هناك حقائق كثيرة في موضوع النقاب والأزياء بعيدا عن الجانب الأهم وهو جانب الحكم الشرعي والحكم القسري وحكم العادة وحكم العسكر، وربما يشعر الإنسان السوي الآن أننا أصبحنا نعاني من الجهل بأكثر من معاناتنا من انعدام اللياقة ومن معاناتنا من رغبة بعض الناس في السخف وثقل الظل وادعاء المعرفة بلا أدنى خوف من مسؤولية الإفتاء بغير علم، وسأكتفي من هذه الحقائق بحقيقتين مهمتين لتاريخنا وواقعنا المعاصر.
أولى هذه الحقائق تتصل باللغة، فقد كان المقصود بالحجاب في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في مصر (والبلاد العربية وغير العربية المتصلة بها وبحضارتها) هو ذلك الذي نعرفه الآن على أنه هو النقاب، وليس الحجاب الذي نعرفه الآن. فإذا وجدت نصا بحجاب سيدة فإنه يعني نقابها، ولهذا السبب فإن الدعوة إلى نزع الحجاب كانت لا تنتهي بالسفور وإنما كانت تنتهي بالحجاب الذي نعرفه الآن، لأنها كانت تنزع النقاب (الحالي) وتحوله إلى حجاب فحسب، ولهذا السبب فإن كل صور السيدة هدى هانم شعراوي المعروفة والمشهورة والمتداولة كلها بالحجاب، فأين هو نزع الحجاب؟
ومن الطريف إن كل المتعالمين والمدعيين ودعاة العصرنة والسفور والعلمانية سوف ينزعجون من هذه الحقيقة التاريخية واللغوية لكنهم لن يصححوا معلوماتهم.. وإنما سيعرضون عن هذه الحقيقة إعراضا تاما وربما يقولون إن صاحب هذه السطور هو الذي ألف هذه الحقيقة مستعينا بواسع معرفته، وفائق قدرته بينما الحقيقة ناصعة ولا تحتاج إلى تأليف وإنما إلى فهم.
ثانية هذه الحقائق تتصل بالتاريخ المُشرف للشيخ حسونة النواوي (1840- 1925) الذي تولى مشيخة الأزهر مرتين الأولى 1895-1899 وفي السنتين الأخيرتين من هذه السنوات الأربع جمع منصب المفتي مع منصب المشيخة، حتى استقال أما المرة الثانية 1906-1909، وقد تشرفت بأن كتبت سيرة هذا الرجل العظيم في كتابي “أصحاب المشيختين” في باب كبير، فقد استقال هذا الرجل العظيم من منصبه حين أيدت الوزارة القائمة أحد القضاة في طلبه من إحدى السيدات صاحبات الدعوى أن تكشف وجهها بما يعني أن ترفع النقاب ليتأكد من شخصيتها أو من وجهها أو من انفعالاتها (أيا ما كان الأمر حتى لا ندخل في تفريعات تتعلق بالحديث في حقوق القاضي والتقاضي وأحكام المرافعات) فامتنعت السيدة عن تلبية طلب القاضي، وتصعد الموضوع إلى أن تداول رئيس الوزراء الأمر فيه مع شيخ الأزهر. وما كان من شيخ الأزهر إلا أن استقال احتجاجا على عدم أخد رئيس الوزراء برأيه في عدم جواز طلب القاضي لما طلب، وعلى حد تعبير الصحافة المعاصرة فإن الشيخ حسونة النواوي رمى الاستقالة في وجه رئيس الوزراء، ومضى لحال سبيله غير مكترث بشيء.
بالطبع فإنه في عهد السكون والهدوء والاستقرار لم يكن أحد ليعلم بحقيقة القصة والسبب الذي دعا شيخ الأزهر إلى الاستقالة وترك منصبه، وكان من الممكن أو من الطبيعي أن يمر الامر دون أن يُسجل أو يُثبت لكن الله قيض لهذه الواقعة وزيرا عظيما حضر الواقعة والمناقشة وسجلها في مذكراته مشيدا كل الإشادة بشخصية الشيخ حسونة النواوي وصلاحه واعتداده بدينه ورأيه، وهو الذي ترك منصبه بكل بساطة وكل عزة وكرامة، ولولا شهادة هذا الوزير الأمين الذي يقدر الحق ما عرفنا عن الواقعة شيئا.
ربما يسأل القراء عن هذا الوزير العظيم ولن نطيل في وصف شخصيته فيكفي أن اسمه سعد زغلول باشا الذي كثيرا ما يستكثر بعض الإسلاميين عليّ الإشادة بفضله ودينه وإخلاصه وللقيم العليا.. بل يذهب بعضهم إلى أن يناقض كل هذا الفضل بناءا على روايات ضيقة الأفق ومحدودة الأدلة. في جميع الأحوال فإننا ننتهز الفرصة لنترحم على الشيخ حسونة النواوي، ومن حسن حظنا أن العلامة الكبير أحمد تيمور باشا أجاد وصفه حين قال: “الحقيقة أن الشيخ لم يعهد عليه ما يشين دينه ولا دنياه، بل عرف بالعفة، وعلو الهمة، ونقاء اليد، لولا جفاء كان يبدو بعض الأحيان في منطقه، وشدة يراها بعض الناس فيه، ويعدها البعض شهامة لحفظ ناموس العلم، وبخاصة مع الكبراء الذين أفسدهم تملق علماء السوء وحملهم على الاستهانة بهذه الطائفة”.
أما الشيخ محمد بخيت الذي تولى منصب الإفتاء بعده فإنه وهو يرثي المفتي الأشهر الشيخ محمد المهدي جاء على ذكر الشيخ حسونة الذي عاصر المهدي وخلفه في المشيخة ثم في الإفتاء كذلك فقال:
فلو لم يكن حسونة العلم بعده .. لفاضت نفوس الناس وهي تهون
ولكن بقاء الشيخ للناس رحمة.. يحض على فعل التقى ويعين
فلا زالت العليا تمد له يدا .. ولا زال للدين الحنيف يصون
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا