أبدا الحديث عن ذكرياتي عن رحلتي العراقية السريعة منذ 30 عاما بقصة موحية.. حضرت في بداية عهد الرئيس مبارك جلسة كان أصحابها يتداولون في الطرق التي يستطيعون بها مساعدة أحد الأصدقاء الذين فقدوا عملهم بطريقة مفاجئة، فقال أحد الأدباء النشطاء إنه يعرف أن ذلك الأديب مترجم، وإنه مستعد لأن يأخذ منه الآن عملًا مترجمًا فينشره له في سوريا والعراق في الوقت ذاته، دون أن يسبب هذا أي مشكلة فيما يتعلق بحقوق الترجمة وازدواجية الأجر.
أبديت سعادتي بهذا التعاون بين القطرين فإذا بي أفاجأ بالنقيض وأن السر في هذا الإنجاز يعود إلى عكس ما أعتقده.. فليس مسموحًا في سوريا بدخول أي كتاب نُشر في العراق، وليس مسموحًا في العراق بدخول أي كتاب نُشر في سوريا، وهكذا يمكن للمترجم الموهوب أن ينشر الكتاب من خلال داري نشر في الدولتين، دون أن يمثل هذا أي مخالفة لأي قاعدة!
عشت أيامًا لا أصدق أن تكون هذه هي حالة الدولتين المتصلتين جغرافيًا واللتين يحكمها حزب واحد.. هو حزب البعث! والأهم من هذا أنهما تتزعمان الجبهة التي تأسست ضد الرئيس أنور السادات وضد مصر (بلا مبالغة)، بسبب كامب ديفيد. في ذلك الأسبوع ودون أن أدري، وبسبب تلك الواقعة بدأ إحساسي العميق بالمأزق الذي كان السادات يعانيه، كما بدأ إلمامي بالشئون العربية يأخذ منحنى آخر يبتعد عن النظرية السياسية ويقترب من النظرية الإنسانية.
لا أكون كاذبًا إذا قلت إنني بدأت أدرس حالة الفكر الثوري العربي أو الفكر التقدمي العربي من منطلق لا يقف عند علم الفسيولوجيا (وظائف الأعضاء) وإنما ينطلق إلى تقليب وفحص محض من خلال علم الأمراض (الباثولوجيا).. وقد أدركت كثيرًا من الحقائق وكونت كثيرًا من الأسئلة. وكنت قد عرفت ما لا يتصوره الإنسان، من أن معظم ساسة العراق وسوريا السابقين يقيمون خارج بلادهم، وأن عددًا كبيرًا منهم يقيم في القاهرة، وأن بعضهم يقابلني في الصلاة دون أن أعرف أنه صاحب ذلك التاريخ، وأنهم كذلك يقابلونني في النوادي والمطاعم بل في العيادات والمستشفيات.
بعد هذه المقدمة السريعة أنتقل إلى مقدمة أخرى أسرع منها، وهي أني كنت أتصور في طفولتي أن أول زيارة لي لخارج مصر ستكون دمشق، وكنت بالطبع أتصور أن زياراتي التالية بعد دمشق ستكون لبغداد. ومن الإقرار بالواقع أن أذكر أن هاتين الزيارتين انتقلتا من الموقع الأول والثاني في تاريخ ترتيب رحلاتي إلى ما بعد العشرين.
كانت علاقات مصر ببغداد في ذلك الوقت قد انحصرت في هذه المساحة المرتبطة باليسار العربي والمتياسرين العرب من الأدباء والفنانين، فالمدعوون إلى بغداد هم أولئك الذين سيشاركون العراق في ندواته أو مهرجاناته، وليست هناك برامج سياحية لزوار يزورون بغداد من أجل بغداد، وإنما هم يزورونها من أجل شيء تنظمه الحكومة في بغداد، ومن ثم فإن الحكومة بعلاقاتها وصداقاتها تضمن تمامًا شخصيات وتصرفات مَنْ يأتون إلى بغداد ومدى الولاء الذي يكنونه لها ولنظامها.
كنت أتحين الفرصة لأزور بغداد ودمشق إلى أن جاءت الفرصة في 1989 حين أعلن اتحاد الأطباء العرب عن إقامة مؤتمر ذلك العام في بغداد وعن رحلة متميزة للمشاركة في المؤتمر، ومن العجيب أن عددنا كان كبيرًا بأكثر مما يتصوره أي مراقب، لكن الذين عاشوا الظروف التي وصفتها يدركون الآن أن آلاف الأطباء من كل الأقطار العربية كانوا يتشوقون إلى مثل هذه الزيارة، ويتحينون فرصتها. ذلك أن أحدًا في النظام العراقي لم يكن يعنى بالمهنيين والأطباء عنايته بالصحفيين والفنانين والمثقفين والشعراء.
كان أساتذتي الأطباء المشاركون في هذا المؤتمر من أجيال متعاقبة، لكننا كنا نعرف بعضنا البعض، على الأقل من الصور التي تنشرها الصحف والمجلات لنا، أو من شاشات التلفزيون، وكنا كذلك نعرف انتماءاتنا وعلاقتنا وتوجهاتنا.. وهكذا لم يكن من الصعب علينا أن نؤخر ذكر اسم أكبرنا (مكانة) في بعض المواقف، لأنه معروف أنه من عائلة قريبة من السادات بالنسب والصداقة، كما أننا كنا بالسليقة السياسية نساعد الإخوان المسلمين على أن يبتعدوا عن الرسميين السوريين الذين يحضرون المؤتمر، وكان عدد السوريين كبيرًا ومنهم من أصبح سفيرًا ووزيرًا بعد ذلك… وهكذا.
ومن حسن حظنا أن صادفتنا مناسبة سعيدة، فقد كان مجلس الاتحاد (التعاون العربي) الرباعي بين مصر والعراق والأردن واليمن قد أتم تدشينه لتوه، وكانت زيارتنا عقب تدشينه بفترة قصيرة، وهكذا كانت لنا ترحيبات حارة وتكريمات خاصة، وكنا نتوزع بين أكبر فندقين وطنيين وهما المنصور والرشيد، وإن كنت أتمنى لو كان هناك فندق يحمل اسم المأمون أيضًا.. أما السفاح المؤسس فقد كان من الصعب أن يسمى شيء باسمه.
كان التلفزيون الرسمي حاضرًا بقوة، وكان هو نفسه ـ أي التلفزيون الرسمي ـ الذي يدير الجلسة الافتتاحية من المؤتمر باعتبار الرئيس صدام هو الذي سيفتتح المؤتمر وهو الذي يرعاه، وإن كان قد أناب أحدًا في الافتتاح لكنه استقبلنا في إحدى الأمسيات (أو استقبل عددًا كبيرًا منا). كانت هذه فيما يبدو أول مناسبة علمية (لا طبية فحسب) تعود مصر إلى المشاركة فيها في بغداد بعد أن كانت مقاطعة العراق لمصر تشملها، وكانت هذه المقاطعة العصيبة لمصر في نظر المقاطعين عقابًا مستحقًا على كامب ديفيد.
ولم نكن في مصر قد هيأنا أنفسنا على هيئة وفد وتمثيل رسمي أو شكلي وما إلى ذلك، وإنما كنا تتصرف على أساس أننا أطباء (من تخصصات مختلفة ومتعددة) سنحضر مؤتمرًا طبيًا عامًا بجلساته وندواته فحسب، ولهذا فقد فوجئنا قبيل الجلسة الافتتاحية بالبروتوكول والمراسم وهم يأتون إلى حيث جلسنا تحت علم مصر (ولم نكن قد تصورنا أن هذا سيحدث بهذه الصورة) جاء الرجل ليطلب منا أن نختار من يدلي بأقواله الآن فيما يقابل برنامج صباح الخير يا أمريكا، وصباح الخير يا مصر، وهو برنامج على الهواء مباشرة، بمناسبة أن التلفزيون سيذيع حفل الافتتاح مباشرة. وتفضل أساتذتي بتكليفي بهذه المهمة، وذهبت فتحدثت ويبدو أن خبرة التلفزيونيين العراقيين جعلتهم يقررون استمرار الحديث معي لأطول مدة حتى تأتي مراسم الافتتاح مستغنيين بهذا عن أن يقدموا حوارات غير مضمونة مع ممثلي هيئات ودول أخرى.
بالطبع فإن أساتذتي جميعًا لم يشاهدوا ما قلت ولا بدايته ولا نهايته، فقد كانوا في الكراسي ينتظرون بدء الاحتفال، وكنت أذيع على الهواء مباشرة فلما عدت سألوني ماذا أخرّك طوال هذه الساعة، وماذا فعلت بعد الحوار، فقلت لهم إنني منذ تركتهم وأنا أحاور، فما كان منهم إلا أن ابتسموا للحظ الذي رحمهم من أن يقوموا بما قمت به. أعرف يقينا أنك تريد أن تسألني عن الشعور الغالب على الأطباء وهم يزورون بغداد في 1989، فأقول لك إن هذا الشعور كان يغلب عليه التحفظ بلا تحفز.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
لقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا