عاش الملك فاروق ومات شابًا مصريًّا بكل ما تعنيه الكلمة من المعاني، فقد عاش محبًّا للحياة على نحو ما يحبها الشبان المصريون التقليديون الذين يميلون لحب اللذة عن طريق الاقتناع بالاستماع، لا عن الطريق المتولد من تعود أو من تثقف، أو من تعويد أو من تثقيف، وهكذا كان طابع الملك فاروق المسيطر أنه كان مع كثرة ما يسمعه عما يجلبه شيء ما من اللذة، يجربه فإذا استساغه مضى في التعود عليه إلى درجة الإيمان أو درجة الإدمان أو إلى الدرجتين معًا.
كان قد سمع عن مطعم يجيد صناعة الفول المدمس المتميز في دمنهور فلم يمانع في أن يبذل جهده من أجل الاستمتاع بهذا الفول، وكان في أثناء زيارته الأوربية يسمع عن مزايا أنواع معينة من المياه الغازية محلية الصنع في جنوب فرنسا فكان يسأل عنها في خارج النطاق المحلي الذي تنتج وتوزع فيه. ضربت المثل بهاذين المثلين من الحب المادي لأبتعد عن المقاربة المباشرة لمواقفه المتميزة من قضايا السياسة والإدارة عن عمد، ولأقترب منهما بعد أن اتضحت الصورة في أذهان القراء.
أبدأ بالقول بأن الملك فاروق كان أكثر الزعماء العرب إخلاصًا لقضية فلسطين والفلسطينيين، وأنه بسبب هذا الإخلاص تغيرت المعادلة الدولية على الأرض في بدء المعركة، فقد كانت الحسابات تشير إلى أن قادة العرب متخاذلون شأنهم في هذا شأن صورتهم التي عرفتها القوى الغربية عنهم من قبل، ومن بعد، ومن ثم فإنهم لن يقاوموا تسليم البريطانيين أرض فلسطين لليهود وأن الأمور ستسير محسومة لصالح احتلال إسرائيلي يحل محل الاحتلال البريطاني، ثم يتحدث عن نفسه عن أنه جيش وطني في أرض وطنية على نحو ما ستفعل الجيوش العربية نفسها، وهي تقوم بانقلاباتها العسكرية بعد حرب 1948 وبهذا تتكون في البلاد العربية المحيطة بإسرائيل نظم عسكرية أو متعسكرة تدعي الوطنية لكنها لا تزيد عن كونها وكلاء للاستعمار على حد التعبير الذي صاغه المفكرون الأجانب من قبل أن يستخدمه الشبان المتحمسون في الدول التي عانت من وكلاء الاستعمار.
لكن الملك فاروق وحده كان هو الذي نظر إلى الأمر نظرة أقرب في مضمونها إلى نظرة الوفد و جماعة الإخوان المسلمين و نظرة الشاب المصري النقي الذي لم يتلوث بحسابات السياسة ولا بآفاتها الخلقية الخفية، وإنما وجد الملك فاروق فيما يسمعه (بالأذن أو بالعين) من الفلسطينيين والمسلمين الشرفاء كل الصواب وكل الحق، ووجد هذا الصواب والحق أيضًا فيما كانوا يطالبون به إخوانهم العرب من الجهاد والمقاومة، وناقش القضية مع مكونات ثقافته وأصولها ومع من يستمع إليهم من مثقفيه ومثقفيه، وقرر بوضوح أنه لا بد أن تشترك مصر في الحفاظ على فلسطين.
لم يكن فاروق يدرك مدى ما يمكن أن تصل إليه خيانات القيادات العربية الأخرى من حدود، ولو أنه أدركها ما زاده هذا إلا يقينًا وصوابًا وإصرارا، ولفكر في أن تكون مساهمة مصر مستقلة القرار وبعيدة عن الوقوع أسيرة في يد مزايدات الإجماع العربي، الذي لا يتحقق، وعن ثغرات التهويل العربي لكل نصر وإنجاز ممكن. لم يكن فاروق يتصور أن هذا الموقف الحاسم الذي أتخذه يمثل أقصى درجة من درجات معاداة القوى الدولية المستترة وراء شعارات براقة من قبيل الحفاظ على السيادة، والآمال المشروعة للشعوب، وعدم الاعتداء، وحقوق الإنسان.. إلخ. ولو أنه علم ما نعلمه اليوم من الحقائق الدامغة ما كان هذا العلم قد زاده إلا تمسكًا بالحق ولجوءًا إلى من يستطيع مساعدته في الحصول عليه، ولترك اعتماده على أحزاب الأقلية في جانب وذهب إلى الوفد والنحاس فمد يده إليهما لينقذ فلسطين ولينقذ أرض الإسلام والعروبة.
لكن الملك فاروق رغم كل شيء اقتحم حرب فلسطين غير هياب ولا وجل وجعل الوزارة المترددة في هذا الاقتحام برئاسة النقراشي باشا توافقه، وقد هددها أنه إذا لم تعلن الحرب كوزارة فسيعلنها هو نفسه كملك، وسمح هذا الملك الشاب الذي ابتلي بكل أنواع الظلم في شخصه وسيرته وأسرته للجماعات الإيمانية المسلحة وفي مقدمتها “الإخوان المسلمون” أن تنضوي تحت راية الجيش المصري وأن تحارب تحت هذه الراية، بل إنه بعث بكل ما أمكنه من خبرات وموارد إلى جيش الإنقاذ العربي الذي تكون بدافع الإيمان والمسئولية بعيدًا عن أنياب البيروقراطية، ولم يلق عونًا من ملك من الملوك بقدر ما لقي من الملك فاروق. لم تكن معلومات الملك فاروق عن المؤامرة الدولية قد اكتملت ولا تبلورت ولم تكن هذه المعلومات حتى لو وصلت إلى ما وصلت إليه الآن لتحول بينه وبين هذا القرار العظيم الذي حفظ لفلسطين قدرًا كبيرًا من أرضها في 1948 ولولا هذا التدخل العسكري لضاعت فلسطين كلها من النهر إلى البحر في مايو 1948.
لكن التاريخ، الذي كُتب فيما بعد 1948، صور حرب فلسطين من جانبها الإسرائيلي لا من جانبها العربي الذي حافظ على أرض فلسطين ووجود فلسطين بقدر ما تمكن به الجهد المضطرب أو غير المتآزر لأقطاب السياسة العربية، وفي مقمتهم الملك فاروق، من الحركة ومن الإنجاز أو بقدر ما استطاعوا حفظه. نحن الآن نفهم أن إسرائيل لا تتوقف عن الاستيلاء على الأراضي بقرار أو اتفاق وإنما هي تنتهز كل فرصة وكل ثغرة للتوسع والامتداد وفرض الأمر الواقع بالسلاح، وبالتآمر من بعد السلاح، ولولا أنها واجهت الجيوش العربية التي خاضت ضدها حرب 1948 ما توقفت عن الاستيلاء على كل أرض متاحة لها في ذلك اليوم من النيل إلى الفرات.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا