هذا نموذج بارز لنمط نادر من الفداء عرفته حركتنا الوطنية ثم الإسلامية، آثر كل واحد من أبطاله أن يموت من التعذيب على أن يفشي سر التنظيم الذي ينتمي إليه، وهو في حالة هذا الشاعر العظيم محمد عواد كان التنظيم هو تنظيم الإخوان المسلمين.. وقد مات هذا الشاعر وسر الإخوان معه.
ولد الشاعر محمد عواد بقرية الزوامل، إحدى قرى بلبيس الشرقية، وعمل بالتدريس في إحدى المدارس الابتدائية بالقرب من قريته، تعرف على الإخوان المسلمين في فترة الدراسة، وكان أحد الأعضاء البارزين في تنظيم الإخوان (الجديد) بعد إحيائه على يد عبد الفتاح إسماعيل في منتصف الستينيات، وكان الأستاذ مصطفى الخضيري أحد رموز هذا التنظيم قد اكتُشف اسمه بعد أن اعترف أحد الإخوان عليه جراء تعرضه لتعذيب رهيب.. وبدأ الأمن في البحث عن مصطفى الخضيري.. فتم تهريب الخضيري إلى الشرقية ليكون في رعاية الشهيد محمد عواد.. الذي كلفه التنظيم بحراسة الخضيري كما أسندت إليه في ذلك الوقت مهام التنظيم في محافظة الشرقية مع أمين سعد والشيخ نصر عبد الفتاح. وكان من أبرز مهامه تنظيم المعسكرات الإخوانية.
وقد شاركته جهاده زوجته السيدة ثناء محمد منصور.. وكانت هي الأخرى من قرية الزوامل.. وظلت ثابتة صامدة بعد اعتقاله وبعد اعتقال أبيه وأخيه واستمر أهلها يلحون عليها بالمقام معهم حتى يعود.. فلما تزايدت عليها ضغوط أهلها عادت بعد فترة إلى بيت أبيها، وكانت بين الحين والآخر تذهب لزيارة أهل زوجها، حتى علمت باستشهاده وقد نالها هي الأخرى قسط من الاعتقال.
لما ألقي القبض على الأستاذ محمد عواد ذهبوا به إلى السجن الحربي حيث التعذيب.. واستمر التعذيب يومين، ثم بدأت رحلة النهاية التي رواها سليم العفيفي وآخرون شهدوها بأنفسهم ونقلتها مصادر متعددة وهي رحلة قاسية يشيب المرء من مطالعتها وقد انتهت بأن امسك صفوت الروبي بنفسه براس عواد ورواح يضرب به جدار فسقية المياه حتى هشمه تماماً، ثم أخرجوه من الفسقية فاكتشف الجميع أنه قد مات، وفاضت روحه في صباح الجمعة 20 أغسطس 1965، وبعد أن مات حملوه ودفنوه في الصحراء.. بلا جنازة ولا تجهيز.
ثم ذهبت الشرطة العسكرية بعد مقتله إلى منزله فقبضت على والده وأخبرته أن ابنه قد هرب وأنه سيظل رهن الاعتقال حتى يسلم الابن نفسه وبقي الأب شهوراً طويلة في السجن ثم أفرجوا عنه بعد أن أوهموه أن ابنه قد هرب إلى المملكة العربية السعودية.. وعاشت أسرة عواد سنوات معتقدة أن أبنها قد هرب إلى المملكة العربية السعودية حتى عرفت حقيقة استشهاده بعد وفاة عبد الناصر.. وهكذا أصبح عواد من شهداء بطش عبد الناصر شأنه شأن سيد قطب ومحمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل وإسماعيل الفيومي ورفعت بكر ومحمد منيب.
أما شاعرية محمد عواد فشاعرية فريدة ومتميزة على الرغم من أنها قد تبدو وكأنها تعالج أفكارا مطروقة بصياغات مألوفة لكن تفردها وتميزها يأتيان من الموسيقى الداخلية الصادقة التي تحفل بها فضلا عن صياغاتها الصادقة لمقاربات إيمانية مباشرة المعنى تبدو وكأنها من حقائق العلم المطلقة.
في إحدى قصائده يعبر الشاعر الشهيد محمد عواد باقتدار ووضوح عما نذر نفسه له من الدعوة مستشرفا نهايته الحقيقية التي جاءت نتيجة لهذا التمسك باليقين الذي رباه على الإيمان فيقول في شعر سلس بسيط حافل بالمعاني الجميلة والموسيقى الداخلية المغبرة:
يا دعوة الإسـلام لَنْ أنساكِ
لا لَنْ أميـل على هَـوَايَ هَـواكِ
يا دعوةَ الإسـلامِ نُورُكِ عمَّنَا
والصُبحُ والإشراقُ بعضُ سناكِ
يا دعوة الإسـلامِ إنكِ مَجدُنا
وسبيلُنـا بـالرغـم مِنْ أعـداكِ
أين الأمين أبـو عٌبيدةَ فاتحاً
بابَ الـعـدوّ بجيـشـه الفتـاكِ
فالعدلُ والإحسانٌ فيكِ شريعة
والسِّلمُ والإسـلام من أسمـاكِ
وقد قدم الشاعر محمد عواد وصفا مؤثرا لصور مروعة من مذبحة السجن الحربي الأولى في 1954على يد جمال عبد الناصر في شعر ملحمي مؤثر حافل بالانفعال من قسوة البطش وهمجيته القاتلة وكان مما قال فيه:
عُراة من مـــلابسنا
لنار الحقد تغشانـا
فمنا معشر هلكـوا
ومــاتـوا تحت مرآنـا
ومنا من على نصب تعانقها وحيانـا
سيــــاط الطير ترقبنا
لتنهشن لحم موتـانا
قطيع اليـوم يسمعنــا
من الألحــــان أحـــزانـــــا
وفي قصيدة ميمية بعنوان “شهيد” يعبر الشاعر محمد عواد عن أمنيته الصادقة والملحة في نيل الشهادة فيقول:
ناداه طيف يا عشيق رحابنا أو ما تحب بأن تنال الأنعما؟
أو ما تريد بأن تكون جوارنا في جنة الفردوس تحيا طاعما؟
هذا ابتلاء كي نميز جندنــــا ونرى المنافق فيهم والمسلمــــا
هتف الشهيد بعزة وبسالة سأخوض أوراد الردى متقدما
سأزود عن صرخ الكتاب بعزة، باسم الإله أصول لا باسم الحمى
وإذا الشهيد مضرج بـدمـائـه لمح الخلــــود بقلبــــه فتبسما
وفي قصيدة أخري يراوح الشاعر الشهيد محمد عود في الحديث عن تساميه عن الحياة الدنيا التي لا تحقق منال عاشقها على حد تعبيره: منتظرا ما كان يحس به من اقتراب أجله وقرب نواله للشهادة وهو يعرض بطاغية عصره تعريضا قاسيا لا يدركه إلا من يتأولون النصوص بذكاء:
ومـا الدنيـا وإن خطرت دلالا بمعطيـــة لعــــاشقهــــا منالا
فلا تغررك أيـام عـذاب ففي الأيـام حبـالى
أجنتهــا ستقـــــذفهــا سمومــا ومقبحهـــــا ستنصبـه جمالا
وإن بسمت لمغرور فغـدر وإن أعطتـــه شيئــا فالخبالا
ومن يركن لـزخرفها يــذقها على الأيــــام قطرانــا مسالا
ومن يهجر لذائـــــذها جهــاداً يجد في الخلـــد جنـات ظلالا
ومن ينفق لدعـــوتـــه متـاعـا يـــزده الله مكرمـة ومالا
وفى قصيدة رائية عذبة الألفاظ وكأنها من شعر الغزل والوجدانيات يناجي الشاعر الشهيد محمد عواد نفسه ويعبر عن عقيدته مشبها نفسه بالنسور التي لا يتطلب كثيرا من طعام الدنيا فيقول تحت عنوان ” تجرد”:
قمت كي أرضى ضميري لن أُذل إلى حقير
لن أخــاف من المنـايـا أو أبـــالى بـــــالمصير
لن أضن على كتــــــــاب الله بـــــالمال الـوفير
ســـأجلجل في الأعادي والأذلال كالهصور
إن نفـوني في الحرور فــــــأنــــا نبت الصخور
أبــوا أكلى وشربي فــــأنــــا مثـــــل النسور
قــــــوتها شيء قليــل لا تروم إلى كثير
رثاه الشاعر محمود عبد الخالق الشريف فسماه بشهيد المقطم نسبة إلى المكان الذي يغلب الظن أنه دفن فيه، فقال في قصيدة عصماء ما يشير به إلى طريقة قتله بتحطيم رأسه:
شـهيد الثبات دفين المقطمْ
بـقلب تسامى ورأس تحطمْ
تـعلمت من قمة في رسوخ
“هـضيبي” جيل كريم مُعلمْ
عايشت “قطبا” فألهمت منه
وخـلفت شعرا صدوقا منغمْ
فـهل خلف الظلم شيئا لباغ
وإن مـجـدوه ونـادوه ملهمْ
وقـالـوا له أنت رمز وعز
وكالوا له من صفات المعظمْ
وضـل الزعيم وراء الأديم
وظـل النعيم لمن كان أسلمْ
فـقدتك يا رفيق الشعر لكن
يظل الحب في الآماد معْلمْ
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا