من المسلمات الكاذبة في تاريخنا المعاصر أن أمين عثمان باشا رجل خائن للوطن يستحق القتل والحقيقة أن أمين عثمان كما سنرى من تاريخه كان رجلا وطنيا من الطراز الأول لكن سوء حظه أوقعه فيما وقع فيه من تصوير ظالم له؛ وقد تراكم عليه سوء الحظ من حيث لم يتوقع أحد، كما جاءه سوء الحظ الأخير والحاسم من أن مؤامرة قتله تمت على يد شباب وطني كان منهم الرئيس السادات نفسه، وهكذا فإنه طوال عهد ثورة 1952 كان التصوير الأوتوماتيكي يصوره خائنا.
ومع إيماني بأن السادات وأقرانه الذين قتلوا أمين عثمان كانوا وطنيين فإنني مؤمن أيضا وبدرجة لا تقل قوة بأن أمين عثمان لا يقل عنهم وطنية ولا تضحية من أجل الوطن بل إن أمين عثمان كان من السياسيين القلائل بل النوادر الذين بدأوا يرسمون مستقبل مصر بالاعتماد على العلم والدراسة والاستفادة من الفكر العالمي المعاصر وآليات السياسة والتعاون الدولي المتوقعة فيما بعد الحرب وذلك من خلال جماعة النهضة الوطنية التي أسسها، واتخذ لها مقرا ثابتا في شارع عدلي في شقة لائقة كانت مثابة للقاءات وللاجتماعات والندوات والمكتبة وتنسيق الدراسات وحفظها.
هذه الجماعة الرائدة هي نفسها الجماعة التي القى أمين عثمان باشا في أحد احتفالاتها تلك الخطبة الشهيرة التي جاءت فيها العبارة الشهيرة التي صورها فيلم السادات وفيها العبارة القاتلة حسب تصوير الفيلم والحركة الوطنية من قبله. لكن هكذا هي السياسة والوطنية إذا أصابها التعصب أو الحمية أو ضيق الأقق وفي حالة أمين عثمان اجتمعت هذه العوامل الثلاثة مع عاملين آخرين أو تنافسين مميتين لا يقلان خطورة ولا تسبيبا للقتل المؤكد.
العامل الأول هو التنافس المميت أو بالأحرى التنافسان المميتان بينه وبين مكتشفه وبينه وبين أبرز أنداده. فأما المكتشف فهو مكرم عبيد باشا وأما الند فهو أحمد حسنين باشا. وقد كان ثلاثتهم من خريجي إنجلترا أو ممن أتموا تكوينهم الفني أو التكنوقراطي فيها وكانت علاقات خريجي إنجلترا ببعضهم البعض مميتة ولم تكن كعلاقة خريجي فرنسا ببعضهم البعض أكثر رحابة. ومن الحق أن نقول إن هذين التنافسين مجتمعين كانا كفيلين تماما بإنهاء حياة أمين عثمان على نحو ما انتهت.
كان التنافس المميت الأول بين أمين عثمان ومكتشفه أو أول سياسي عمل معه وهو مكرم عبيد باشا بكل مهارته وبلاغته ولدده المعروف في الخصومة والتآمر والحفر والتتبع والتشنيع والتحريض والتشفي، وقد كان أمين عثمان قد أصبح هدفا ثابتا لمؤامرات مكرم عبيد وظن المتابعون (كما قد يظن قراء التاريخ) أن مكرم عبيد باشا كان يهاجم أمين عثمان ضمن إطار هجومه الواسع على الوفد وقياداته وهو الهجوم الذي لم يترك مكرم سلاحا إلا واستخدمه فيه.
لكن الحقيقة الأكثر أهمية وتأثيرا كانت هي أن أمين عثمان كان قد حل بسرعة واقتدار وكفاءة محل مكرم عبيد في منصب وزير المالية الوفدي بعد فترة قصيرة قضاها كامل صدقي باشا في منصب وزير المالية وكان أمين عثمان في تلك الفترة رئيسا مؤسسا لديوان المحاسبة (للجهاز المركزي المحاسبات) فلما عجز كامل صدقي عن الاستمرار في وزارة المالية حل أمين عثمان محله أو بالأحرى ملأ أمين عثمان الفراغ الذي كان مكرم عبيد قد تركه على حين أصبح كامل صدقي باشا رئيسا لديوان المحاسبة خلفا لأمين عثمان. وهكذا أصبح اسم أمين عثمان يثير أعصاب وأحقاد وأضغان ومؤامرات مكرم عبيد على الرغم من علاقتهما السابقة حين كان أمين عثمان نفسه في شبابه مديرا لمكتب مكرم عبيد نفسه ومنسقا لنفوذه.
وأما التنافس المميت الثاني فقد كان بين أمين عثمان وأبرز أنداده من أبناء جيله وأكثرهم ارتباطا بالعلاقات المصرية البريطانية وهو الرحالة أحمد حسنين باشا رئيس ديوان الملك فاروق، ومن الثابت أن أحمد حسنين باشا كان يحس بالإهانة القاسية بل المميتة بعد نجاح أمين عثمان في إنجاز خطوة عودة الحكم للوفد وعودة الوفد للحكم رغم أنف القصر فيما عرف بأزمة ٤ فبراير ١٩٤٢ ولهذا تتداول الروايات الفولكلورية فكرة أن أحمد حسنين أو القصر أو الملك نفسه هو الذي دبر قتل أمين عثمان من خلال تنظيم سري كالحرس الحديدي إن لم يكن هذا التنظيم السري الملكي هو مشروع الحرس الحديدي نفسه. كما تتداول الروايات الفولكلورية فكرة ملازمة لهذه الفكرة ولازمة لها، وهي أن الثأر لمقتل أمين عثمان قد تم بعد أسابيع قلية على يد الإنجليز أنفسهم وذلك بقتلهم أحمد حسنين في وضح النهار في حادث سيارة عسكرية بريطانية.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا