تتجلى في حالة الحكم على نصر أكتوبر 1973 أزمة من أخطر أزمات العقل العربي المعاصر تتمثل في ركونه السريع إلى الدفاع بالباطل عن تشخيص خاطئ أملا في أن يبني على هذا الدفاع نتائج تبرر اليأس أو التخوين أو الانحياز. يتضمن عنوان هذه المدونة خمسة احتمالات يعرف القارئ أي قارئ بعض أنصار كل احتمال منها، ولكل قارئ احترامه منا، لكن الذي نريده من حديثنا في هذه المقالة هو محاولة لفت النظر إلى أنه من المستحسن لسلامة أعصاب القراء أن يستقر الواحد منهم على تشخيص واحد لا أن يتنقل هنا وهناك بين الاحتمالات الأربعة المدينة للسادات ولنصره لمجرد كره السادات أو النصر الذي تحقق على يديه.
في هذا المقام أعترف بأن الأجيال الجديدة كلها لا تعرف حقيقة حال العرب قبل 6 أكتوبر 1973 ولن أفيض في تصوير ذلك الحال مكتفيا بفقرة تجيد تصويره سأنقلها للقارئ بعد قليل. أما في البداية فإننا ببساطة شديدة نمتلك (أو نقدم للقارئ) نصا سحريا في التدليل على حجم نصر أكتوبر يتمثل في تصوير أمين هويدي لنتائج لقاء السادات وكسينجر وهذا التصوير أيا ما كانت درجة صدقيته وصدقية تحليله هو أكبر دليل علي تعاظم حجم الانتصار الذي حققه أنور السادات في حرب أكتوبر 1973 مع احترامنا بالطبع للدرجة التي يصور بها هويدي هذه المكاسب على أنها مسروقات لكسينجر من السادات.
وردت هذه الفقرة التي كتبها هويدي ضمن مقدمته المصطنعة للطبعة العربية من كتاب “حرب يوم كيبور.. لا غالب ولا مغلوب” الذي ألفه أدجار أوبلانس الضابط السابق في الجيش البريطاني ونشره في نهاية السبعينيات بعنوان (حرب يوم كيبور.. لا غالب ولا مغلوب) وقد صدرت الترجمة العربية للأستاذ سامي الرزاز عن دار سينا عام بعنوان قريب من الأصل 1988.
يقول الاستاذ أمين هويدي: “وصل هنري كيسنجر القاهرة يوم 6 نوفمبر 1973 ثم قابله السادات في العاشرة من صباح يوم 7 نوفمبر وكان معه جوزيف سيسكو وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لمدة ثلاث ساعات خرج بعدها كيسنجر ليعلن انه يعتبر هذه الجلسة إحدى إنجازاته الدبلوماسية الفذة، اذ حققت تحولا رئيسيا في سياسة مصر الخارجية وبالتالي في التوجه العام للمنطقة كلها.. وله الحق في ذلك اذ ان في جلسة واحدة مع السادات لم تستمر أكثر من ثلاث ساعات حقق الآتي رغما عن أن العدو لم ينسحب شبرا واحدا من الأماكن التي استولي عليها:
– الاتفاق على سياسة مشتركة بين الولايات المتحدة ومصر وأصبح هناك اتفاق استراتيجي بين البلدين.
– أعاد العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وواشنطن بعد أن كانت مقطوعة فيما كانت أغلب الدول العربية والأفريقية ما زالت تقطع علاقاتها معها رسميا.
– موافقة مصر على النقاط الست في مباحثات الكيلو 101 طريق السويس وبذلك شق الصف العربي.
– التفاوض المباشر بين مصر وإسرائيل.
– إنهاء الحصار على باب المندب.
– الاتفاق على إنهاء حظر البترول العربي.
كل ذلك حصل عليه كيسنجر في مقابل وعد بمحاولة فك الاشتباك بين الأطراف المتصارعة، وفي زيارته الثانية حقق إعادة فتح قناة السويس مع السماح للبضائع الإسرائيلية بالمرور في القناة، وتعمير مدن القناة، وإعادة المهجرين، وموافقة مصر على عدم اللجوء إلى القوة لإنهاء الخلافات، والتواجد العسكري الأمريكي في سيناء …. إلخ.” انتهت فقرة الأستاذ هويدي، وهذه ثانيا هي الفقرة التي عبرت بها عن مدى الإحساس بالنصر، قبل عشرين عاما من الآن وبعد ربع قرن من تحقيقه، وهي الفقرة التي سجلها قلمي في بداية كتابي “النصر الوحيد”:
“من نعم الله الكثيرة علىّ أن هيأ لي من يتفضلون علىّ بقراءة التجارب المطبعية لكتبي قبل إصدارها، وقد حظى مخطوط الكتاب الذى بين أيدينا بقراءة الناشر والمصحح وصديق عزيز، وزميل طبيب، ومن الطريف أن جميعهم بلا استثناء ومن قبلهم مَنْ قاموا بصف حروف هذا الكتاب، نبهوني إلى خطأ لم يكن خطأ، ورأوا جميعاً صواباً له لم يكن صواباً.. أما هذا الموضع الذي احتمل هذه الرؤية فهو ما يرويه قادة حرب أكتوبر من أن الرئيس السادات في حديثه إليهم قبل الحرب طلب منهم الانطلاق إلى الحرب وبذل جهدهم حتى لو لم يكن في إمكانهم بما في أيدينا من قدرات إلا تحرير عشرة سنتيمترات فقط من سيناء!
وقد رأى جميع مَنْ قرأوا تجارب هذا الكتاب أن يصححوا لي تمييز العدد وظنوا أن صواب الرواية: عشرة كيلومترات، ولم يكتفوا بأن يسجلوا هذا على البروفة المطبعية، ولكنهم جميعاً رأوا أن يحدثونني في هذا الخطأ الفظيع بمجرد اكتشافهم له، وقد تكرر هذا بحذافيره مع الأربعة.. ومن المذهل أن تمييز العدد لم يكن خطأ وإنما كان بالفعل عشرة سنتيمترات! ولم يتحدث الرئيس السادات عن كيلومترات ولا حتى عن أمتار أو باردات.. وأظن أن هذه القصة الطريفة وحدها تبين لنا بكل وضوح كم كانت المعركة التي خضناها في أكتوبر 1973 صعبة ومستحيلة، وكم كان انتصارنا فيها رائعاً ومذهلاً.
ومع هذا فلا يزال هذا النصر الوحيد المجيد الساحق يتعرض لافتراءات لا نهاية لها، وأغلب هذه الافتراءات توجه للنصر لأن الذي حققه هو السادات، وبلغ الافتراء حد الفصل بين القائد والنصر، وبين الرئيس والجيش، وبين القرار وما تحقق نتيجة للقرار.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا