من بديهيات السياسة التي علمها التاريخ للبشرية أن الدكتاتورية ليست حكرا على العسكريين، ولا حكرا على النُّظم العسكرية؛ فكم من نظام دكتاتوري يتبناه المدنيون أو الوطنيون أو القوميون أو المتدينون ويصنعونه، وكم من عهود وفترات ملَكية تسيطر عليها الدكتاتورية سيطرة كاملة.
بل إنه في كثير من هذه الأحيان تنجح الدكتاتوريات نجاحا بارزا لكن هذا النجاح يتطور بفعل الزمان (أو المكان)، وسرعان ما يتوقف أو يتحول أو يرتقي إلى الدستورية أو الديمقراطية نفسها.
ومن دهاء التاريخ الإنساني أن فترة ازدهار وصعود الانقلابات العسكرية العربية واكبت فترة الحرب الباردة، بما تضمنته من قطبية معروفة امتدت حتى منهاج الحكم؛ فأصبحت الديمقراطية منهجا سائدا في معسكر الغرب مقابل سيادة الدكتاتورية في معسكر الشرق.
وتطورت الأمور في هذا الاتجاه تطورا شبيها بما حدث من ازدواجية محددة في نظام قيادة المركبات الآلية، حيث تتحدد كل نظم المرور تبعا لموضع عجلة القيادة: هل هو إلى اليسار أم إلى اليمين، وبناء عليه تتحدد قواعد اتجاهات السير والدوران والتخطي.. إلخ.
ونحن نعرف أن بريطانيا لا تزال تستخدم ما يسمى النظام الأيسر وكذلك تفعل ماليزيا ودول قليلة العدد، لكن هذا -في نهاية الأمر- لا يغير من منهج صناعة السيارات، ولا من تكنولوجيا بناء الطرق إلا فيما يتعلق بالاتجاه فحسب.
هيأ التاريخ فرصة لاختلاف نهج الحكم في المعسكرين السياسيين الكبيرين اللذين وُجدا بعد انتهاء الحربالعالمية؛ فأصبح السوفيات والصينيون واليوغوسلاف وما عُرف بأنه دول حلف وارسو يفضلون -مع انتهاجهم للشيوعية- أن يأخذوا بنظام الحزب الواحد، والدكتاتورية أيا ما كان مسماها (تأمّل مغزى مصطلح الدكتاتورية البروليتارية مثلا).
وجاءت الانقلابات العسكرية العربية -وفي الذروة منها تجربة جمال عبد الناصر اللامعة في مصر- فآثرت منذ شهورها الأولى أن تأخذ بمنهج الدكتاتورية، ولم يكن دافعها في هذا الاختيار دافعا فكريا ولا اجتماعيا، كما أنه لم يكن استحضارا لتجارب الدكتاتوريات التي كانت ناجحة وبراقة في ذلك الوقت، وعلى رأسها تجربة ستالين.
ولم يكن هذا الإيثار أيضا نتيجة لإيمان بعض النخب العربية في وقت من الأوقات بأن حال الشرق لن ينصلح إلا بمستبدّ عادل؛ كانت كل هذه التأثيرات والإيحاءات موجودة في الذهن وفي المناقشات، لكنها لم تكن السبب الحاسم والمباشر في الاندفاع نحو الدكتاتورية بأقصى سرعة على نحو ما حدث.
وإنما كان العامل الحاسم (غير المعروف بالقدر الكافي حتى الآن) هو تصميم الولايات المتحدة الأميركية على عدم عودة حزب الوفدبالانتخابات، وكانت هذه نتيجة محسومة. وهو ما نراه واضحا كل الوضوح فيما كان جمال عبد الناصر يدلي به في ساعات الصفاء لخالد محيي الدين.
في لغة الفلسفة السياسية لا يمكن القول بأن هناك مفارقة سياسية في حرص الولايات المتحدة على انتهاجها للديمقراطية في وطنها، وحرصها -في ذات الوقت- على منع الآخرين من الاستمتاع بهذه الممارسة ومكتسباتها؛ بل ربما كان هذا المنطق هو الأقرب للطبيعة الإنسانية المتسلطة التي تخص من يعتقدون أنهم هم السادة بطعام تحرم منه العبيد، وتجعل للعبيد طعاما تجعل السادة يأنفون منه بحكم طبقيتهم.
حتى ولو أن قوانين البيولوجيا وعلوم التغذية والفسيولوجيا حكمت بوجود مزايا في الطعام والكساء الذي فرضته الطبقية البغيضة على الفقراء، وأبعدته عن الأغنياء بطرق التأفف؛ وذلك من قبيل ما حدث فعلا مع الخبز الأسمر والعسل الأسود ومنتجات الشعير والأذرة، ومستخلصات القشور والنسيج غير المصبوغ.. إلخ.
في لغة التفكير في استشراف تحقيق نجاح يعبر عن النهضة السياسية كانت الدكتاتورية كفيلة بتحقيق إنجازات حقيقية ليس فيها شك، لكن المفاجأة الساخرة جاءت من اعتماد الدكتاتوريات العسكرية العربية (وفي مقدمتها الناصرية) على إثبات قدرتها عبر نجاحاتها الفائقة في حجب الانتقادات، ومن ثم في مبالغاتها في تصوير نجاحات وهمية أو بالأحرى كاذبة وربما غير موجودة من الأساس.
مع مضي السنوات كانت الناصرية والعسكريون العرب -المكررون لتجربتها مع شيء من التجويد والتحديث والتوكيد والصقل- يزدادون إيمانا بأفضلية الدكتاتورية على الديمقراطية، ويزدادون يقينا بأنهم كانوا محظوظين باستهداء وتكرار الأنماط البارزة في تجربة المعسكر الشرقي والنسج على منوالها.
بل إنهم ذهبوا بخطوات أوسع في سبيل تعزيز الانتماء الفكري والأيديولوجي إلى هذا المعسكر، بل إنهم اعتبروا أن هذا التوجه هو التقدمية، وأن النكوص عن هذا الطريق في أي لحظة هو الرجعية. ومن المؤسف أن مناهج التعليم في ذلك العصر تشبعت بهذه الأفكار، ولا نزال نعاني من آثار هذا التشبع أو التسمم.
ومع ما كان يتمتع به أغلب هؤلاء العسكريين العرب من ضعف في الثقافة الحضارية والعلمية؛ فقد تطورت بعض عقائدهم تطورا انتكاسيا جعلهم يعتبرون الإسلام نفسه مرادفا للرجعية، وكان من الطبيعي في هذه الظروف أن تجدهم يسابقون الزمن إلى وثنية جديدة، لا تقف عند عبادة الفرد وإنما تمتد لتعلي من قدْر الخرافات والخزعبلات فتجعلها بمثابة قوة محركة لكل أمنية قومية أو وطنية.
ومن الواضح لكل دارس للتاريخ المعاصر أن الدكتاتوريات العسكرية العربية مضت في سبيلها حتى تخطت حدود الفكرة الدكتاتورية نفسها؛ فلم تعد الفكرة الدكتاتورية وسيلة للإنجاز السريع أو للحل الحاسم وإنما أصبحت غاية في حد ذاتها.
ومن العجيب أن مقدمات الانقلاب العسكري المصري لم تمانع في أن تظهر -وبصوت عالٍ- حنينا إلى الزمن الجميل، وهو الحنين الذي كان يقود تلقائيا إلى التوحد مع شخص، أي زعيم يُستحضر لحظيا أو مرحليا لأداء دور الزعامة والتوحد أيضا مع المؤسسة العسكرية، التي هي -حسب تعبيراتهم المخاتلة- المؤسسة الوحيدة الناجحة والقادرة والمالكة.
في صعيد آخر؛ فإن المراجعات والدراسات -منذ منتصف ستينيات القرن الماضي- سرعان ما اكتشفت في الدكتاتوريات العسكرية باقة من عناصر الفشل المميت أو القاتل، ترتبط في أصولها المسببة بالعسكرتاريا العربية بقدر أكبر من ارتباطها بالنهج الدكتاتوري نفسه؛ وقد جاء هذا الارتباط نتيجة لما تعانيه العسكرتاريا العربية نفسها من عيوب بنيوية وتاريخية أساسية.
وأول هذه العيوب هو رفض الدكتاتور -وهو رفض فطري أو غريزي إذا أردنا اللفظ الأدق- لأي قدر من النجومية يستحوذ عليه غيره، وخاصة أنماط النجومية اللامعة الصاعقة التي يحققها الرياضيون ولاعبو الكرة، حين تتاح لهم النجومية وهم لا يزالون في أوائل العشرينيات من أعمارهم، وكذلك النجومية التي تحققها الوجوه الفنية الجديدة وهم في أواخر العشرينيات.
يستيقظ الدكتاتور ذات صباح فيجد من لم يكن له أي ذكر بالأمس وقد أصبحت أخباره وصوره سابقة على الدكتاتور نفسه، فيرى في الأمر تجاوزا خطرا لسلطته المعنوية التي بناها بالقهر والقتل والحرق عبر شهور وسنوات، ويرى شهرة النجم الجديد وكأنها لا محل لها من الإعراب، ومن ثم يبدأ إجراءاته ومؤامراته الخفية المؤدية بكل قسوة إلى إطفاء نجومية غيره، بل وربما إلى تحويل أي نجم صاعد إلى مجرم مستحق للقتل (المعنوي على الأقل).
يحدث هذا بينما أن أركان الحضارة من الرياضة والفن ومن قبلهما العلم والأدب -وهي عناصر النهضة الموحية والملهمة- لا يمكن أن تشاد بدون النجوم، حتى إنه ليمكن النظر إلى تاريخ الحضارة على أنه تاريخ للنجوم.
ثاني هذه العيوب هو حرص طبقة المتنفذين الجديدة -وهو حرص بشري مفهوم الدوافع- على إقصاء الناجحين، بل واستئصالهم بكل المبررات المعروفة؛ ومن ثم يكون صعود الأقل كفاءة وإنجازا وقيمة.
ثالث هذه العيوب هو إدمان الفشل بسبب غياب مؤسسات النجاح المهني الحقيقية، والحرص على وجود مؤسسات شكلانية الطابع والأداء كبديل لها، وذلك من قبيل الأكاديميات المظهرية المحكومة بالانضباط المظهري فحسب.
رابع هذه العوامل أن النجاح الحضاري نفسه لا يصب في مصلحة الدكتاتورية، لأنه يخلق توازنات جديدة لم تتحسب لها بنية الدكتاتورية، ومن ثم فإن هذا النجاح الحضاري -حتى ولو كان مستعارا من الخارج بكلياته وجزئياته- قادر على أن يغير قواعد اللعبة السياسية، على نحو ما تظن الثورات المضادة أنه قد حدث في ثورات الربيع العربي -ولا يزال يحدث فيها- رغم طغيان وجبروت مسارات الثروة المضادة.
خامس هذه العوامل أن الدكتاتوريات العسكرية تحرص بطبيعتها على أن تولي عناية بالمظهر المنضبط على حساب سلامة الجوهر، بل إنها تعتمد في صورتها على الاستعراضات بدلا من الإنجازات، وعلى الترديد بدلا من الإيمان، وعلى التلقين بدلا من الإقناع، وعلى الزهوة بدلا من الفكرة.
سادس هذه العوامل أن الدكتاتوريات العسكرية العربية وصلت بنفسها وبممارساتها إلى أهم اكتشاف سياسي عربي، وهو أن الفشل يضمن استمراريتها؛ على حين أن النجاح يهدد بتقليص دورها.
ومن ثم فإن هزيمة 1967 مكنت الدكتاتورية من دعم وجود النظام واستمراره ليزيل آثار العدوان، على حين أن النصر لم يكن ليفعل هذا. وقد كانت النتيجة الطبيعية لهذا الاكتشاف هي أن ازدهرت -في أوساط طبقة المتنفذين العليا في الدكتاتوريات العسكرية- فكرة خبيثة، وهي فكرة التحذير من المشكلات المترتبة على حل المشكلات المزمنة، واللجوء إلى تصوير المشكلات المزمنة بوصفها جزءا من الاستقرار المحقق لسلامة المجتمع الدكتاتوري نفسه.
ولست أذيع سرا إذا قلت إننا في الطب والهندسة -على حد سواء- نحترم -ونحن مضطرون وبقدر هو في الغالب محدود- المنطقَ النفعي أو البراغماتي في مثل هذا التفكير الخاطئ.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا