نبدأ حديثنا عن الشيخ إمام في مئويته بأن نشير إلى فضل الأستاذ صلاح عيسى الذي نشر عنه دراسة جيدة بعنوان: شاعر تكدير الأمن العام، دار الشروق، 2007. وفضل الأستاذ أيمن الحكيم الذي نشر كتابا جميلا: مذكرات الشيخ إمام.
الشيخ إمام عيسى (1918-1995) هو أبرز الملحنين التلقائيين والشعبيين وأبرز ملحني ما عرف على أنه «الأغنية السياسية السرية» في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، وربما سينظر إليه مع مضي الزمن على أنه هو أوحدهم فقد بلغ انتشار جهده وتوثيقه حدا تضاءلت معه الجهود الأخرى التي أنكرها أصحابها من باب راحة البال.
ولد الشيخ إمام عيسى بقرية أبو النمرس التابعة لمحافظة الجيزة في 1918 في بيئة فقيرة من بيئات الشعب المصري الكادح. أصيب الشيخ إمام عيسى وهو لايزال طفلا رضيعا بالرمد الحبيبي، ولجأت أمه إلى الداية التي عالجته بحشو عينيه بروث البهائم عدة مرات، حتى فقد البصر تماما. وكان من الطبيعي أن يسلك الطريق الذي يسلكه من كان في مثل ظروفه وهو طريق مؤسسة التعليم والتأهيل التي أوقف عليها أسلافنا أموالهم وأراضيهم من أجل أن تجعل من الشعب المصري شعبا متعلما متميزا وهكذا ألحق الشيخ إمام بالكتّاب فحفظ القرآن في الثالثة عشرة من عمره، وعرف في صباه بقدرته علي التجويد والتلاوة، وعندما أتم حفظ القرآن الكريم في كتّاب قريته، أخذه أبوه إلى القاهرة حيث أودعه في ملجأ تابع للجمعية الشرعية الإسلامية، والتحق في ذات الوقت بالأزهر حيث أكمل تجويد القرآن وكأن من خططوا له حياته كانوا يعدونه ليعمل مقرئا للقرآن الكريم، ومؤذنا في المساجد، كما عمل في الوقت نفسه في إحدى الجمعيات منشدا ومرتلا.
شغف الشيخ إمام عيسى بالغناء وهو طفل صغير، وفي مطلع شبابه تعرف علي الشيخ درويش الحريري الأستاذ العظيم لجيل العمالقة والذي كان معروفا بهوايته للموسيقي والغناء، وكان قد ورث عن أبيه ربعا كبيرا في حي الحسين، و جعله بمثابة بيت للمكفوفين الموهوبين، حيث كان يعلمهم تجويد القرآن، والعزف علي العود، وإنشاد الموشحات والتواشيح الدينية، وكان من حظ الشيخ إمام أن حظي بالانتماء إلى هذه المدرسة غير التقليدية، وخلال فترة قصيرة تعلم العزف على العود، وأتقنه، وأصبح منشدا للأذكار والتواشيح الدينية، وحفظ طائفة كبيرة من الموشحات، والطقاطيق، والأدوار القديمة.
وفي ذلك الوقت أعجب الشيخ إمام عيسى بتراث سيد درويش وبقدرته على التعبير الموسيقي عن الحياة، كما أتيح له أن يتعرف إلى الشيخ زكريا أحمد فأفاد منه مهارات كثيرة في علم الموسيقى والألحان والأنغام، كما تعرف علي الشيخ سيد مكاوي.
وفي النصف الثاني من الخمسينيات التحق الشيخ إمام ببطانة الشيخ عبد السميع بيومي، الذي كان أحد منشدي التواشيح الدينية في الإذاعة آنذاك، وسرعان ما أصبح في وضع يمكن وصفه بأنه: ملحن من الباطن للتواشيح التي كان الشيخ بيومي يذيعها باسمه في الإذاعة، وكان هذا تتويجا لحياته كواحد من الملحنين الذين بدأوا حياتهم الموسيقية بالتراتيل القرآنية، وإنشاد المدائح في الموالد، وفي حلقات وحضرات الذكر.
لكن التحول الكبير في حياته حدث عندما تعرف علي أحمد فؤاد نجم وكونا ثنائيا شهيرا، وظهرت أغانيهما السياسية بأشعار نجم وأداء إمام وألحانه، وعبرت أغانيهما عن روح حريصة على مقاومة الظلم والتمرد، ووصل صوتهما إلى العمال والفلاحين والطبقة الشعبية المغلوبة علي أمرها في عصر عبد الناصر الذي كان يقيد حرية التعبير إلى أبعد حد، وبالطبع فقد تعرض للسجن مرات هو والشاعر أحمد فؤاد نجم، فضلا عن التشرد والملاحقة الأمنية، لكن أصداء أغانيه وتسجيلاتها وصلت إلى أوروبا وبخاصة فرنسا كما وصلت إلى تونس، ولبنان وإلى سوريا، والجزائر والمغرب وأصبح اسمه وفنه معروفا علي نطاق واسع في البيئات السياسية الخارجة المهتمة بمصر.
وقد روي الشيخ إمام عيسى قصة هذا التحول في مذكراته فقال إن الشاعر أحمد فؤاد نجم لاحظ في أثناء استماعه لما كان يغنيه الشيخ إمام من ألحان سيد درويش وزكريا أحمد وغيرهما أنه كان يضيف إلى الألحان إضافات ذات طابع خاص، مما دفعه إلى سؤاله عن مبررات اقتصاره على الغناء دون التلحين، فلما اعتذر بأنه لا يجد كلاما يناسبه، قدم له نجم أول نص لحنه وهو قصيدة:
أنا أتوب عن حبك أنا أنا ليّ في بعدك غنا؟
وكانت هذه الأغنية بداية التعاون الفني بينهما، وهو التعاون الذي استمر حوالي ربع قرن.
وفي هذه الفترة كتب نجم عددا من القصائد لحنها إمام كان من بينها: «علي حسب وداد قلبي»، و«عصفور وصياد»، و«أبوك السقا مات»، و«الحمام القمري»، فضلا عن قصائد أخري كتبها الشاعر فؤاد قاعود، ومع أن بعض هذه الأشعار كان في ظاهره بعيدا عن تناول القضايا السياسية المباشرة، إلا أنها كانت تتميز ببصيرة اجتماعية نافذة، تجيد التعبير عن انتقاد ما صنعته السياسات الشمولية والناصرية من التناقضات الاجتماعية البارزة التي كانت تحفل بها الحياة المصرية مصر في تلك السنوات التي كانت توصف بأنها «سنوت التحول الاشتراكي».
ومما لا شك فيه أن حالة مصر السياسية بعد هزيمة 1967 كانت بمثابة الجو الأمثل الذي انتعشت فيه موهبة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، فقد كانت أجهزة الدولة تحت وطأة الهزيمة مضطرة إلى السماح بقدر ما من حرية التعبير والتفكير، كما كانت المواهب الإبداعية قد بدأت تضغط من أجل إثبات وجودها المتميز بعيدا عن توجهات الدولة الشمولية السائدة.
وقد حاولت بعض أجهزة الثورة في عهد عبد الناصر تدجين الرجلين من خلال محاولات شارك فيها محمد حسنين هيكل بنفسه، لكن الذكاء الفطري دفعهما إلى اتخاذ الجانب الأكثر قيمة وخلودا، رغم ما كان من حاجتهما الملحة إلى المال والعيش الكريم، وهكذا أثبتا في ذلك الوقت بما لا يقبل الشك نفاسة معدن الفنان الحقيقي.
وجاء عصر السادات ليقدم فرصة أكبر للشيخ إمام بما عرف على أنه سماح بل ترحيب بحرية التعبير وهو ما لا يقارن في مساحته بما كان قد أتيح في الفترة القصيرة التي سبقت عهد السادات منذ وقوع الهزيمة، وهكذا خرج أحمد فؤاد نجم وإمام عيسى إلى ما يشبه العلن، ووصل الحد إلى أن حضور ندواتهما الخاصة أصبح بمثابة شهادة علي استكمال مقومات المعيشة المثقفة الحقيقية في القاهرة العامرة ، والإلمام بالسياسة ودروبها، بل وعلى استكمال مقومات الرجولة نفسها ، وكان من الطبيعي أن تتضاءل القيمة السحرية لإسهامات الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم مع الزيادة المطردة في مساحة الحرية، ومع تحول المجتمع إلى نظام الأحزاب، والسماح التدريجي بحرية الصحافة، ومع هذا فقد بقي للرجلين سحرهما التاريخي، وإن انطفأت جذوة هذا السحر.
بيد أن ملاحقات الدولة العميقة للرجلين كانت تعود لتطل برأسها في فترات السعار ضد حرية التعبير، بما في ذلك حمى الأمن في 1981، وعلى حين توفي الشيخ إمام وهو رمز فقد عاش أحمد فؤاد نجم بعده عشرين عاما حتى دفعه تقدم السن إلى أن يسقط تماما في حضن الدولة العميقة بل وأن يتورط في صناعة وتأييد الانقلاب العسكري بطريقة فجة مباشرة لا تتناسب مع ما حفل به ماضيه مع الشيخ إمام من فن ووطنية ودعوة إلى الحرية.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا