الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة نت / البدايات العربية في إستراتيجية الحروب المعاصرة

البدايات العربية في إستراتيجية الحروب المعاصرة

تتمثل علاقة العرب المبكرة بإستراتيجية الحروب المعاصرة بوضوح شديد في الموقفين المصريين المتناقضين (أو المتباينين على الأقل) من الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وحرب فلسطين (1948).

ومع الاختلاف التام في الموقف المصري من الحربين؛ فإن الدوافع الإستراتيجية الحاكمة للقرار السياسي كانت -في حقيقة الأمر- تنطلق من عقيدة واحدة، تؤمن بدور واضح في تأمين الوطن من ناحية، وتجنيبه الشرور والمغامرات من ناحية أخرى.

ومن الإنصاف أن نسارع إلى القول بأنه لا يمكن أن يستقيم فهمنا لحرب فلسطين 1948 والصراع العربي الإسرائيلي -منذ تلك الحرب ودور مصر فيها- إلا إذا استوعبنا حقيقة مهمة، وهي أن أدبياتنا التاريخية والصحفية بل وتصريحات الرسميين الكبار ظلت جميعًا في عهد ثورة 23 يوليو/تموز المبكر (التالي لعهد الملك فاروق مباشرة) تصور الإسرائيليين وقوتهم وجيشهم وعتادهم الحربي في صورة أقل بكثير من الحقيقة.

وكأنها حريصة بهذا التصوير على أن تمارس جلد الذات من أجل النجاح في ثنائية التهوين والتخوين معا، وهي ثنائية كانت لازمة إلى أقصى حد لنجاح الانقلابات العسكرية في التموضع في الحياة السياسية العربية، ويكفي في هذا التعبير الشهير الذي لا نزال نردده عن فوز إسرائيل على خمسة جيوش عربية في حرب 1948.

بينما كانت حقيقة الأمر أن الجيش الإسرائيلي (أو ما سُمي العصابات الصهيونية) الذي دخل حرب 1948 كان -حتى على مستوى العدد- أكثر عددًا من مجموع الجيوش العربية الخمسة، هذا فضلًا عن أنه كان أعلى منها بكثير كفاءة من حيث التدريب والتسليح والتأهيل، وأنه كان قد وُجد قبل نشأة الدولة اليهودية، بل واشترك بتكوين مكتمل النمو (سُمي الفيلق اليهودي) في الحرب العالمية الثانية بكل ما أتاحته من خبرة عملية ومران ومواجهة واتصالات.

حين سجل اللواء عبد المنعم خليل (قائد الجيش الثاني في حرب أكتوبر بعد ثغرة الدفرسوار، وقائده أيضا في عهد الفريق فوزي قبل أن يُنقل لقيادة المنطقة المركزية) ما يضيء هذه الحقيقة، وقد أضاءها بالقدر المعقول في كتابه “في قلب المعركة”؛ مرّت مرور الكرام.

لكنني ركزت عليها بما ينبغي في استعراضي لكتابه ومدارستي له في كتابي “النصر الوحيد”، ناسبًا الفضل إلى صاحبه الذي أثبت الحقيقة بالوثائق والأرقام المنشورة التي أهملت الكتابات العربية قراءاتها كالعادة.

وحين نشرت كتابي أثارت هذه الحقيقة كثيرًا من الجدل في صالوناتنا ولقاءاتنا، ثم بدأ (متأخرا جدا) ما يمكن أن نسميه الانتباه لحقيقة الخداع التاريخي الذي لجأت إليه الحكومات العسكرية العربية في تبرير وجودها وبقاء هذا الوجود، وأصبحنا نكتشف أن ما تردد من لغط عن وجود خيانات عربية على مستوى الملوك لم يكن يشمل مصر بأي حال من الأحوال.

وأن الخيانة في الجيش المصري لم تنبت نظريا وعلى مستوى الشائعات إلا على أيدي من كانوا يمهدون للانقلاب، كما أنها -ويا للمفارقة- لم تحدث (فيما بعد هذا) إلا في عهد من تحدثوا عن الخيانة، وعن أن معركتهم في القاهرة وليست في فلسطين.

وقد كانت هذه العبارة -التي لم تنل حظها من التحليل المبكر- صادقة في تصويرها الدقيق لتخلي ضباط الانقلابات العسكرية المبكر عن مواجهة حقيقية مع الصهيونية والقوى الاستعمارية في فلسطين من أجل الاستيلاء على مقاليد الحكم في القاهرة.

حتى إذا ما جاء الوقت الذي أصبحوا فيه مسؤولين عن الدولة -لا الجيش فحسب- استثمروا الصراع مع إسرائيل في تبرير قفزهم إلى السلطة، ثم في تبرير وجودهم واستمرارهم فيها، ثم في دفاعهم عن هذا الاستمرار رغم ما ارتكبوه من الجرائم في حق الوطنية والوطن.

وقد يكون من المنطقي أو من الإنصاف أن نقول أيضا إن الملك فاروق -في موقفه من حرب فلسطين ومن الحرب العالمية الثانية قبلها (أي في مقاربتيْه الإستراتيجيتين)- لم يكن قادرًا تماما على أن يستبصر أو يستبطن -بمساعديه أو بقراءاته- خفايا السياسة العالمية، ولا خفايا المعارك الحربية التي كانت تجري هنا وهناك، ومن ثم فإنه لم يكن قادرًا على ما أصبحنا قادرين عليه اليوم من إلمام واسع وعميق بحقائق كثيرة عن كل ما يجري على الأرض هنا أو هناك.

كانت مشاعر الملك فاروق وحماسته الطبيعية المخلصة للوطنية تحكم موقفه وتطلعاته لتطورات المعارك في الحرب العالمية الثانية، على نحو ما حكمت فيما بعدُ موقفه في قضية فلسطين.

ونعود هنا إلى التذكير بحقيقة رأينا القائل بأن الملك فاروق صُوِّر مندفعًا إلى حرب فلسطين، رغم أن اندفاعه كان مفيدًا ومتوافقًا مع ما يدعو إليه إيمانه بالانتماء للإسلام والعروبة والقيم العليا.

وهذا الحكم باندفاع الملك فاروق صار الآن من باب الظلم الدعائي المعروف السبب، لكننا نلاحظ أيضا أن هذا الظلم المعروف والمفهوم كان قد صور الملك فاروق من قبل هذا مندفعًا أيضًا في قراره السلبي أو المتعقل بعدم المشاركة في الحرب العالمية الثانية إلى جوار الحلفاء.

وذلك رغم أن حزب السعديين -وعلى رأسه أحمد ماهر باشا- كان مندفعًا تمامًا إلى إعلان الحرب بكل ما تملكه مصر من قوة وإمكانات، لكن الملك فاروق لم يجد في إعلان الحرب واجبًا دينيًّا ولا قوميا ولا وطنيا، ولا مصلحة عاجلة أو آجلة، واستشار في هذا كثيرين كان منهم شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد مصطفى المراغي فأكدوا له ظنونه.

وأصبح الشيخ المراغي العظيم هو لسانه المعبر حين صاغ الفكرة ببلاغة حاسمة فقال: إنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وهكذا كان الملك فاروق هو العامل الحاسم الذي منع مصر من الاشتراك بكليتها في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن العامل الحاسم هو قرار أحد من ساستنا ولا من أحزابنا.

لا أبتعد بالقارئ عن الحديث عن موطن الحكمة -أو انعدامها- في قرار الملك فاروق، لكنني أقرب له الأمر بتصوير كاميرا السينما المقتربة من الملك وقد أخذ يطالع تاريخ الدولة العثمانية، التي كان اندفاعها إلى الحرب العالمية الأولى فرصة ذهبية للأعداء المتربصين للقضاء عليها وإنهاء وجودها، ولم يكن فاروق ليغامر بمصر من حيث رأى أثر المغامرة العثمانية وما فعلته منذ سنوات ليست بالبعيدة.

من الحق أن نعترف -من زاوية أولى- بدور الملك فاروق في إنقاذ مصر من الحرب العالمية الثانية، وهو موقف عظيم لملك عظيم لم تجد الدولة العثمانية قبل عشرين عامًا من يقوم لها به عندما بدأت نُذُر الحرب العالمية الأولى، وبدأت الدولتان الألمانية والنمساوية تطلبان من العثمانيين أن يقفوا معها أمام طغيان بريطانيا وفرنسا وروسيا، وهو الطغيان الذي ذاق الألمان والعثمانيون والنمساويون -على حد سواء- قسوته وجبروته وتكراره.

هذا الرأي -الذي أقوله في حق الملك فاروق وفضل الملك فاروق في إبعاد مصر عن الحرب العالمية الثانية- لا ينفي ولا يتعارض مع رأيي الآخر الشهير، الذي أقول فيه إن أكبر خطأ للسياسة المصرية حينها هو ابتعادها بالجيش المصري عن الحرب العالمية الثانية، ذلك أن ابتعاد هذا الجيش عن هذه الحرب جعله يعاني من ذلك الحين من قصور التجربة المعلمة لكيانات الجيوش، والكفيلة بصهر معدنها.

ولهذا فقد ظل هذا الجيش بعيدًا ما استطاع عن المواجهات وعن المبادرات، باستثناء حرب أكتوبر 1973 التي لم يكن منها مفرّ؛ وأصبح هذا الجيش -على نحو ما وصفه به السوفييت- أقرب ما يكون إلى أن يكون جيشًا برجوازيًّا، دون أن يكون لرجاله ذنب فيما آل إليه حال هذا الجيش؛ فلم يكن الخطأ خطأهم وإنما كان خطأ رجال السياسة في ذلك الوقت.

وخلاصة قولي في هذه الجزئية تكمن في رأيين لا ينفي أي رأي منهما الرأي الآخر:

– حافظ الملك فاروق -ومعه ساسة عظماء- على مصر حتى لا تلقى في الحرب العالمية الثانية مصير الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

– قصّر الساسة المصريون -ومعهم الملك فاروق- في استغلال فرصة التعلم والبناء والتدريب والمشاركة والتأصيل والقيادة، التي كانت متاحة للجيش المصري لو أنه شارك في الحرب العالمية الثانية.

ومن حسن الحظ أن حرب فلسطين سرعان ما جاءت لتخطو بالقوات المسلحة المصرية خطوات واسعة في سبيل التوجه الإستراتيجي الصائب.

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com