا بين الفن التشكيلي والسينما، واستفاد من معرفة كتاب «مسرح العبث»، وكان يري أن فنان السينما لا يمكن أن تكون له قيمة حقيقية إلا بقدر استيعابه للتراث المسرحي، كما كان في هذه الفترة قد بدأ يدرك سرا من أسرار نجاحه وهو أن دراسته للعمارة قد هيأت له القدرة علي بناء الفيلم بالكامل مع الارتقاء بالقدرة على توظيف العناصر المكونة للمشهد، وعلى منح كل عنصر من الديكور والإكسسوار، شخصية مميزة، كذلك فقد اهتم بالتاريخ من خلال معايشته لمباني القاهرة القديمة.
وقد شهد عام 1958 البداية الجادة لعمله في السينما، حين عمل مساعدا للإخراج مع ثلاثة من كبار المخرجين: صلاح أبو سيف، وبركات، وحلمي حليم، كما صمم مناظر وملابس فيلم «الرجل الثاني» (1959) من إخراج عز الدين ذو الفقار، ثم عمل في أفلام: «وا إسلاماه» (1964)، و«عنتر بن شداد» (1961)، والخطايا» (1962)، و«ألمظ وعبده الحامولي» (1962)، و«شفيقة القبطية» (1964)، و«الناصر صلاح الدين» (1963)، و«أمير الدهاء» (1964)، وبين القصرين» (1964)، و«السمان والخريف» (1967).
وجاءته الفرصة في فيلم «كليوباترا» حيث عمل مستشارا فنيا في تصميم المناظر والملابس، ونفذ كذلك ديكور الجزء البحري للفيلم الأمريكي «كليوباترا» (1962) من إخراج جوزيف مانكفيتش، والفيلم البولندي «فرعون» (1967) من إخراج بيرجي كافليروفيتش، والمسلسل التليفزيوني الإيطالي المصري الفرنسي المشترك «الصراع من أجل البقاء» (1967) من إخراج روبرتو روسيلليني. أما في الفيلم التسجيلي فقد كانت لشادي عبد السلام رؤيته الخاصة، إذ كان يري ألا يقيد بمجرد التسجيل السلبي للواقع، بل له أن يحذف أو يضيف للواقع بعد أن يتفهمه ويحسه ويعيشه ويتعمق أسبابه وصورته. وعقب إخراجه فيلم المومياء مباشرة قدم شادي عبد السلام فيلمه القصير «شكاوى الفلاح الفصيح» (1970) ومدته عشرون دقيقة. ثم قدم فيلمه مأساة البيت الكبير.
وقد شارك شادي عبد السلام في إخراج فيلم «أنشودة وداع» (1970) الذي صور جنازة الرئيس عبد الناصر، وقام بإخراج فيلم «آفاق» (1972) في أربعين دقيقة عن أنشطة وزارة الثقافة، حيث أعاد بناء الواقع بحس تشكيلي يقظ بحيث اختلف مضمون الفيلم عن هذا الواقع، وإن استمد تفصيلاته منه، وصور حرب أكتوبر في فيلم «جيوش الشمس» (1974) بأسلوبه الخاص. أعلن شادي عبد السلام في عام 1976 أنه بدأ تجهيز موضوع فيلمه الروائي الثاني «إخناتون»، لكن إنتاجه لم يتم، رغم أنه، على ما كان يروي، استغرق زمنا طويلا من حياته الفنية، كان مجرد فكرة عام 1971، ثم قدم ملخصا بها لوزارة الثقافة، وقضي ثلاث سنوات في الدراسة والتخطيط، وسبع سنوات في التردد على المسئولين المتعاقبين والاستماع إلى قراراتهم المتضاربة.
ثم عاد شادي عبد السلام إلى الفيلم التسجيلي بعد ثماني سنوات وغاص في موضوعات فرعونية قريبة إلى نفسه، فقدم فيلم «إدفو» (1980)، وفيلم «كرسي توت عنخ آمون الذهبي» (1982)، و«الأهرامات وما قبلها» (1982)، و«رمسيس الثاني» (1986)، باحثا عن مناطق التماس بين الصور الثابتة والبناء المعماري لتراث قدماء المصريين والصور المتحركة، في أسلوب بسيط أقرب إلى التعليمية. ارتبط شادي عبد السلام بصداقة كثير من أعلام الفكر والفن كان منهم أستاذه المهندس حسن فتحي والمهندس رمسيس ويصا واصف. نال شادي عبد السلام كثيرا من التقدير والتكريم ونال جائزة الدولة التشجيعية عن عام 1983. توفي شادي عبد السلام في 8 أكتوبر من عام 1986.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا