استمرت علاقة هذا الرجل العظيم عبد العزيز علي بالعمل السري من أجل الوطن منذ 1910 وحتى 1965. ومن الطريف أن اسمه يذكر في بعض أدبيات عهد الثورة على أنه عبد العزيز على باشا مع أنه لم ينل الباشوية وإن كان قد نال الوزارة كما أن بعض أقرانه نالوا الباشوية. أبدأ بان أذكر شاكرا فضل الله عليّ أن وفقني لكتابة تاريخ العمل الوطني والتنظيمات السرية في القرن العشرين في كتابي الذي اخترت له عنوانا موحيا وملهما هو: “في ضوء القمر“.
في كتابي هذا الذي سرعان ما نفدت طبعته الأولى يتمثل البطل الأول في مذكرات غير مشهورة نشرتها دار المعارف بعنوان الثائر الصامت، صاحب هذه المذكرات هو البطل العظيم عبد العزيز على وهو شخصية ثرية إلي أبعد حدود الثراء، شخصية لا يقل ثراؤها عن ثراء مذكراتها، وعلي الرغم من ثراء المذكرات وثراء الشخصية، وعلي الرغم من أن عبد العزيز علي رجل عظيم جدًّا فإنه، وهذا هو موطن الألم، يحتاج إلي تعريف، وربما كان من المفيد أن نلجأ في التعريف به إلي صدمة تنبه القراء، فنقول إن هذا الرجل يمثل في الحركة الوطنية السرية ما يمثله توفيق الحكيم، أو نجيب محفوظ، أو أم كلثوم، أو محمد عبد الوهاب، أو يوسف وهبي من الجمع بين التفوق والريادة من ناحية، واستغراق أنشطتهم ونجوميتهم في عملهم لمعظم سنوات القرن العشرين من ناحية أخري، ذلك أن هذا الرجل ظل علي صلة عضوية ووثيقة بالتنظيمات السرية منذ بداية القرن وحتي توفي، وكانت له صلات بشريط طويل من الأحداث ذات الطابع السري التي شهدتها مصر، بدءًا من اغتيال بطرس غالي في 1910، وحتي ما يسمى بمحاولة انقلاب حركة الإخوان المسلمين المنسوبة إلي تنظيم الأستاذ سيد قطب في 1965.
بعد هذه الصدمة ربما كان من المفيد أن نستثير الوعي بأن نفعل ما نفعله في الطب من تنبيض صدمة أخري (أي استثارة المستقبلات الحسية بكهربية ينشأ عنها صدمة)، وعندئذ نقول : إن هذا الرجل كان من أوائل الشخصيات التي حرصت ثورة 1952 على الانتفاع بها أو باسمها عقب قيامها ، وقد دخل الوزارة مع مجموعة الحزب الوطني في سبتمبر 1952، لكنه بالطبع وبالطبيعة لم يلبث أن ترك الوزارة في أقرب فرصة وهي الفرصة التي جاءت بعد ثلاثة شهور بالضبط أي في ديسمبر 1952، ويبدو بكل وضوح أنه شعر أن مكانه ليس في صفوف هؤلاء الحكام الجدد، ولا بالقرب منهم، ولا في رعايتهم، بل يبدو أنه، فيما بعد فترة ليست بالطويلة، رأي أن من واجبه أن يقاومهم، فإذا به حسب ما سمحت به معلومات عهد عبد الناصر يشارك الإخوان المسلمين حركتهم السرية التي وصفت بأنها محاولة انقلاب متكاملة أجهضها النظام الناصري بكل نجاح وقسوة في 1965.
كان تكوين عبد العزيز علي تكوينًا مثاليا مــن عــدة نواح، فهو مؤمن بلا تعصب، متدين بلا تنطع، مثقف بلا تفلسف، مجاهد بلا يأس، ونحن نراه محبّا للرياضة، ونراه أيضًا محبّا للفن، ميالاً إلي تقصي أحواله حتي في رحلاته المتعددة التي حدثنا عنها في مذكراته. تحدث عبد العزيز علي عن تكوينه الدراسي والتعليمي مقدمًا صورة شيقة عبر عن طبيعة التعليم المتميز الذي كان حظي به الجيل الذي ولد في نهاية القرن الماضي (ولد عبد العزيز علي في 1895):
“ألحقني والدي في سن مبكرة مع شقيقتي أمينة التي تكبرني سنًا بكتاب رضوان بك أبو الشوارب، بحارة الهدارة التي ولدت فيها، وكانت العائلة تقطن وقتئذ بحارة الصوافة بقرب قسم عابدين، لأتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، ولأحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، فكنت ـ لما حباني الله به من ذكاء وطاعة ـ موضع رعاية واهتمام ناظر الكتاب الشيخ علي عمار“.
“وتعهدني والدي ـ رحمه الله ـ في الوقت نفسه بتحفيظي القرآن الكريم في المنزل، وتهذيبي بآداب وخلق القرآن، واهتم بتقويتي وتقويم لساني في اللغة العربية، وعلمني صغيرًا كيفية الوضوء والصلاة وأمرني بها وراقبني في المواظبة عليها، وأعطاني من نفسه ومن والدتي المثل الأعلى العملي، والقدوة الحسنة، فنشأت ــ والحمد لله ــ نشأة دينية صحيحة، وفي جو إسلامي سليم، وذلك ولا شك أس النجاح“.
“وفي سنة 1905 أراد والدي أن يلحقني بمدرسة حكومية، وتقدم بالطلب إلى مدرسة عابدين الابتدائية، إلا أنها رفضته لعدم بلوغي السن المقررة وقتئذ للقبول، فألحقني بمدرسة فيكتوريا الأهلية بشارع حسن الأكبر خلف سراي عابدين، وأمضيت بها سنة دراسية لأبلغ سن القبول بمدرسة عابدين الأميرية والتحقت بها وقبلت“.
“وكنت بفضل التربية والرعاية المنزلية ـ قبل كل شيء ـ التلميذ المستقيم المجتهد المطيع المتفوق في كل سني الدراسة، المتمتع بإعجاب ومحبة وتقدير أساتذتي وأقراني، بجانب رضا الوالدين“.
“ونلت الشهادة الابتدائية (1910) وكنت أصغر الناجحين سنًا في مدرستي، وكان ترتيبي الأول بالمدرسة والسادس بين ناجحي القطر، ويسعدني أن أذكر بهذه المناسبة عبارة أثلجت صدري وأدخلت الاطمئنان علي قلبي وجهها إلي ممتحن الشفوي في اللغة العربية بعد أن أجبت علي أسئلته حيث قال: «قم يا بنيّ وعد لبيتك بسلامة الله مطمئنًا مسرورًا، فقد أحسنت كل الإحسان وفقت الأقران»، وما كنت ولاشك أصل إلي تلك النتيجة الطيبة لولا تعهد والدي لي بالمنزل، ولولا حفظي لكثير من آيات القرآن الكريم، وكثرة اطلاعي، بجانب عناية أساتذتي بي بالمدرسة، وهذا من فضل الله”.
وقد أجاد عبد العزيز علي تحليل العوامل التي أدت إلي تفوقه في الدراسة، وفي ممارسة الحياتين العامة والسياسية فيما بعد، وهو في مذكراته لا يقدم هذا التحليل منفصلاً عن سياق الأحداث التي يرويها، وإنما هو يستدعي هذا التحليل الجيد حين يجد الموقف الذي يعرضه يتطلب مثل هذا الاستدعاء للكشف عن سر التفوق في شخصيته وفي أدائه، وهو علي سبيل المثال يروي ما لاتزال ذاكرته تحتفظ به من مظاهر تقدير أساتذته له، وما لاتزال ذاكرته أيضًا تحتفظ به من عناصر الجدية في التربية والتعليم في ذلك الوقت، بل إنه يروي مظاهر تقدير زملائه له لما لمسوه من أخلاقه الرفيعة:
“سنة 1910 التحقت بالمدرسة الخديوية الثانوية بدرب الجماميز، وكانت تفضل قبول أصغر المتقدمين لها سنًا، وشعرت أني أنتقل من مرحلة اللا مسئولية إلى مرحلة جديدة تتسم بقدر من الشعور بالجدية في الحياة، والرجولة والوعي والمسئولية، وتملكني إحساس قوي ورغبة ملحة في التهيؤ قدر الطاقة لدور عملي في الجهاد الوطني، وبدأت بجانب الزاد الروحي الذي سلحني به أبواي منذ الطفولة أحصن نفسي بالاستزادة من الاطلاع على كل ما ينمي عندي حب الوطن والحق، وكراهية الاستعباد والظلم”.
“ولمس في زملائي ـ مع صغر سني ـ الاستقامة، والسلوك السوي، والوطنية المتطرفة، ورجاحة الفكر مع حب العمل في صمت وأناة، وبعد عن المن وحب الظهور ـ غرس والدي ـ وكلها فضائل تهيئ صاحبها لحمل المسئولية، وحزت ثقتهم فاختاروني أولاً مندوبًا عن فصلي في لجنة الطلبة بالمدرسة، ثم مندوبًا عن فصول السنة الأولي كلها لأمثلهم في اجتماعات اللجنة التي كان يغلب عليها الطابع السياسي، وأحمد الله أني كنت عند حسن ظن الجميع، وقمت بدوري برغبة صادقة، وعلي أكمل وجه، مما سلط على الأضواء”. ولنا مع عبد العزيز على لقاءات قادمة بإذن الله.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
لقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا