منذ أربعين عاما أي في أواخر السبعينيات من القرن الماضي أتيح لي أن أعرف السيدة بهيجة رشيد وهي في سن متقدمة، كان السبب غريبا على توقع القارئ ومعلوماته العامة، وهو أن هذه السيدة الارستقراطية شاركت العالم المصري الكبير الدكتور على مصطفى مشرفة جهودا عظيمة في حب الموسيقى وتقريبها للجماهير من خلال جهد مؤسسي عظيم في جمعية من جمعيات ما نعرفه الآن على أنه المجتمع المدني، وقد أشرت إلى هذا الفضل وتلك الجمعية وإنتاجها في كتابي عن الدكتور على مصطفى مشرفة، وكانت هي بالنسبة لي مرجعا أمينا ومعينا، ومن خلال معرفتي بهذه السيدة عرفت أيضا مجتمع جمعية هدى شعراوي حيث كانت هي نفسها رئيستها الفخرية.
ومع الزمن عرفت أنها شقيقة القاصة المعروفة الأستاذة جاذبية صدقي كما عرفت بقية عائلتها وشخصياتها الحافلة بالسياسة والنفوذ والمناصب. اسمها الأصلي بهيجة صدقي، ووالدها هو محمود صدقي باشا وزير الأشغال في وزارة زيور باشا لكنها ظلت طيلة حياتها العامة تنسب إلى زوجها حسن بك رشيد، الذي شاركها كثيرا من اهتماماتها الحضارية. كان زوجها ابنا لأحمد رشيد باشا وقد توفي والده وهو طفل فتربى في بيت جدها لوالدتها عبد الحميد صادق باشا بسبب رابطة المصاهرة بين العائلتين.
كانت بهيجة رشيد أبرز المصريات من هواة الموسيقي الكلاسيكية، وقد شاركت مع زوجها حسن بك رشيد (الذي كانت تحمل اسمه) في تأسيس جمعية مصرية لهواة الموسيقي رأسها العالم المصري الكبير الدكتور علي مصطفي مشرفة، وقد نجحت هذه الجمعية في تقديم الكلاسيكيات الموسيقية للجمهور المصري في أماكن راقية، كما نجحت هذه الجمعية في تقديم ترجمات عربية لهذه الكلاسيكيات وكان مشرفة نفسه كما فصلت في كتابي واحدا من الذين ترجموا هذه الكلاسيكيات.
وواصلت جهدها وتوسعت فيه حتى رأست الجمعية العربية لهواة الموسيقي، كما كان لها صالون موسيقي. وقد امتازت بهيجة رشيد بالإضافة إلى جهدها في تقريب الموسيقى الكلاسيكية بنجاحها البارز في جهدين آخرين وطغت شهرتها فيهما على مجال شهرتها الأولى.
كان أولهما هو مجال أغاني الأطفال، وقد تركت تراثا مهما في هذا الميدان. واشتركت هذه السيدة مع زوجها حسن بك رشيد (الذي اكتسبت لقبه كما كررنا القول) في تأليف كتاب «أغاني الشباب»، وثانيهما هو الأغاني والموسيقي الشعبية ، فقد قامت بجهد جبار في جمع الأغاني الشعبية في ثلاثة كتب متتالية، وأكدت في كتابها الأول أن اهتمامها بالأغاني الشعبية يرجع لذكريات طفولة سعيدة في الريف، حيث كانت تقضي أوقاتاً جميلة تستمع لغناء الريفيات علي اختلاف أعمارهن فحفظت تلك الأغاني ورددتها هي وأخواتها مع أهل الريف، ولما وجدت أن كثيراً من هذه الأغاني بدأ يضيع بدأت جهدها الرائد في جمع ألفاظها وتدوينها بالنوتة الموسيقية.
وقد تصدت بصبر وجلد لإنجاز تدوين نصوص الأغاني والألحان، وبذلت من جهدها ومالها ما مكنها من نشر هذا التراث على نفقتها الخاصة، والواقع أنها لم تصدر في هذا الجهد عن حب فقط، وإنما كانت واعية لأثر المتغيرات المعاصرة على البيئة المعنوية للشعب المصري، وكانت تتمتع بغيرة على التراث القيم من الأغاني الشعبية من أن تمتد إليه عوامل النسيان أو التحريف. ووضعت مؤلفا جميلا عن الأمثال الشعبية، كما انتخبت عضواً بمجلس إدارة جمعية الفنون الشعبية (1951). وسرعان ما أصبحت بهيجة رشيد رائدة من رواد العناية بالموسيقي الشعبية، وصاحبة الفضل الأول في تسجيلها. في نطاق أوسع كانت بهيجة رشيد من رائدات العمل الاجتماعي والحركة النسائية في مصر. وقد انضمت لجمعية هدي شعراوي (1925)، وظلت على علاقة وثيقة بهدي شعراوي وجمعيتها حتى أصبحت رئيساً للجمعية بعد وفاة هدي شعراوي، ولمدة طويلة، ثم تنازلت عن الرياسة وعينت رئيساً شرفياً (1985).
كذلك كانت بهيجة رشيد أول رئيسة مصرية لنادي سيدات القاهرة (1946)، وكانت وكيلة لجمعية «حماية المرأة والطفل»، وعضواً في مجلس إدارة جمعية الأمم المتحدة بالقاهرة. ومن مكرماتها الخيرية المتعددة أشرفت على تنفيذ مشروع أول دار حضانة ريفية بقرية سنديون (1951). علي المستوي العربي اشتركت بهيجة رشيد مع هدي شعراوي في الدعوة لأول مؤتمر نسائي عربي، واشتركت في تأسيس «الاتحاد النسائي العربي» (1944)، وعلي المستوي الدولي مثلت مصر في اجتماعات الاتحاد النسائي الدولي. واختيرت عضواً في الاتحاد النسائي الدولي (1961)، واستمرت عضواً بمجلس إدارته تسع سنوات في عصر لم يكن الإعلام المصري يطنطن فيه بمثل هذه المناصب الدولية المرموقة.
بدأت بهيجة رشيد دراستها بالأقصر ثم بالقاهرة (1911)، وتخرجت في الكلية الأمريكية وانضمت لجمعية خريجات الكلية الأمريكية عضواً ثم رئيساً، نالت السيدة بهيجة رشيد كثيراً من التقدير وتم اختيارها لتكون أول أم مثالية عند الأخذ بهذا التقليد، وحصلت علي وسام الكمال (1974)، وعلى نوط الامتياز. توفيت بهيجة رشيد بعد حياة طويلة عام 1987.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا
لقراءة التدوينة من موقع مدونات الجزيرة إضغط هنا